أحسنت مؤسسة البابطين صنعا بإصدارها هذا الكتاب التذكاري عن عالم الدراسات اللغوية الراحل الدكتور أحمد مختار عمر, من إعداد عبدالعزيز السريع وماجد الحكواتي تحت عنوان: عاشق اللغة العربية العالم الجليل أحمد مختار ع
تتصدر الكتاب ــ الذي أشرفت عليه الأمانة العامة للمؤسسة, وأعدته للطبع في صورته اللائقة بمكانة صاحبه العلمية والإنسانية ــ كلمات لعبدالعزيز سعود البابطين يقول فيها: لم يكن المرحوم الدكتور أحمد مختار عمر مجرد عالم أكاديمي مختص باللغة, بل كان عاشقامتيما بها وإذا كان للعشق دلالات لاتخفي علي البصر ولا علي البصيرة, فإن هذه العلامات كانت متجذرة في الفقيد إلي درجة يلمسها أي إنسان فيه, فاللغة كانت غذاءه الذي يقتات منه, والهواء الذي يتنفسه, والعشير الذي لايزايله, والمرآة التي يري فيها بحس فيه بالأنس والطمأنينة, والخل الذي لا يمل من مخالطته
ثم يقول: ولقد تعرفت إلي الفقيد في التسعينيات من القرن الفائت حين وفقت المؤسسة إلي اختياره مستشارا لمعجمها الشعري الأول معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين فلمست فيه دقة العالم وتواضعه وشموخه, وحماسة العاشق وتجرده ونزاهته. وكان من حسن حظنا أن الفقيد معنا مستشارا لمعجمنا الثاني معجم البابطين لشعراء العربية في القرنين التاسع عشر والعشرين فوضع الأسس لهذا العمل الضخم, وأشرف علي خطواته الأولي وسدد من سيره وجنبه العثار
هذا الكلام ملمح واحد من سيرة أحمد مختار عمر الذي رحل في السبعين, بعد حياة حافلة وإنجاز علمي ضخم ومشاركات مصرية وعربية علي مستوي الجامعات والمجامع اللغوية والمؤتمرات والندوات العلمية, والتأليف الأكاديمي والعمل المعجمي: أستاذا للدراسات اللغوية فيدار العلوم جامعة القاهرة, وعضوا في مجامع اللغة العربية بمصر وليبيا ودمشق, ومقررا للجنة المعجم العربي الحديث, وعضوا بلجنة إحياء التراث الإسلامي, ولجنة الدراسات الأدبية واللغوية بالمجلس الأعلي للثقافة, والجمعية الألسنية العربية بالمغربعديد من الدراسات العلمية اللغوية, من بينها ثلاثة لاتزال تحت الطبع وهي: معجم ألفاظ الحضارة في القرآن الكريم ومعجم الصواب اللغوي, ومعجم اللغة العربية المع
يضم هذا الكتاب التذكاري سبعا وعشرين شهادة ودراسة لسبعة وعشرين من أصدقاء الراحل الكبير وزملائه وتلاميذه وعارفي فضله ــ في مصر وعدد من الأقطار العربية ــ تحاول اقتناص بعض تجليات هذه الشخصية الفذة: إنسانا وأستاذا وباحثا, وتستقطر قطرات من رحيق سيرته وآ الباقية: فهو الأحمد المختار الذي اختاره الله سبحانه ليجعل للعالم من كل نفس يتنفسه نصيبا مفروضا, في رأي الدكتور سعد مصلوح, وهو الركن الوحيد والحارس الأمين للفكر اللغوي العربي في تقييم الدكتور أحمد كشك, وهو النموذج للإنسان المتميز سلوكا,صية اللطيف معشرا كما يراه الدكتور سليمان الشطي, وهو الذي عاش سبعين عاما لم يكف خلالها لحظة من لحظات حياته عن الاطلاع والإنتاج في رأي الدكتور محمود الربيعي وهو الذي كان ينظر إلي الأمور بواقعية شديدة ويدرس الموقف من جوانبه كافة كما يراه الدكتور حمدي السك,
