قلما تشهد الانتخابات الرئاسية في أوروبا (رئاسة الدولة أو رئاسة الحكومة) مفاجآت سياسية غير متوقعة؛ وإن حصلت، لا تكون دراماتيكية وخارج المألوف. تأتي نتائج الاقتراع، في العادة، قريبة جداً من نتائج استطلاعات الرأي قبل الاقتراع، وأحياناً متطابقة معها. وحين تقع الفجوة بين توقعات الاستطلاع ونتائج فرز الأصوات، غالباً ما لا تمس الوجهة العامة للتوقع، أي نجاح المرشح الفائز في استبيانات الرأي العام. قد تضيف نسبة تأييد واقعي له أعلى من نسبة التأييد التي حصل عليها من خلال العيّنة المُسْتَطْلَع رأيها، وقد تُنْقِصُها دون تغيير حظوظ نجاحه. في المقابل قد توسع فجوة الأصوات بينه وبين منافسيه بحيث لا يحتاج إلى دورة انتخابية ثانية، وقد تقلصها بحيث تصير دورة اقتراع ثانية خياراً لا بد منه للحسم.
حصل ذلك في الانتخابات الرئاسية الفرنسية الأخيرة وفي انتخابات المستشارية الألمانية. كان متوقعاً فوز مرشح "التجمع من أجل الجمهورية" الديغولي جاك شيراك على منافسه مرشح "الحزب الاشتراكي" ليونيل جوسبان. ولم تكن المفاجأة أن شيراك خسر المنافسة (فقد كسبها باستحقاق)، وإنما في أن جوسبان سقط سقوطاً مروّعاً لم تتوقعه استطلاعات الرأي وأتت نسبة أصواته أقل من نسبة أصوات مرشح "الجبهة الوطنية" اليميني المتطرّف جان ماري لوان. أما "الحزب الاشتراكي" الألماني بزعامة غيرهارد شرودر، فلم يكن متوقعاً له أن يفوز فوزاً ساحقاً على المرشح الديموقراطي المسيحي بسبب تركيز حملة الأول على السياسة الأميركية تجاه العراق، على حساب القضايا الداخلية. لكن الفوز أتى ساحقاً ومن حيث لم ينتظر ذلك أحد.
على أن بعض المنافسات الانتخابية تأتي نتائجها مجافية للتوقعات أحياناً، فتبدو ـ لذلك السبب ـ دراماتيكية. من ذلك مثلاً نتائج الانتخابات الاسبانية الأخيرة في شهر آذار الماضي. حتى حدود ليلة الاقتراع، رجحت استطلاعات الرأي جميعها كفة مرشح "الحزب الشعبي" اليميني، ورئيس الحكومة السابق، خوسي ماريا أثنار للفوز بولاية ثانية. لكن الاقتراع أتى بمرشح "الحزب الاشتراكي" ثااتيرو إلى السلطة. لكن لهذه المفاجأة غير المتوقعة ما يفسّرها ويرفع عنها عنصر الغرابة: كذب رئيس الحكومة أثنار على الشعب الاسباني بالقول ان منظمة "إيتا" الباسكية الانفصالية هي المسؤولة عن تفجيرات قطارات مدريد ـ في 11 آذار 2004 ـ وليس تنظيم "القاعدة" كما أعلن التنظيم نفسه عن ذلك وكما أثبتت التحقيقات الرسمية.
لم يتقبل الرأي العام الاسباني ـ معه في ذلك قسم من مؤيدي أثنار ـ أن يقع الكذب عليه في شأن يتصل بالأمن الداخلي، وأن يكون حجب الحقيقة عنه فعلاً سياسياً مرتبطاً بالحملة الانتخابية وبرغبة أثنار في صرف انتباه الرأي العام الاسباني عن الثمن الفادح الذي بدأت اسبانيا تدفعه لقاء سياسة حكومتها تجاه العراق (التأييد التبعي الأعمى للسياسة الأميركية ورفض سحب القوات الاسبانية من العراق). لذلك عاقبه الناخب الاسباني بالتصويت لصالح ثااتيرو.
إن أسقطنا الأسباب الداعية إلى التحوّل المفاجئ في الرأي العام حيال المرشحين للمنافسة الرئاسية، وقد تكون أسباباً عسيرة الفهم أحياناً (كانتخاب بيرلوسكوني رئيساً للوزراء في إيطاليا بعد داليما مثلاً)، فإن الغالب على استطلاعات الرأي في أوروبا ـ خلافاً للولايات المتحدة ـ الدقة في نتائج استبيان ذلك الرأي. وليس مرد تلك الدقة إلى صدقية الجهات التي تنظم استطلاعات الرأي تلك (صحف، ومراكز دراسات، ومراكز استطلاع الرأي العام)، أو إلى تمثيلية العيّنات المستطلعة للمزاج السياسي العام، وانما إلى ما يمكننا تسميته باستقلال إرادة الاختيار والرأي لدى المواطن في مجتمعات أوروبا بخاصة.
لم نقل حرية الاختيار وحرية الرأي، لأن هذه مكفولة دستورياً وقانونياً وموجودة خارج أوروبا وفي أميركا خاصة، وإنما قلنا استقلال إرادة الاختيار واستقلال الرأي: ومعدل هذا الاستقلال في المجتمعات الأوروبية أعلى منه في أي مكان آخر في العالم. استقلالية الرأي من شروط المواطنة في الثقافة السياسية الحديثة، خاصة في أصولها الفرنسية ـ الألمانية. لا يكون المواطن مواطناً إلا إذا كان مستقل الارادة والاختيار. ذلك ما يفسّر وجود معارضة حقيقية في دول أوروبا وغيابها في الولايات المتحدة مثلاً. حين يختار الفرنسي أو الألماني أو البلجيكي أو حتى الانكليزي مرشحاً، فهو يختار حزباً أو برنامجاً سياسياً أو فكرة لا يتغيّر ولاؤه لها بمناظرة تلفزيونية أو بدعاية انتخابية في الساعات الأخيرة من الحملة الانتخابية. لذلك تأتي نتائج الاستطلاع قريبة جداً من نتائج الاقتراع. في أميركا لا يكوّن المواطن رأياً مستقلاً أو بحرية تامة، ذلك أن وسائل الاعلام هي ما يصنع رأيه ويدفعه إلى اختيار هذا المرشح أو ذاك. إرادته مصادَرة بتدخل خارجي لا يملك معه أن يكون مستقلاً في الرأي!