اذا ما انتصر بوش بعد شهرين، فمن المتوقع ان يستمر نفوذ المحافظين الجدد وتأثيرهم على السياسة الاميركية، وبالتالي على مصير العالم. وحتى لو نجح كيري فلن يكون من السهل عليه ان يتخلص من تأثيرهم فيما يخص السياسة الخارجية على الاقل، وبالاخص فيما يتعلق بالعراق وفلسطين. فمن هم هؤلاء يا ترى؟ انهم مجموعة من المثقفين والسياسيين اللامعين ذوي الاصول اليهودية في معظمهم، ولكن ليس كلهم. نذكر من بينهم الرجل الثاني في وزارة الدفاع بول ولفويتز، وريتشارد بيرل رئيس مركز بحوث تابع للبنتاغون، ودوغلاس فيث مساعد رامسفيلد، وليويس ليبي مساعد تشيني، وايليوت ابرامز عضو مجلس الامن القومي الذي يترأسه بوش شخصيا، ودافيد ورمسير مساعد ريتشارد ارميتاج، الرجل الثاني في وزارة الخارجية بعد باول. وينبغي ان نضيف اليهم مجموعة من الباحثين من امثال روبيرت كاغان وبيل كريستول وآخرين عديدين. هذا دون ان ننسى المنظّرين الكبيرين: فرانسيس فوكوياما وصموئيل هنتنغتون.
وقد سُمّوا بالمحافظين الجدد لأنهم كانوا يساريين، بل ويساريين متطرفين في معظمهم، ثم انقلبوا على مواقفهم السابقة واصبحوا يكرهون الشيوعية واليسار كرها شديدا. ولذلك، فإن اصدقاءهم القدامى حقدوا عليهم ونبذوهم باعتبارهم خونة واطلقوا عليهم هذه التسمية الشائنة: المحافظون الجدد! ولكنهم رحبوا بالتسمية بعد تردد واتخذوها شعارا لهم. وانقلبوا عندئذ على افكار اليسار التي كانت شائعة في اوساط المثقفين الليبراليين والجامعات الاميركية طيلة الستينات والسبعينات، واتهموها بأنها اكاذيب ومراهقات ثورية. ومعلوم ان شبيبة اوروبا واميركا شهدت غليانا ثوريا في فترة الستينات. وانقلبت على القيم التقليدية للعائلة والدين والمجتمع ودعت الى الثورة الجنسية التي وصلت الى حد التطرف او التحلل والاباحية احيانا. وفي ذلك الوقت كان من العيب ان تكون مؤيدا للنظام الديمقراطي الليبرالي لأنهم يعتبرونك يمينيا رأسماليا، والرأسمالية مصيرها الانهيار بحسب تنبؤات ماركس والماركسيين.
ضد هذه الافكار والشعارات اليسارية والعالم ثالثية انقلب المحافظون الجدد، كما قلنا، وراحوا ينضمون الى الحزب الجمهوري، بل والى رونالد ريغان شخصيا، لكي ينتقموا من ماضيهم الايديولوجي او يكفّروا عن ذنوبهم اليسارية او حماقاتهم الصبيانية، واخذوا يحقدون على الاتحاد السوفياتي حقدا شديدا، ويدعون الى اسقاطه بأي شكل عن طريق تقوية الآلة العسكرية الاميركية الى اقصى حد ممكن. وراحوا يحقدون على كيسنغر لأنه اتبع سياسة واقعية حذرة مع موسكو. ففي رأيهم انه لا مساومة مع قوى الشر التوتاليتارية.
ينبغي القول هنا، بأن الفيلسوف الاميركي من اصل الماني ليوستروس (1899 ـ 1973) هو الأب الروحي لهذا التيار. والفيلسوف المذكور الذي عاش حتى عام 1937 في المانيا، قبل ان يهاجر الى اميركا ويصبح استاذا في جامعة شيكاغو، كان قد شهد بأم عينيه انهيار الديمقراطية البرلمانية الالمانية على يد النازيين والشيوعيين في آن معا. ولذلك حقد على الايديولوجيات التوتاليتارية حقدا شديدا، وقال بأن صراعا حتى الموت اصبح مفتوحا بين الديمقراطية وهذه الايديولوجيات. ووصف هذا الصراع بأنه صراع بين الخير والشر تماما كما سيفعل ريغان في ما بعد (بخصوص الاتحاد السوفياتي، امبراطورية الشر) وبوش الابن (بخصوص الاصولية الراديكالية ومحور الشر).
ولكن المشكلة هي انهم من كثرة غضبهم على يساريتهم السابقة ذهبوا في رد الفعل الى حد التطرف المعاكس. وقد حصل شيء من هذا القبيل لدى بعض المثقفين العرب عندما انقلبوا من ماركسيين او شيوعيين الى اصوليين اسلاميين!
