الرئاسة اللبنانية إحدى أيقونتين «مقدستين» يحتفظ بهما موارنة لبنان. الأيقونة الثانية هي، لا شك، البطريركية المارونية ذات الثقل الطائفي والسياسي. ولما كان الكثير من الأشياء الثمينة في لبنان خاضعا لقانون التأجير والاستئجار، فانتخاب رئيس جديد هو بمثابة عقد تأجير مؤقت للأيقونة الرئاسية إلى شخصية سياسية مارونية فقط.
لكن منذ استقلال لبنان في منتصف الأربعينات، لم يبق رئيس ماروني إلا وطابت له أيقونة الرئاسة، فحاول امتلاكها بالتمديد أو التجديد لنفسه. المشكلة أن الدستور اللبناني يسمح بالتأجير، ولا يسمح بتوريث أو امتلاك الأيقونة الرئاسية.
من هنا، فكلما دق ناقوس الانتخاب في «البطريركية الرئاسية»، كان على السنّة والشيعة التدخل للتفريق بين المستأجر الراغب في التملك وخصومه الطامعين في الاستئجار. ومع رنين كل ناقوس رئاسي، احتدم النزاع بين رغبة التملك والطمع في الاستئجار، وتحول النزاع السياسي أحيانا إلى حروب مسلحة شارك فيها الناخبون السنّة والشيعة، وتورط فيها «الناخبون» الإقليميون والدوليون.
نجح بشارة الخوري أول رئيس للبنان الاستقلال في التجديد لنفسه. لكن عقد «تمليك» الأيقونة الرئاسية كان وبالاً وشؤماً عليه. فقد نجح أيضاً تجمع المعارضة الذي ضم زعماء الطوائف في إجباره على التخلي عن الأيقونة، وتسليمها إلى كميل شيمعون الذي تبين لهم أنه الرئيس الأكثر طمعا وشراهة في امتلاكها.
رفض السنّة والشيعة التجديد لشيمعون الذي أتوا به رئيساً في عام 1953. بين الإصرار والرفض نشبت حرب أهلية صغيرة. استغل الأميركيون فرصة الانقلاب في بغداد، فتدخلوا عسكرياً في لبنان! كان عام 1958 فاصلا. فقد استراح لبنان بعد الأردن على الكتف الأميركي. وكان سقوط الجنرال غلوب وشيمعون انقلاباً أميركياً حقيقياً على نفوذ الأسد البريطاني العجوز.
جاء تصعيد العماد فؤاد شهاب من قيادة الجيش إلى منصة الرئاسة بمثابة هدنة ناجحة في لبنان والمنطقة، بين أميركا ازينهاور ومصر عبد الناصر الموجود في سورية بموجب عقد الوحدة. حرمان ناصر من «الأيقونة» السورية لم يمنع من استمرار نفوذه وشعبيته في لبنان.
لكن عندما أبدى شهاب رغبته المهذبة في تجديد عقد استئجار الأيقونة لم ينفعه تأييد ناصر والسنّة والشيعة. فقد اصطدم بالجبل الماروني. وتمكن فن التسوية من الإتيان بـ«الحِبْرِ» السياسي الماروني شارل الحلو رئيساً يملك، ويترك الحكم للمكتب الثاني (المخابرات العسكرية الشهابية).
كان انتخاب سليمان فرنجية بأغلبية صوت نيابي واحد (1970) بمثابة إيذان بانتهاء الشهابية. لكن «القبضاي الزغرتاوي» لم يستطع حماية الهدنة الهشة التي كان يرعاها المكتب الثاني بين النظام الماروني وعرفات حامل «الأيقونة» الفلسطينية في لبنان آنذاك. فقد تحولت الهدنة إلى حرب أهلية برعاية ومشاركة فلسطينية.
تدخل «الأخ السوري الأكبر» سياسيا وعسكريا في لبنان بسكوت أميركي لإنهاء الحرب المفجعة. لسورية الأسد حكمة لبنانية تتلخص في أن «الرئيس اللبناني الذي تعرفه دمشق خير من رئيس تتعرف عليه». لكن محاولتها التمديد للرئيس فرنجية الذي تعرفه لم تلق هوى لبنانيا، فجاء الياس سركيس بمثابة «رئيس تسوية» بين سورية والموارنة.
أدار سركيس الأزمة اللبنانية بعقلية الحاكم المتقاعد للمصرف المركزي: العملة الجديدة يجب أن تطرد العملة القديمة. وهكذا، عمل مع ظروف الاحتلال الإسرائيلي للبنان، لتسليم الأيقونة الرئاسية إلى نجم الحرب بشير الجميل. كان الرهان الإسرائيلي على بشير قصيرا. فقد قتل قبل أن يتسلم الأيقونة. وهكذا أيضاً، كان لا بد من البحث السريع عن حامل لها. وتولى زعماء السنّة حمل «مصباح ديوجين»، فعثروا على أمين شقيق القتيل. كان الرئيس أمين الجميل «عريس الغفلة والباب بلا قفلة» على حد تعبير المثل المصري الدارج.
