بحسب النظرية المعمول بها سورياً، تتم معالجة التغيير بالجمود. فما دام الخارج قد تكشّف عن مؤامرة، وتحرك باتجاهها، تمت ملاقاة المؤامرة بالوقوف في المكان نفسه. وهي نظرية خاطئة علمياً ومنطقياً وسياسياً، بقدر ما هي خاطئة عسكرياً. ولو لم يكن العماد مصطفى طلاس قد تقاعد، لكان من السهل اتهامه بهذه النظرية. بيد أن الأمر يتعدى شخصاً بعينه على ما يبدو، ليطال طريقة في التفكير والتصرف.

لكن تلك النظرية ليست حكراً على البعث السوري بطبيعة الحال. فقد كان أحد أساتذتها البارزين في القرن العشرين ليونيد بريجنيف الذي قيل إن الاتحاد السوفياتي والماركسية، سواء بسواء، تخشّبا على يده. ذاك أن الزعيم السوفياتي الراحل ردّ على مستجدات الستينات بالتراجع عن إصلاحية خروتشوف، معتقداً أنه يهزم «الهجمة الامبريالية» بالإمعان في… التحجّر. وسريعاً ما ظهرت النتائج.

فبريجنيف الذي آل على نفسه، منذ 1964، بعث ما أمكنه من الستالينية، انتهى به الأمر في 1977 رئيساً للدولة وأميناً عاماً للحزب و«ماريشالاً للاتحاد السوفياتي». هكذا، وعلى الأقل إسمياً، تم للمرة الأولى تجاوز ستالين في تجميع المسؤوليات والصلاحيات بيد واحدة. ولئن تطور في عهده صرح عسكري جبار، الا ان وجهه الآخر كان نقصاً فادحاً في الانفاق على الزراعة وصناعات المواد الاستهلاكية والخدمات الصحية التي راحت، نتيجة ذلك كله، تتردى. وفيما توسعت جيوب الفساد، في الذروة كما في المراتب الحزبية والادارية الوسطى والدنيا، تدهورت مستويات معيشة السوفيات بصورة ملحوظة.

وجاءت السياسات المتصلبة التي اتبعها بريجنيف في سنواته الأخيرة، في أفغانستان وبولندا، لتعكس مآزق داخلية متعاظمة في عدادها تفاقم ظاهرة الانشقاق. وإذ رفض مجلس الشيوخ الأميركي التصديق على «سالت 2»، التي كان توصل اليها مع كارتر قبيل غزو أفغانستان، أحس الكرملين بأنه مُحاصَر هنا أيضاً: فسياسة «الوفاق» باتت تسمح بتسليط الضوء على المنشقين وقضاياهم، أما توقيع موسكو اتفاقية هلسنكي عام 1975 فسهّل انكشاف ما كان مُخبّـأً وراء الستار الحديد بقدر ما برّر إذاعته وترويجه.

وبالفعل، قبل ان يرحل بريجنيف عن دنيانا في 1982، تاركاً الكرملين في عهدة مسنّين راحوا يتعاقبون على الحكم والموت الطبيعي، ضخّم معسكرات الاعتقال وسمّنها بآلاف المساجين. والى تنامي الاضطهاد بذاته، سلّطت الحكومات ووسائل الاعلام ودور النشر في الغرب كل ضوء ممكن على مأساة المنشقين، وفي عدادهم ألمع أفراد النخبة الروسية.

بطبيعة الحال، ليس الرئيس بشار الأسد كهلاً كبريجنيف، لكن النظام الذي ورثه كهل جداً. فـ41 عاماً في السلطة تساوي فترتي حكم ستالين وخروتشوف، كما تزيد خمس سنوات على ضعف المدة التي قضاها بريجنيف في الكرملين. وهذا كثير جداً. وفي وسع النظام والايديولوجيا الكهلين أن يكهّلا الرئيس «الشاب»، وأن يمدّا عدوى الكهولة الى الجار اللبناني (بولندا السوفياتية؟). يكفي التدقيق في الأوصاف التي أطلقها الزعيم الدرزي وليد جنبلاط على وضع لبنان الراهن للتأكد من ذلك.

وهذا النهج البريجنيفي - البعثي يمكن تأويله بواحدة من طريقتين: فإما أن الماضي كان ممتازاً، ولا بد تالياً من التمسك به كائناً ما كان المستجدّ اللائح في الأفق. وإما أننا لا نملك سوى الماضي رداً على الجديد. والإحتمالان يتنافسان سوءاً ورداءة، لكن أياً منهما يضع صاحبه في مقابل طبيعة الأشياء، على ما وضعت سورية نفسها، هي الباحثة عن الحلفاء في وجه اسرائيل، في مواجهة العالم كله.

لكن ما يستدعي الكثير من التفكير والتأمل، والخوف مما نصنعه بأيدينا، أن إمبراطورية إيديولوجية في وزن الاتحاد السوفياتي أمكن أن تتغير، فيما الذين يملكون «ورقة» الصراع العربي - الاسرائيلي لا يتغيرون!