قد يكون من الصعب الدخول في تفاصيل الخريطة الحزبية والسياسية الجديدة في العراق، لشدة تعقيداتها. هذا البلد العربي الكبير حكمه نظام حديدي عقوداً من الزمان، واختفى فيه كل شكل من أشكال التعددية الحزبية والسياسية. هناك حزب قائد وقائد ضرورة، وحين حاولوا الانفتاح مطالع الثمانينيات، لإجراء تجميل سياسي، بالسماح لأحزاب (مسيطر عليها بالعمل العلني)، قال لهم أحد قادة الحزب (وأظنه عزت إبراهيم) في مداولات نشرتها اليوم السابع في باريس في حينه: لماذا التعّددية، لدينا مليون بعثي ولكل واحد عائلة من ستة أشخاص بالغين عاقلين، وذلك يكفي.
بعد سقوط النظام السابق، ورفع الغطاء عن المرجل الذي كان يغلي طوال الوقت، انطلقت حركة غير مسبوقة من ميلاد فوري لأحزاب ومجموعات سياسية، يصعب حصرها، وانطلقت صحف تزيد على السبعين صحيفة، في بلد كان فيه صحف الحزب القائد الذي لا ينطق عن الهوى. وما جرى ويجري منذ إبريل العام الماضي، ظاهرة صحية ستجد طريقها للتبلور في أحزاب كبرى، ستختبر شعبيتها في الإنتخابات القادمة. طريق العمل السياسي مفتوح للجميع، دون استثناء، وذلك هو المعبر الوحيد لميلاد ديمقراطية في العراق، لا بد أن ينعم بها أبناء ذلك البلد العزيز، بعد حرمان طويل. وهي معادلة مستقيمة، رغم بعض الأخطاء والانحرافات عنها، هنا أو هناك. الزعيم الشيعي الشاب مقتدى الصدر لم يقبل هذه المعادلة، منذ البداية، ليجد نفسه يغّرد خارج السرب ومعه مجموعات نخبوية محدودة، من مجموعات سياسية جديدة: قومية ووطنية ويسارية وسنّية وشيعية، على حدّ سواء.
أصرّ هذا الشاب الطموح، عديم التجربة بحكم السنّ والخبرة معاً، أن ينشئ ميليشيا مستقلة، في وقت أعلنت فيه السلطة العراقية المؤقتة، والمؤتمر الوطني العراقي الذي مثّل 90% من أطياف الشعب العراقي، أنه لا مجال للسماح بميليشيا جديدة لأي حزب، لأن الجهود يجب أن تتوجه لبناء جيش جديد مفتوح للجميع، وشرطة جديدة وحرس وطني ويجد كل الناس في هذه المؤسسات، أماكن لهم، للخدمة العامة.
كان هذا الشاب المتحمس لقتال الكفار، قد رفض الاعتراف بمجلس الحكم الإنتقالي المؤقت وعزل نفسه بذلك عن مجموع الأحزاب الرئيسية في العراق، بما في ذلك أحزاب الشيعة: حزب الدعوة، والمجلس الإسلامي للأعلى للثورة الإسلامية في العراق، وغيرهم، وهدّد بتشكيل مجلس موازِ، لكنه تراجع أمام وقائع الحياة نفسها.
بعض الفضائيات العربية إياها، التي نفخت في مقولات المتطرفين لدينا في الساحة الفلسطينية، قامت بالشيء نفسه في العراق، وبالغت في قوة جيش المهدي، واستضافت على شاشاتها المئات من رجالات الصدر ومديري مكاتبه في كل ركن من أركان العراق الواسع، في حركة ملفتة للنظر. بالغت في قوته العسكرية وفي قدرته على محو وجود القوات الأميركية، تماماً كما بالغت، عن عمد، فالأمر ليس سذاجة، في قوة جيش صدام حسين وقدرته على هزيمة جيوش القوة الأولى في العالم، وأصيب الناس بالإحباط حين رأوا ما لم يصدقوه على شاشات الفضائيات، واختفى معلقوها العسكريون الأشاوس وغاصوا في أعماق الأرض، وتواروا عن الأنظار لشدة ما مارسوه من تضليل بحق البشر، وتماماً كما بالغوا في قوة المتطرفين لدينا في ساحتنا الفلسطينية، وإمكاناتهم لهزيمة الجيش الإسرائيلي ودفع حكومات إسرائيل للتراجع المؤكد، وحصدنا العلقم، وأمسكنا بالكارثة من قرونها، والحقائق اليوم ماثلة لكل العيون الجاحظة في بلادنا وفي كل مكان.
