في حديثه الاخير على شاشة «الجزيرة» اكد محمد حسنين هيكل ما كنت قد اشرت له في مقال سابق من رواية هامة حول ليلة سقوط بغداد‚

كنت قد ذكرت نقلا عن مصادر ذات اتصالات واسعة بما جرى- ان قصة الخيانة ليست هي القصة الحقيقية او الرئيسية وان سقوط بغداد كان بفعل فاعل عراقي رأى ان بغداد سوف تدمر بعدما جرت «بروفة» لذلك في معركة المطار وان القرار الصحيح ليس الاستسلام وليس مواصلة الحرب وانما الاختفاء والانتشار ثم اعادة الكرة في وقت لاحق!‚‚ اي انها الحرب المؤجلة والممتدة ان شئنا‚

وطبقا لهذه الرواية التي ان تأكدت او جرى توثيقها- فانه يصبح واضحا ا ن توقف الحرب على طريقة «السكتة القلبية» رغم ما احاط بها من دعاية اميركية شملت قصة التمثال وما احاط بها من تسريبات شملت قصة الخيانة في صفوف الحرس الجمهوري‚‚‚ يصبح واضحا ان ذلك التوقف في الحرب كان متعمدا وكان خاضعا لتعليمات من المرجح ان يكون صدام حسين هو صاحبه «انتشروا» هذه هي كلمة السر موجهة لنحو نصف مليون مقاتل وموجهة ايضا للاسلحة والذخائر عدا ما يتعذر اخفاؤه مثل الطائرات‚

وفي حديثه الاخير جاء كلام محمد حسنين هيكل موثقا وان لم تكن القصة كاملة‚

يقول هيكل انه والاخضر الابراهيمي قد اطلعا على رسالة كتبها الدبلوماسي العراقي السابق نزار حمدون والذي كان ضمن قلائل يلتقون صدام ويتحدثون معه بصراحة وتروي الرسالة حوارا بين صدام ونزار قبيل الحرب مباشرة يقول فيه صدام: «الغزو سوف يحدث لكن الحرب الحقيقية او القتال الحقيقي- سوف يكون بعد ذلك فانا اعرف الشعب العراقي واميركا لا تعرفه»‚

والحديث هنا يعني:

اولا: ان الغزو قادم ولا مفر منه‚

ثانيا: ان القوة العراقية لا تستطيع الصمود حتى النهاية لتحول دون وقوع الاحتلال‚

ثالثا: ان حربا حقيقية او قتالا حقيقيا سوف يعقب ذلك فهذه هي طبيعة الشعب العراقي الذي خاض معارك كثيرة وبشراسة واضحة‚

هكذا كانت كلمات صدام التي جاءت موثقة هذه المرة خلال كلمات هيكل- فهل كان صدام يقدم رؤية ام يقدم خطة ويكون الاستنتاج صحيحا وهو ان نقطة التحول في الحرب لم تكن الخيانة ولكن كلمة «انتشروا ثم عودوا»؟

واظن ان الفارق كبير بين الامرين بين ان يكون سقوط بغداد نتيجة تآمر واتفاق مع بعض الجنرالات وبين ان يكون ذلك ترتيبا نشهد نتائجه الآن على الارض‚

في الحالة الاولى حالة الخيانة او التآمر او الاتفاق السري مع الولايات المتحدة فانه يعني ان واشنطن وفي الضربة الاولى قد كسبت حربين: حرب احتلال الارض والحرب النفسية فها هو رئيس البلاد قد هرب وها هم جنرالاته وقد خانوا الوطن وقدموه للمحتل على طبق من فضة!

وفي هذه الحالة ايضا يصبح ما جرى بعد ذلك من اعمال مقاومة في الشمال والوسط والجنوب في الفلوجة والموصل والبصرة يصبح كل ذلك شيئا مستجدا ومتناثرا وغير خاضع- على الارجح- لخطة مرسومة وان كان قابلا للنمو اما في الحالة الثانية وهو ان امرا قد صدر بإيقاف القتال من جانب واحد هو الجانب العراقي وان ذلك الامر كان يعني اختفاء الافراد والاسلحة ليتم استئناف الحرب بعد ذلك في هذه الحالة يختلف الامر‚ فهي اذن وعلى هذا النحو حرب معلقة لم يتم حسمها رغم ما بدا من مشهد درامي تابعه العالم على شاشات التليفزيون حين اختفى وزير اعلام الحرب ثم اختفى الجنود ثم اختفى التمثال ثم ارتفع العلم الاميركي!

كان المشهد دراميا مما دعا بوش بعد ايام قليلة منه ان يعلن «انتهاء الحرب وتوقف العمليات العسكرية» ولكن لان الحرب لم تنته ولانها تمتد حتى يومنا هذا فنحن امام هذه القصة المرجحة التي اشارت لها رسالة نزار حمدون وقدمها هيكل لاول مرة‚

نعم‚‚ الحرب لم تنته لحظة الغزو والحرب الممتدة حتى الآن وطبقا لرواية ان تعليمات قد صدرت يوم 9 ابريل- حرب نصف نظامية قوامها الجيش العراقي والحرس الجمهوري وفدائيو صدام فهؤلاء الذين بلغ عددهم نحو نصف مليون فرد خرجت الغالبية العظمى منهم سالمين لم يفقدوا غير السترة الصفراء التي تخلوا عنها طواعية‚

كذلك فان ترسانة الاسلحة الضخمة ظلت قائمة في جزء كبير‚ فلم نعرف ان جيش الغزاة قد استولى على الكثير او دمر الكثير مما كان في المخازن العراقية صحيح ان سلاح الطيران قد تم التخلص منه ولكن ماذا عن المدرعات والمدافع والصواريخ والذخائر لقد اختفت كلها ولايبن منها الآن غير ما يتم استخدامه في معارك ضد العدو‚

