هل من حاجة بعد الآن الى مزيد من الادلة على ان خنق اللبننة بالقوة وسوء التقدير، أدخل المسألة اللبنانية في رحاب التدويل من الباب الاوسع؟ والاكثر مرارة للبعض ان التدويل يلبس في ما يلبس لبوس التعريب العائد! وما حدث في مجلس الجامعة العربية، فضلا عن المهمة التي تولاها الرئيس المصري، اعادة تذكير من يجب تذكيرهم بحراجة موقف انتجته أخطاء فادحة وغير مقبولة، ارتكبت في الآونة الاخيرة، وكأن لبنان وسوريا يعيشان في معزل عما يحدث في المنطقة والعالم.

ثمة استخلاصات يمكن الخروج بها مما حصل في الاسابيع المنصرمة:
أولا: ان انفراد سوريا بإدارة الملف اللبناني على النحو الذي انتزعته بغطاء دولي عربي اثر اتفاق الطائف، انتهى. ويمكن القول ان المسألة اللبنانية (ونشدد على تعبير المسألة ) دخلت حيز التدويل المقبل عاجلا أم آجلا على إحداث تغيير بنيوي في طبيعة التعريب بصيغته السورية الصافية التي عشناها منذ 1990، وحتى الثالث من ايلول المنصرم. ونحن نميل الى تحديد موعد انبعاث التدويل لحظة التصويت على القرار 1559 اي في الثاني من ايلول 2004، بصرف النظر عن الجدل القائم حول حق المجتمع الدولي في التدخل أم لا.

ثانيا: لم يعد من مجال للتهرب من مسؤولية ناجمة عن ارتكاب سلسلة من الاخطاء الفادحة على المستويين اللبناني والسوري في ادارة الملف اللبناني وصرفه عن وجهته الاصلية التي نص عليها اتفاق الطائف الذي شكل قاعدة الحد الادنى لاعادة بناء البلد.

الاخطاء اللبنانية اكثر من ان تحصى: طبقة سياسية فاسدة وضيقة الافق يسهل استتباعها وحملها على كسر الخصوصية الوطنية اللبنانية مرة بعد مرة، حفاظا على مصالح شخصية لا تمت بصلة الى الواقع الوطني. وطبقة أمنية قضائية سياسية تعيش على هامش المجتمع، بعضها يراكم الثروات بأساليب أقرب ما تكون الى المافيوية، وبعضها الآخر يمارس السلطة محليا (لا نقول السياسة) بنمط استتباعي أعمى ملحقا أفدح الاضرار بالبلاد. وبالطبع لا ننسى طبقة من رجال الاعمال الذين يحسنون خدمة كل العهود، وكل القوى المهيمنة من دون مركبات نقص، ولا عقد وطنية. وهؤلاء أنفسهم موّلوا أمراء الحروب على ضفتي خط التماس، في العهدين الاسرائيلي والسوري.

الاخطاء السورية لا تقل عن اللبنانية: فلا فساد لبناني معتبر من دون شراكة سورية معتبرة. ولا سوء ادارة سياسية محلية من دون توجيه، او تغطية، او سكوت عنها من الراعي المسيطر على مقدرات البلاد، حتى في أدنى تفاصيلها. ولا خيارات استراتيجية صحيحة او خاطئة بمعزل عن قرار صاحب القرار الذي يتحمل مسؤولية كبيرة في ما آلت اليه الامور. وهو كان يملك القدرة على بناء سياسات مع لبنان أكثر نقاء وسوّية، في لحظات قوة وتمكّن وفّرتها الظروف الموضوعية لسنوات طويلة ولم يعرها أهمية. وهذا يعني ان الانحدار السريع الذي نحن في صدده اليوم لم يأت من فراغ، وما كان يمكن رياح التدويل ان تعبر البوابة اللبنانية بهذين القوة والصخب، لولا هذا الكم من التراكمات السلبية على مر السنين.

ثالثا: ثمة كلام على حكومة جديدة في لبنان. وثمة حديث عن لبننة مزعومة للاستحقاق الحكومي تعويضا لاجهاض لبننة الاستحقاق الرئاسي. وهذا وهم، وخصوصا ان الموضوع تخطى المسألتين معا، ولم يعد ممكنا تغطية الخسائر داخليا او خارجيا من خلال محاولة الايحاء ان اللبنانيين هم الذين يديرون أمورهم بحرية بعيدا من الضغوط التي انفجرت من عقالها، من اجل خرق الدستور وفرض التمديد. واليوم نحن بإزاء أزمة سياسية داخلية عميقة معطوفة على اختراق دولي كبير على قاعدة ان ثمة فرصا جرى تبديدها بلا هوادة. وهذا يتطلب اكثر من محاولة حجب متن اللوحة القاتمة عبر منح حقيبة من هنا، او حقيبة من هناك للراغبين، أو التضييق على هذا او ذاك من الممانعين.

ويستدل مما تقدم ان الاستحقاق الرئاسي كان بمثابة القطرة التي طفحت بها الكأس. والمطلوب أكبر بكثير من محاولة احياء وسائل قديمة لمعالجة مشاكل جديدة ومستفحلة. فالحل لم يعد رهنا باستنباط وسائل لتجميل الامر، والتهرب من الواقع على أساس ان ما حصل قد حصل. انه اكثر تعقيدا، وهو رهن شئنا أم أبينا بحدوث تغيير حقيقي وعميق وطوعي في المقاربة السورية للعلاقة مع لبنان، بحيث تتحول من علاقة التابع بالمتبوع وقد خرجت عن السياقات الاستراتيجية المقبولة لتستقر في زوايا أقل ما يقال فيها انها صغيرة وضيقة الى علاقة تأخذ في الاعتبار ان لبنان حليف وشريك صادق، وليس مجرد أرض سليب!