كما كان واحدا من القلائل الذين يحسنون تنظيم الوقت ويجيدون تقسيم العمل ويتقنون التخطيط لما يريدون في رأي الدكتور محمد حماسة عبداللطيف, وهو صمام أمان لكل مشروع ثقافي كبير بما يمتلكه من رحابة علمية وحس نقدي وسداد في النظر. كما يراه عبدالعزيز السريع جميعا كلمات تتركز فيها شهادات أصحابها ورؤاهم البحثية والدراسية من حول شخصية علمية فريدة استحوذت علي محبة الجميع ومودتهم وتقديرهم, وتركت أثرا لايمحي ولا يزول في وجدان كل من عرفوه عن كثب وأتيحت لهم زمالته أو صداقته أو التلمذة عليه
من بين الشهادات التي حفل بها الكتاب الشهادة البديعة للدكتور محمود الربيعي التي جعل عنوانها: إلي صديق العمر الجميل: أحمد مختار عمر, ويقول فيها: كان مختار في تحصيله نموذجا فريدا للدأب والمثابرة والحصافة والتفكر والتدبر, وقد أصبح بفضل هذا من قبل أن تنتهي فترة الطلب ــ
عليما بأسرار الديانات واللغي
له خطرات تفضح الناس والكتبا
وقد أهلته قدراته لأن يكون السابق في مضمار الدراسة بين أقرانه, فكان يجئ أول الدفعة في جميع السنوات, وحين تخرجنا في دار العلوم سنة1958 جئت تاليا له ــ علي رأس القائمة ــ وأصبحنا معيدين في كليتنا, فأتاح لنا ذلك صحبة طويلة أخري لم يضع لها خاتمةه.
تخرجنا معا في البيئة الثقافية التي كانت تعج بها القاهرة في خمسينيات القرن الماضي, والتصقنا بغراء المعرفة, فصرنا كالتوأم, وأصبح اسمانا يذكران دائما مقترنين, وفي سنة1960 سبقته لطلب العلم في انجلترا, ولحق بي هو بعد قليل ليطلب العلم في ن كنت أنا طالبا في جامعة لندن. وأتذكر بوضوح الليلة الباردة الماطرة التي استقبلته فيها في مطار هيثرو
وفي البيئة البريطانية الجديدة ــ التي لاتكاد تمت بصلة مادية أو معنوية إلي البيئة الأزهرية الدرعمية التي خلفناها وراءنا, واجهنا ألوانا جديدة من التفكير والنظر ضيقت من مسلماتنا ووسعت من اهتماماتنا
وقد رأيت مختار عبر السنوات ــ في البيئة الجديدة ــ يتحرك بمرونة بالغة, من علم النحو إلي علم اللغة أي من المحلي إلي العالمي. هنا وجد ضالته فأبحر في مجالات لا محدودة, وامتحن طاقاته العاملة المنتجة فطاوعته بما مكنه من إنجازاته الكبري التي جعلته علأعلام الدرس اللغوي في العالم العربي, لقد استقر في نفسي نتيجة لما قرأت من إنتاجه ــ ولم أقرأ إنتاجه كله ــ أن ما أنجزه في مجالات علم الأصوات وعلم الدلالة وعلم المعاجم سيبقي عوامل فاعلة في تطوير الدرس اللغوي العربي الحديث, وسيوفر زادا مفيدا لأجيال الين في شتي أرجاء الوطن العربي.
وقد بهرني ــ بصفة خاصة ــ ما لاحظته لديه من اتساع دائرة الصحة اللغوية وتقلص دائرة الخطأ, وتلك هي العلامة التي لاتخطئ عندي علي المرونة العقلية, وتجاوز قشور المعرفة, والوقوف علي لبها وجوهرها. وأعول في هذا علي تجربتي الشخصية معه حين أقول إنني عنده دائما احتمالا من احتمالات الصحة في كل مسألة يميل دعاة الحفاظ علي اللغة إلي إصدار حكم نهائي بالتخطئة وغلق باب الاجتهاد فيها, ذلك لأنه لم يكن يستريح مطلقا ــ وهو صاحب العقل النشط والذاكرة المتوقدة والبصيرة النافذة والنظرة الشاملة والفؤاد الذكي ــ إلتحمل مسئولية غلق باب الاجتهاد.