الاكثر ان الجيش العراقي- المنتشر والمتخفي والذي اخذ بالتأكيد اشكالا تنظيمية مختلفة ولا مركزية‚ هذا الجيش مازال يحتفظ بوسائل تطوير وتصنيع اسلحته في حدود المهام المنوطة به الآن وهي: الحرب الشعبية التي تستخدم اسلحة تتخطى ما نسميه اسلحة فردية انهم يملكون الصواريخ ومضادات الطائرات والدبابات وهم يوقعون بجيش العدو الكثير من الخسائر والتي قد تكون في جانبها المادي اكثر من جانبها البشري‚

الجيش هو عماد المقاومة وهو امر لا ينفي ما يتردد من ان هناك ستين تنظيما او نحو ذلك فهؤلاء رجال مدربون وليسوا هواة متطوعين وهؤلاء لديهم:

1- القدرة على الاختراق والقيام بعمليات استخباراتية يعرفون من خلالها تحركات واسرار العدو حتى ان كبار القادة مثل بريمر وجون ابي زيد كادوا يقعون في الشباك لولا الصدفة‚

2- القدرة على وضع خطط حربية خالصة تختلف في نوعياتها عما تقدمه عناصرفدائية استشهادية لا تملك غير حزام ناسف يودي بحياتها وقد يودي بحياة الاخرين بل انها تختلف عما يقدمه البعض من سيارات مفخخة على طراز الحرب اللبنانية‚

3- القدرة على المواجهة والقتال والاحتفاظ بالمواقع الحصينة هكذا فاننا امام جيش كان نظاميا ومازال على قدر من نظامه وان كان الارجح ان مركزيته قد انتهت بسبب الظروف التي يعمل فيها‚

لا ينفي ذلك- كما قلت- وجود تنظيمات غير منتمية للجيش السابق فنشوء حركة مقاومة او حركة تحرير شعبية امر منطقي ووارد بل هو قرين كل احتلال‚

ايضا فانه لا ينفي وجود عناصر متطوعة وافدة من خارج الحدود بدافع قومي او اسلامي وهو ما يتم التركيز عليه من جانب المحتلين ومن جانب الحكومة العراقية ورغم ان ما ينسب لهذه الجماعات من اعتبارها الفاعل الرئيسي رغم ذلك فان الحقيقة اكثر تواضعا ودور هذه المجموعات هامشي على الارجح وامكانية تسليحها دون ما هو متاح لقوات نظامية سابقة فهم يعبرون الحدود باقل قدر من التسليح وهم يباشرون عملياتهم- على الارجح- بقدر محدود من التدريب وربما يكون وجودهم رمزيا وتضامنا اكثر منه مقاومة كبيرة‚

ايضا فان ما نشير له من دور مستمر للجيش العراقي السابق الذي صدرت له الاوامر- كما نظن- بالاختفاء والانتشار لا يتعارض مع وجود ميليشيات شعبية معلنة وغير تابعة للجيش مثلما هو الحال مع جيش مقتدى الصدر‚

المهم‚ وفي المشهد العراقي فان الخط متصل بين ثلاثة امور:

ـــ الاول: ان قرارا بالاختفاء يوم 9 ابريل 2003 قد صدر‚

ـــ الثاني: ان القرار قد تم تنفيذه ووحدات كثيرة من الجيش قد عادت للعمل بالشكل الذي نراه الآن‚ وبتمويل لم يتم الكشف عنه‚

ـــ الثالث: ان الحرب على هذا النحو وكما اشار حديث صدام حسين لنزار حمدون حرب ممتدة وخطة ناجحة ومستمرة تعيد للشعب العراقي ولجيشه السابق كرامته فليس اسوأ من ان يقال «لقد هرب الزعيم وخان الجنرالات واصبح الجيش هباء منثورا»‚

طبقا للرواية الاخيرة لنزار حمدون يصبح تصديق ان كل شيء مدبر ويسير في اتجاهه الصحيح يصبح ذلك امرا صحيحا بل انه يفسر لنا ما يجري الان على الساحة‚

لقد حاول الاحتلال وقبل قرار مجلس الامن بشأن العراق ان يعيد ترتيب الاوراق بتصفية اي مقاومة مسلحة وأعلن أوامره بنزع السلاح وضرورة تسليم كل الافراد لما يمتلكون لكن ذلك لم ينجح‚

بعدها وحين صدر قرار مجلس الامن واصبحت للاحتلال صفة جديدة «وهو انه حليف الحكومة» استمرت خطة قصف البنادق واخماد اي قوة عراقية وبالغ رئيس الحكومة العراقية الجديدة في التعبير عن عزمه على القضاء على المقاومة متهما اياها بانها عناصر وافدة مخربة وكانت رحلته الاخيرة لدول الجوار «برجاء تحصين الحدود وسد المنافذ»‚

وهكذا تشهد بغداد الآن خطين للمستقبل:

خط التسوية السياسية الذي يقبل الوجود الاجنبي ويتبعه وخط المقاومة الذي يرفض اي وجود اجنبي ويرى انه لا شرعية لاي كيان سياسي يقوم في ظل الوجود الاجنبي وبوحي وترتيب منه‚

مرة اخرى نطرح السؤال هل كان صدام حسين في حديثه مع نزار حمدون يعبر عن رؤية او يعبر عن خطة؟ اظن ان الاحتمال الاخير هو الارجح وفي انتظار حلقات هيكل القادمة ربما تزيدنا ايضاحا‚