نقول ذلك، على الرغم من الفرق الكبير بين الحالتين. مهما يكن من امر، فإن المحافظين الجدد تسلحوا بأفكار استاذهم ليوستروس، وقالوا بأن على اميركا ان تغير نظام العالم لكي يصبح مثلها ويتبنى قيمها: قيم الحرية والديمقراطية والاقتصاد الحر وحقوق الانسان والتسامح الديني، الخ. ولذلك فإن فرانسيس فوكوياما المنظر الشهير الذي قال باطروحة نهاية التاريخ اثنى عليهم قائلا: المحافظون الجدد ليسوا محافظين ابدا ولا يريدون الدفاع عن الوضع الراهن للاشياء. انهم ليسوا متشائمين بمقدرات الانسان وامكانياته، كما يفعل الانسان المحافظ، على العكس انهم متفائلون به ويعتقدون بأنه قادر على تغيير نظام العالم نحو الافضل والاحسن.
ولذلك ينعتهم البعض بالطوباويين. ومعلوم ان فوكوياما قريب منهم، بل هو احدهم بشكل من الاشكال. فهو ايضا يعتقد بأن التاريخ قد انتهى او وصل الى مصبه بانتصار اميركا على الاتحاد السوفياتي، والليبرالية على الشيوعية. وما على بقية العالم الا ان تمشي في هذا الاتجاه وتصبح ليبرالية برلمانية، ديمقراطية. فهذه هي نهاية التطور ولا يمكن للتاريخ ان يأتي بنظام افضل من هذا النظام. انه نهاية النهاية، ربما كان المحافظون الجدد حركيين اكثر من فوكوياما المشغول بالتنظير بالدرجة الاولى. ولذلك فهم عابوا على بوش الأب. وكلينتون، عدم استخلاص كل النتائج من هزيمة الشيوعية وانهيار الاتحاد السوفياتي. ورفعوا عدة مذكرات لهما يطالبون فيها باستخدام القوة العسكرية الضاربة لاسقاط الانظمة المارقة، وفي طليعتها نظام صدام حسين. فهم، وبناء على فلسفة ليوستروس، يقسمون العالم الى قسمين: امم متحضرة/ وزعران او أمم مارقة. والحرب بينهما لا يمكن ان تتوقف قبل ان ينتصر احد الطرفين بالضربة القاضية على الطرف الآخر. ولكن كلينتون لم يستمع لهم، بل وكان يسخر منهم ومن تنظيراتهم.
ثم شاء القدر ان يحقق لهم كل امانيهم دفعة واحدة بحصول ضربة (11) سبتمبر. فلولاها لظلوا فئة هامشية عاجزة عن التأثير على مركز القرار في واشنطن، الا من بعيد وبشكل جزئي. اما بعدها، فقد اصبح قرار السياسة الاميركية في ايديهم. وانتصرت اطروحات بول ولفويتز واقتنع بها جورج دبليو بوش، وراح يطبقها اولا في العراق. وعندئذ اصبح مصير العالم بين فكي كماشة: المحافظون الجدد وريتشارد بيرل وشارون من جهة، واسامة بن لادن وايمن الظواهري وبقية الاصوليين العتاة من جهة اخرى. وهنا يكمن وجه الخطر والخطورة. لماذا؟ لأنه يعني نجاح نظرية احد آباء المحافظين الجدد ايضا: صموئيل هنتنغتون، صاحب اطروحة صدام الحضارات، وهي اطروحة صحيحة وخاطئة في آن معا.
صحيحة اذا ما اعتبرنا ان كل المسلمين بن لادن، وكل اليهود شارون او كل الغرب ريتشارد بيرل، وخاطئة اذا ما علمنا ان عالم الاسلام مؤلف من تيارات شتى، وكذلك عالم الغرب الاوروبي او الاميركي. وبالتالي، فلا صراع حضارات ولا من يحزنون وانما صراع اصوليات استأسدت واستوحشت حتى لتكاد تأكل بعضها البعض.
والحل؟ الحل هو ان يقبل الغرب بتطبيق العدالة او الحد الممكن منها في فلسطين، مقابل ان يقبل العرب والمسلمون بالتبرؤ من بن لادن وجماعته، وان ينخرطوا في ذلك الطريق الطويل المؤدي الى الديمقراطية والحرية والتسامح الديني والتصالح مع الحداثة. وعندئذ لا تعود لنا مشكلة مع المحافظين الجدد ومع بول ولفويتز على وجه التحديد، لأنه على عكس ريتشارد بيرل، يؤيد قيام دولة فلسطينية، بل وقد عبر عن تحسسه بآلام الفلسطينيين في احدى التظاهرات التي نظمها انصار اسرائيل في واشنطن فشتموه وقاطعوه، واضطر الى مغادرة المكان وهو الوزير في الحكومة الاميركية. وبالتالي فليس كل ما يقوله المحافظون الجدد خطأ. ولكنهم يسرّعون حركة التاريخ بايقاع لا يستطيع الواقع العربي تحمله او مواكبته. ولحسن الحظ فإن بوش ادرك ذلك ولم يعد يضغط على الانظمة اكثر مما يجب خوفا من ان تحل محلها المعارضات الاصولية.
- آخر تحديث :
التعليقات