ولم يفت الدكتور الربيعي أن يرصع شهادته بلآلئ مشعة من شعر المتنبي تنطق بما سكت هو عن بيانه, أو تؤكد ما قصد إليه في تبيانه, فهو يصف مختار بأنه ــ منذ يفاعته ــ شيخ في الشباب بتعبير المتنبي, وأنه كان وافر النشاط والديناميكية علي نحو لافت لنظر الوكان يخيل إلي أن الحياة أنضجته قبل الأوان, وأن المتنبي كان يصفه فيمن يصف حين قالترعرع الملك الأستاذ مكتهلا
قبل اكتهال, أديبا قبل تأديمجربا فهما من قبل تجربة
مهذبا كرما من قبل تهذيب
حتي أصاب من الدنيا نهايتها
وهمه في ابتداءات وتشبيب
وفي شهادة الدكتور أحمد كشك ــ عميد كلية دار العلوم ــ ما يكشف عن تماسك الضوابط العلمية ــ لدي الدكتور أحمد مختار عمر ــ مع الضوابط الأخلاقية, فهو مع العدل في كتاباته وفي الاعتراف بالآخر, وفي وزن الأفكار والأمور وزن القاضي الذي يدرك أن الحق غايته ومه, فهو إنسان منضبط متحضر, يعرف للآخرين حقهم كما يعرف حق نفسه. وهو عاشق العربية التي أحكم رؤيتها مستخدما أنقي الوسائل المعاصرة, فمن خلال إطلالة أوروبية استطاع أن يمسك بأمرها دون افتعال. ورغم وثاقة الدرس الأوروبي لديه لم يطنطن به. كمان وإنما أضحت هذه الإطلالة نافذة ووسيلة لكشف العربية ذات الهمة والجلال. كما يلتفت الدكتور كشك إلي ما تميز به الدكتور أحمد مختار عمر من أن طريقه طريق اليسر والوضوح. فلا يوجد له مؤلف يغرب عن الدارس أو يستعصي عليه, ومن أجل ذلك هو مورد واضح ومرجع لك في حقل اللغة.وإذا أردت المصطلح لديه دون لف أو دوران وجدته. وإذا أردت النبر والتنغيم والمقطع وأحدث ما وصل إليه الدرس اللغوي من مناهج وجدت ذلك كله سهلا ميسورا دون مشقة أو عناء, فلغته لغة اليسر والسهولة والوضوح, وهي لغة تصل إلي مرادها من أقصر طريق. وهو جامنظر والتطبيق.
وهم التطبيق لديه يمثل أرقه, فهو الباحث من خلال ملكاته وقدراته في الإذاعة والتليفزيون وفي الصحافة وفي المجتمعات الأكاديمية والمجمع اللغوي عن امتلاك قدرة الصواب والبحث عن طريق سوي للغة الاستعمال, فضلا عن وضوح إيمانه بعمل الفريق, ومن ثم كان أقدر اين علي العمل الموسوعي خاصة في حقل الدراسات المعجمية من خلال توفير طاقات الدارسين في عمل جماعي دقيق موحد.
إن صدور الكتاب التذكاري: عاشق اللغة العربية: العالم الجليل الدكتور أحمد مختار عمر ــ بعد أكثر من عام علي رحيله ــ هو لمسة وفاء وتقدير من مؤسسة البابطين التي اختصها الراحل الكبير بالموفور من جهده ونشاطه في سنواته الأخيرة مستشارا لمعجميها الشعريين النخبة المتميزة من أصدقائه وزملائه وتلامذته ومريديه الذين شاركوا بشهاداتهم ودراساتهم, ومن عبدالعزيز السريع وماجد الحكواتي اللذين أعدا الكتاب للصدور, فأتاحوا جميعا لعطره الباقي مزيدا من الفوحان, ولمشروعه اللغوي المتكامل أقباسا من الكشف والتقييملي.
التعليقات