إذا كانت كل الفضائيات العربية متشابهة في الشكل والمضمون، وأشكال المذيعات وابتسامات المذيعين، وفي المسموح والممنوع وفي الخطوط الحمراء .وغير الحمراء، فلماذا هذا الحرص العجيب من قبل المواطن العربي على اقتناء أحدث الصحون اللاقطة أو الدشات، والحصول على أكبر تشكيلة من القنوات الفضائية؟

في دول العالم المتقدم يعتبر امتلاك الإنسان لأعداد معينة من اجهزة التلفزيون، وحصوله على صحن الالتقاط وعدد القنوات التي يشاهدها، مؤشرات مهمة على المستوى الاقتصادي للفرد، وعلى درجة الوعي والثقافة ومساحة الحرية، أما في دولنا العربية فالأمر لا علاقة له بذلك كله.

فالتلفزيون الملون والدش موجود لدى أفقر فلاح في قرانا العربية النائية، حيث الفقر المدقع، والأمية والأمراض ثالوث عربي مقيم، هناك يدمن الإنسان الفقير المنسحب من شئون الحياة الكبرى، على متابعة مآسي الفلسطينيين، ومجازر العراقيين، ومؤتمرات أصحاب الفخامة من رؤساء الجمهوريات العربية الديمقراطية!

مع ذلك، فالفلاح الفقير والعربي البسيط في المدينة المكتظة بتناقضاتها، والمثقف وغير المثقف، جميعهم مصرون على امتلاك أكبر عدد من القنوات الفضائية حتى لا تفوتهم التغطيات الكبرى للأحداث الخطيرة، والسؤال: ما الذي يمكن أن يفوتنا يا ترى؟

الفضائيات العربية تذكر بفيلم فاتن حمامة الشهير «أفواه وأرانب»، فهي تتوالد بشكل هستيري، كل يوم محطة جديدة، ومحطاتنا مثلنا، فنحن أناس لا توسط عندنا، مع اننا نتباهى بأننا أمة الوسط، محطاتنا تتوالد باتجاهين: المناظرات السياسية الغوغائية، وأغاني الفيديو كليب التي هي عري كليب بصريح الصورة والعبارة!

وما بينهما مسافة ضائعة، فلا شباب، ولا صحة، ولا أطفال، ولا توعية حياتية، ولا تعليم، ولا اختراعات واكتشافات، ولا هوايات ولا أي شيء، سياسة وفيديو كليب وقليل من الرياضة وكفى، هذا ما يحتاجه المواطن العربي من قبل صناع الإعلام.. الإعلام الذي صار أفيون الشعوب بلا منازع!

لا بيت بدون دش وكم مئة قناة، وإلا فهو بيت متخلف وأهله لا يعايشون الزمن، وعليه فقد صرنا نشاهد قنوات أكثر، ونسمع أخباراً طوال الوقت، ونستمع إلى صياح المثقفين العرب وهم يتحاورون في شئون العالم السياسية ـ باستثناء شئونهم طبعاً ـ صرنا مكلفين رسمياً وواقعياً بحضور المؤتمرات الصحافية لسادة البيت الأبيض، ورؤساء الاتحاد الاوروبي، وأبطال السينما والرياضة والفن، مع ان أكبر سياسي وأعتى مثقف في دول العالم المتقدم لا يحضر ولا يتابع 5% مما نتابعه نحن، ولكنه أكثر تحضراً ورفاهية وديمقراطية منّا، كما انه يحصل على أفضل أنواع التعليم والصحة ومستويات المعيشة، والأهم أعلى معدل لتدفق وحرية المعلومات، وطبعاً حرية التعبير والرأي!

أما نحن فقد صرنا أكثر تشوشاً واحباطاً على المستوى الفردي والجماهيري، لكثرة ما نرى ونتابع، كنا نتابع نشرة أخبار واحدة لمدة نصف ساعة، فصارت خمساً أو سبع نشرات مليئة بالجثث والدماء العربية والاعتداءات والهزائم والصمت.. كانت النشرة هادئة بلا مراسلين وبلا ضيوف عبر الأقمار الصناعية يزيدوننا هماً على هم بتحليلاتهم، ومع ذلك فنحن نبحث كل يوم ونسأل كل لحظة فيما إذا كانت هناك محطة أو قناة جديدة فتحت دون علمنا!

عن ماذا نبحث يا ترى؟ ما الذي نفتقده حقيقة وتعوضه لنا الفضائيات العربية.. هذا إذا كانت تعوضه فعلاً؟ هل نبحث عن الحرية، هذه الفضيلة المحرمة الممنوعة في الفضاء العربي عبر قرون من القمع والجهل؟ ربما نبحث عن الحرية.. ربما!!