لو ان الامريكيين او البريطانيين اقاموا معرض صور لمناسبة الذكري الستين لتحرير فرنسا من الإحتلال الالماني لكنا، بالتأكيد، امام معرض مختلف عما يراه زوار باريس هذه الايام.
فعلي امتداد احد اسوار حديقة اللكسمبورغ الباريسية تطالعك نحو مئة صورة بالاسود والابيض وباحجام ضخمة التقطتها كاميرات المصورين للحظات من هذه المعركة الطاحنة، والحاسمة، في تاريخ الحرب العالمية الثانية.
لقطات لوجوه باتت شهيرة فاختصرت التاريخ باسمها: رجال سياسة، جنرالات، قادة مقاومة شعبية.
ولقطات لجنود، مقاومين شعبيين، مدنيين، كانت الوقود الحقيقي لهذه الحرب ولكنها ظلت، كالعادة، مغمورة.
غير ان البطولة المطلقة لهذا الشريط الطويل من الصور الذي تتوقف عنده افواج السياح الذين يكادون ان يحتلوا باريس علي امتداد شهر آب (اغسطس) معقودة لشخص واحد: انه الجنرال شارل ديغول!
وهذا طبيعي لو ان الامر تعلق بالمجهود الفرنسي، وحده، في تحرير فرنسا.
فديغول قائد لا يمكن تلافيه علي هذا الصعيد.
بل ثمة من يري انه لولا هذا الضابط الفرنسي الذي اخذ علي عاتقه، بتقمص عاطفي مشبوب لتاريخ امته، ان يكون هو فرنسا، لا بيتان وزمرته من المتواطئين مع الاحتلال، لكُتبتْ صفحة اخري للتحرير ومآلاته قد لا يحبها الفرنسيون.
ديغول كان يمثل فكرة الحرية للفرنسيين بعد ان وقعت بلادهم تحت الاحتلال.
وكانت هذه الفكرة من الوضوح والصلابة، عند الجنرال الفرنسي ذي القامة المديدة والأنفة الشخصية والوطنية العالية، بحيث ازعجت حلفاءه الغربيين.
كل هذا صحيح.
ولكن معركة تحرير فرنسا لم تكن من صنع فرنسي خالص، بل ان المجهود الفرنسي فيها لم يرق، عددا وعدة، الي مشاركة بريطانيا وامريكا اللتين انزلتا في النورماندي نحو 156 الف جندي لسحق الخطوط الامامية الالمانية شديدة التحصين، غير الاف المظليين الذين قذفت بهم الطائرات وراء الخطوط الالمانية.
طبعا كانت هناك مشاركة فرنسية عسكرية جمعها ديغول من المستعمرات الفرنسية!
وطبعا كانت هناك حركة مقاومة شعبية فرنسية فعالة في داخل فرنسا.
ولكن هل كان هذا كافيا لتحرير فرنسا التي وضع فيها هتلر نخبة قواته وقادته العسكريين من الاحتلال الالماني؟
اظن ان التاريخ يقول: كلا.
لا تحتاج الي تأمل طويل، وانت تطالع شريط الصور المعلق علي السياج الحديدي لحديقة اللكسمبورغ ، لتكتشف تسييس التاريخ.
هنا تاريخ اخر (او لنقل تاريخ انتقائي) لتحرير فرنسا ترويه هذه الصور.
ما تريد ان تقوله هذه الصور للفرنسيين، الآن وليس غدا، ان فرنسا هي التي حررت فرنسا.
لو ان العلاقات الفرنسية ـ الامريكية ـ البريطانية افضل مما هي عليه، اليوم، (وانا منحاز، وممتن، بالتأكيد للمواقف الفرنسية تجاه العالم العربي) لكنا رأينا معرضا اكثر توازنا، ولما اكتفي منظمو المعرض بلقطة واحدة تجمع بين الجنرالين ديغول وايزنهاور وهما يحتفلان بالنصر في باريس، ولكنا رأينا اكثر من صورة لتشرشل ومونتغمري.
ولكن التاريخ ليس، وفق هذه الصور، ابن الامس بل اليوم .. وربما الغد.
التاريخ ليس معطي نهائيا وثابتا بل هو قابل، دائما، للتأويل والتعديل.
الطريف في امر هذا المعرض ان الحضور المغاربي في تحرير فرنسا يبدو اقوي من حضور امريكا وبريطانيا مجتمعتين!
هناك لقطات عديدة، ودالة، لجنود مغاربة وجزائريين (وافارقة عموما)، يرتدي بعضهم، فوق زيه الحربي، برنسا.
وبصرف النظر عن ضعف الحضور الاطلسي في معركة تحرير فرنسا (وهو مُسيس الي حد بعيد) فإن ابراز المشاركة المغاربية والافريقية في هذه المعركة هو احتكام حقيقي للتاريخ.
فمن الصعب ان نتخيل جيشا فرنسيا في تلك الأيام من دون ان يكون ابناء المستعمرات العربية والافريقية اساسيين فيه، ففرنسا كانت محتلة وجيشها الرسمي التابع لحكومة فيشي كان مواليا للألمان، فلم يبق للجنرال ديغول، والحال، سوي ابناء المستعمرات ليكون منهم قواته.
ومع ان هذا الحضور حقيقي تاريخيا الا انه لم يخل من السياسة ايضا.
انه انعكاس لمزاج فرنسا اليوم وصورة لتحالفاتها الراهنة.