حمل الشيخ أمين في قلبه هوى الصلح اللبناني ـ الإسرائيلي (اتفاق 17 أيار)، ولأن حامل الهوى تَعِب، فقد خَفَّهُ الطرب عندما سمع نصيحة صدام بالرهان على الاتفاق والتسويف مع الأسد. وأدار أمين الأزمة كما أدارها العم الراحل سركيس، وسلم الأيقونة التي لم يستطع الاحتفاظ بها إلى قائد الجيش عماد عون، من دون رضا وموافقة الناخبين السنّة والشيعة.
كان أمين الجميل مغلوباً لا مخيراً. فقد باتت للحرب الأهلية حكومتان تديرانها: حكومة عون العسكرية، وحكومة سليم الحص المدنية. وجاء التدخل السعودي حكيما ليرسي «لبنان جديدا» في اتفاق الطائف (1989) على أساس اقتسام السلطة بالتساوي بين الطوائف الرئيسية الثلاث، ويُبقي الأيقونة الرئاسية في أيدي متعهديها الموارنة.
أتى الياس الهراوي (جار سورية الزحلاوي) رئيسا من خارج العرين الماروني العتيق في جبل الأرز. ولأول مرة تتحول المؤسسة المارونية الرئاسية من «حوزة» صامتة علناً وحاكمة فعلاً، إلى «حوزة» ناطقة. كان نطق الهراوي تغريداً موسيقياً حلوا في الأذن السورية التي تسترق السمع جيداً في لبنان. ولأنه الرئيس الذي عرفته جيداً، فقد حاولت التمديد له، ونجحت فامتد الهراوي ثلاث سنوات.
في النطق والتصريح، فاق الرئيس العماد إميل لحود سلفه الهراوي. رئيس عسكري قوي آتٍ من بيت ماروني عتيق في صميم الجبل الماروني، بيت عريق في حكمته المصالِحة بين استقلالية الموارنة وعروبة السنّة، وفارسية الشيعة.
أدخل الآن المنطقة الخطرة. عليَّ أن أكون مؤدباً وحذراً مع خريف التمديد. سورية الأسد ما زالت تمارس حكمتها اللبنانية. فهي مع الرئيس الذي تعرفه، ولا ترغب في الظروف الصعبة الراهنة في التعرف على رئيس جديد لا تعرفه حتى ولو شاركت في «انتخابه».
من هو، غير الرئيس لحود، يستطيع أن يتحمل مغبة كل نطقه الرسمي الذي يرضي العرب والعجم، ويزعج إسرائيل وأميركا اللتين تمارسان ضغطاً كبيراً على سورية من العراق، وفي لبنان؟
طبعاً، لا أحد غير لحود. وما لم يحدث شيء في غير الحسبان، فالتمديد في خريف نوفمبر مؤكد، وحتى لو عارض الموارنة ونوابهم ودروز «المشاغب جنبلاط» ونوابه، فالأغلبية النيابية قد تكون مؤمنة بنواب رفيق الحريري، ونواب حزب الله ونبيه بري الذي بات حامل أيقونة قديمة، هي ـ للتذكير ـ المطرقة الخشبية التي كان يهش بها على نواب الأغلبية الراحل صبري حمادة جار سورية البعلبكي.
نواب الحريري يصوتون لنده اللدود لحود؟! ولمَ لا؟ ما دام رئيس الحكومة بعد زيارته الدمشقية الأخيرة يراعي ظروف سورية الدقيقة التي تقتضي التمديد لرئيس تعرفه، فيما هو شخصيا راغب في رئيس جديد يتعرف عليه.
هل يمدد الحريري ثم يعتزل ليعارض؟ أم يبقى في «السراي» ليعارض من داخل الحكم؟
«سؤال غريب ما جاوبشي عليه». أكتفي بالقول إن مشكلة الحريري مع لحود تكمن في أنه، وهو السياسي السني القوي الحامل لإرث زعامة رياض الصلح، يتعامل مع رئيس عسكري يرغب في أن يحافظ، من خلال خلافه المستحكم مع رئيس الحكومة، على وجاهة «الأيقونة» الرئاسية.
كنت أرغب في أن تسود لبنان روح اتفاق الطائف في الرغبة في إقامة دولة المؤسسات، لا الاستمرار في اعتماد دولة الطوائف والأشخاص. لعل في تصويت الحريري لبقاء الأيقونة الرئاسية، حيث هي، بادرة حسن نية تجاه الرئيس لحود، فيعمل على تنسيق السياسات الاقتصادية والاجتماعية مع رئيس الحكومة. وإذا كان الحريري راغبا حقا في البقاء في «السراي»، فهو مطالب بنطق حكومي صريح يوضح بجلاء رؤيته الاقتصادية لحاضر لبنان ومستقبله.
يبقى عليَّ تقديم واجب العزاء لبوش الذي يخوض معركة التجديد والتمديد لنفسه، ويطالب سورية في لبنان بعدم التمديد لغيره! لا أنسى أيضاً مواساة شيراك ويوشكا فيشر. فقد ذهب نصحهما الأوروبي الصادق بتهوية «الأيقونات» الرئاسية العربية أدراج الرياح.
ما لم تحدث مفاجآت تقلب التوقعات، فإلى اللقاء مع التمديد في خريف نوفمبر. وخريف بيروت دائما جميل يحاكي ويؤنس ربيع دمشق.