إن جيش المهدي لا يضم فقط أنصار تيّار الصدر، وإلاّ لكان من الممكن التوصل لحلول سياسية، توقف إزهاق الأرواح منذ زمن، بل يضم عناصر من أنصار النظام السابق، الذين لا يريدون للعراق الجديد أن يوطّد أركانه، لديهم برنامج من نقطة واحدة: استمرار الفوضى، وحسب تصريح رئيس الوزراء د. إياد علاّوي، على شاشات الفضائيات، فقد تم القبض على مئات من هذا الجيش، ينتمون لجنسيات غير عربية (والمقصود إيرانية بشكل رئيسي)، ويضم المئات من العناصر الجنائية التي أطلق سراحها النظام السابق، عشية الحرب :لماذا لا يأتون بهم ليشاهد الناس على الفضائيات اعترافاتهم؟. قيل إنه لا بد من التحقيق معهم أولاً، وبعد أن يدلوا بالاعترافات لكل حادث حديث، وسننتظر.
من الواضح أن هذا الجيش قد قتل من العراقيين أضعاف ما قتله من الجنود الأميركيين، وآمل أن تصدر الحكومة العراقية، الضعيفة إعلامياً كما يبدو، أرقاماً دقيقة حول هذا الأمر.
كان رأيي طوال الوقت، أن من يريد حقاً رحيل القوات المتعددة الجنسيات ومركزها القوات الأميركية بالطبع، فإن لذلك طريقاً واحداً لا طريق غيره وهو المساعدة في بناء مؤسسات الدولة العراقية الجديدة: السياسية والأمنية والعسكرية، حتى لا يكون هناك مبرر منطقي لبقاء هذه القوات، في العراق، وحتى تتمكن دولة العراق ومعها كل العرب والمسلمين من المطالبة برحيل هذه القوات، عبر الأمم المتحدة التي أصدرت القرار بتشكيلها.
لقد حاول تيار الصدر، أن يزاحم المرجعيات الشيعية الراسخة على تمثيلها المعنوي والديني، ولهذا ضاقوا ذرعاً به جميعاً، ولم يعلن أي مرجع تأييده لما يقوم به جيش المهدي، وخاصة الإحتماء بالأماكن المقدسة، وغادر آية الله السيستاني للخارج احتجاجاً، وكان العلاج يستطيع الإنتظار بعض الوقت كما هو واضح إذ أن العملية الجراحية بسيطة. وحين عاد آية الله السيستاني للعراق، فإنه وجد مقتدى الصدر، يأمل منه الإنقاذ، بعد أن انحشر في الزاوية ودخل نفقاً مظلماً، وقام السيستاني بإنقاذه فعلاً. في النهاية، سلم المهديون سلاحهم، وغادروا النجف والمدن المقدسة ولم يحققوا أي هدف وكان الحصاد مُراً، وذلك يجب أن يكون محل مراجعة قاسية منهم.
إن رحيل القوات الأميركية عن المدينة المقدسة، هو أمر بديهي فقد دخلوا عمق المدينة قادمين من معسكراتهم، للمساعدة في التصدي لجيش المهدي، وحين يغادر رجالات هذا الجيش الأماكن المقدسة، فمن البديهي أن يعود الجيش الأميركي لمواقعه السابقة، فليس في ذلك أي انتصار، لكننا مغرمون في العادة بتحويل الهزائم لانتصارات. تلك سنة مؤكدة في حياتنا السياسية العربية.
آمل أن يتحرك العقلاء لدى التيار الصدري، وهم كثيرون، لتنقية صفوف جيشهم السابق، من الطارئين عليه، وبأن يدخلوا حلبة العمل السياسي، من أوسع الأبواب، ليساهموا في بناء مؤسسات الدولة، وذلك وحده الطريق لرحيل القوات الأجنبية.
الدرس الأساسي لما حصل أنه لا يستطيع أي طرف في العراق، أن يفرض أجندته على مجموع الأطراف السياسية العراقية، حتى لو استقوى بمن هم خارج الحدود وبكل فضائيات هذا الزمان. لقد حاول صدام حسين أن يفرض أجندته على العالم، ودفع الثمن، ولدينا في المنطقة، قادة آخرون لم يستوعبوا بعد درس الحُفرة، وسيدفعون الثمن إذا أصروا على عنادهم، وأتحدث بالتلميح فقط بسبب مخاطر التصريح.
والتيار الصدري ليس استثناء من دروس الحياة السياسية العربية، حتى لو أغرته الفضائيات وأصحاب الصوت العالي من فلول الأحزاب العربية، بإمكانية حدوث الاستثناء.
لدينا في الساحة العربية مقاولون ثورجيون، عملهم الوحيد أن يأخذوا هذا الحزب أو ذاك، وهذا الفصيل الفلسطيني أو ذاك، مقاولة من الباطن، وحين يجرونه نحو خراب البصرة، كما يقول المثل الشعبي في بلادنا، فإن كل ما يفعلونه، هو ببساطة شديدة، البكاء على الأطلال، والبحث عن مقاولة جديدة، والاستمرار في مهرجانات التضامن. تضامن عبر الخطابات وحدها.
ألم أكتب منذ زمن أن لدينا فصيلة عربية تريد القتال حتى آخر فلسطيني، وآخر عراقي، وربما آخر سوداني وهي مقاولتهم الجديدة كما يبدو، بشرط أن لا يدفعوا هم أي ثمن على الإطلاق: أي ثمن، من أي نوع.
- آخر تحديث :
التعليقات