ما بين “نهاية التاريخ” و”نهاية الإنسان” مسافة تصل إلى عقد من الزمن، كان كافياً لأن يغير المفكر الأمريكي ذو الأصل الياباني، فرنسيس فوكوياما، الكثير من قناعاته، كذلك تحالفاته، لنقل، عقده الوثيق مع المحافظين الجدد والذي يتعرض هذا الأيام لانفراط عقده.
مع بداية عقد التسعينات من القرن المنصرم، راح فوكوياما يبشر بنهاية حميدة للتاريخ، فقد وصلت القبيلة الشقراء المحظوظة (أمريكا) إلى سقف التاريخ الليبرالي، وإلى سدرة منتهى الحضارة وما على الشعوب الأخرى، شعوب العالم الرابع، إلا أن تحتذي حذو راعي البقر الأمريكي، وهنا يحلو لفوكوياما أن يستعير من أفلام الويسترن (الكاوبوي) معظم بواعث التعبير عن تجربته، فقد شبّه فوكوياما مسيرة البشرية بمجموعة من العربات التي تجتاز الممر الجبلي الضيق باتجاه سقف التاريخ، لافتاً النظر إلى كثرة السهام (سهام الهنود الحمر) التي تنوش العربات الخلفية.
لم يلتفت فوكوياما إلى الهنود الحمر، ولا إلى من سمّاهم “البرابرة الجدد”، ويقصد بذلك، بحسب تعريفه “ذلك الخليط العجيب من الأشكال الاجتماعية القديمة والتكنولوجيا الحديثة”. فهذا “الخليط العجيب” والمنتجات “الخليطة” لا حظّ لها في الاستمرار طويلاً، والتشديد له. من هنا نفسر دعوته للشريف الأمريكي لأن ينام ملء جفنيه، فالبرابرة ليسوا على الأبواب كما يشهد على ذلك الفصل السابع من كتابه سالف الذكر. فنحن والقول له لسنا مهددين من برابرة حقيقيين يجهلون قدرة علم الفيزياء الحديثة، بهذا يكون فوكوياما قد ضمن للقبيلة الشقراء القدرة على تسلق سقف التاريخ من دون أن يعكر صفوها أحد. وعليها أن تمضي في هذا المجال إلى هدفها مباشرة، فلا يمكن للتاريخ أن يعود القهقرى، ولا حتى لرجات التاريخ الدائري الذي لم يعد قابلاً للتصور والارتداد كما يرى فوكوياما.
مع نهاية الألفية الثانية، راح فوكوياما يشكك بتبشيريته السابقة، فسقف التاريخ الأمريكاني مثل جبل الأولمب في الميثولوجيا الإغريقية، مسكون بالمسوخ التي من شأنها أن تكتب لنا “نهاية التاريخ” و”نهاية الإنسان” وتهدم سقف التاريخ على ما فيه.
في كتابه “نهاية الإنسان” الصادر مع بداية الألفية، لم يكترث فوكوياما بأحداث الحادي عشر من سبتمبر/ ايلول ،2001 التي لا تزيد عن كونها ردود فعل يائسة للأصولية الإسلامية التي سيكتسحها عاجلاً أم آجلاً المد الأعرض للتحديث على حد تعبيره في مقدمة الكتاب. وإنما راح يلفت النظر إلى ما سماه “الإرهاب البيولوجي” الذي من شأنه أن يكتب لنا وبصورة فاجعة نهاية التاريخ ونهاية الإنسان. وما يقصده فوكوياما بالإرهاب البيولوجي،هو التقدم الحاصل في حقل “البيوتكنولوجيا” الذي يقوده برابرة حداثويون من أبناء البلدان المتقدمة والذي يلوح بالقدرة على إعادة تشكيل الإنسان من جديد، من خلال التقدم في مجال الخلايا الجذعية والعقاقير الجديدة وبالأخص ما يقوم به الأثرياء من فرز للأجنة قبل أن تزرع في الرحم كي يولدوا أطفالاً لهم أقرب إلى الكمال. وهنا تكمن المخاوف الحقيقية، والعواقب الوخيمة التي من شأنها أن تهدم سقف التاريخ على من فيه، وليست المخاوف من أسلحة الدمار الشامل التي هي أسهل على المراقبة مما يجري في حقل البيوتكنولوجيا التي تهدد بولادة المسوخ.
كما أسلفت، فإن آراء فوكوياما بأحداث الحادي عشر من سبتمبر التي لم تلق أي اهتمام عنده، كذلك عدم اكتراثه بأسلحة الدمار الشامل التي كانت بمثابة ذريعة للولايات المتحدة الأمريكية لاحتلال العراق، كانت بمثابة توطئة لخروجه من حلف المحافظين، خاصة أن علاقة جيدة تربطه مع وولفويتز الرائي الأكبر في الحملة الصليبية لإشاعة الديمقراطية في الشرق الأوسط كما ينعته نعوم تشومسكي. واقع الحال الأمريكي، كما تشير “نيويورك تايمز” 25/8/2004 أن فوكوياما بدأ يخسر نفوذه وحظوته داخل صف المحافظين الذي يشهد تصدعاً بعد فضيحة التجسس “الإسرائيلي” الأخيرة. فقد أعلن مراراً أنه لا يؤيد الحرب الأمريكية على الإرهاب والتي انتهت باحتلال بغداد، وبدا مشككاً بما يقوله زملاؤه عن عراق ديمقراطي وعن الإرهاب الإسلامي الذي يجري الترويج له في دوائر الغستابو الأمريكي. فمن وجهة نظره أن الإرهاب الإسلامي لا يشكل خطراً وجودياً على الولايات المتحدة، ولا خطراً هتلرياً كما يحلو لصديقه كراوتامر أن يصفه.
لا يطمح فوكوياما للخروج من جنة المحافظين، إلا ن آراءه تمهد إلى طرده لاحقاً من جنة المحافظين التي تشهد تصدعاً حقيقياً هذه الأيام؟
التعليقات