عندما بدأ استخدام الإنترنت في أوساط مجتمعنا المحافظ بدأ مستخدموه كمن يخرج قدماً مترددة يتلمس بها طريقاً أمامه لا يعرف عنه شيئاً، كان هناك نوع من الحذر مغلف بالاحساس بلذة المغامرة وتوقع للمفاجآت، لذا كانت بدايته حالمه، رقيقة، قريبة عهد بخجل التصريح والبعد عن التجريح، وشيئاً فشيئاً اكتشف مستخدمه أن الطريق الذي كان يتلمسه بحذر هو طريق آمن يمكن السير فوقه بثقة والجري فيه بدون خجل، وساهمت فكرة الأسماء الرمزية والشخصيات المجهولة في خلق نوع من القوة للمستخدم، فقد بات بوسعه أن يعبر عن رأيه أو يتطاول، أو يجرح ويفضح ويأكل من لحم أخيه ما طاب له دون أن يجد من يردعه، فها هو خلف اسم مستعار يكتب وبوسعه متى أراد أن يخلق عصابة من الأسماء الوهمية تتبادل الكلام وتفجر القضايا، وأصبحت كل شخصية عامة أو خاصة صيداً سهلاً لتلك الكائنات الإنترنتية الشبحية، فبسهولة يمكن أن يتحدد اسم عام ليصبح الوليمة الفاخرة أمام خفافيش الإنترنت، ويتبادر هؤلاء على تقطيع لحمه ومص دمه، ولم يستثنَ من هذا الأمر كبير أو صغير، فطال التطاول كل إنسان وتجمعت الخفافيش فوق كل سطح وأصبحت الإنترنت وسيلة من وسائل الانتقام الحديثة، تضاهي في قوتها عقاب التشهير القديم حين كان يؤمر بالمذنب فيطاف به على رؤوس الأشهاد رابضاً بالمقلوب فوق حمار!!
ولعل أكثر الفئات تعرضاً لهذا الأمر هم الكُتّاب، طبعاً بعد الفنانين والسياسيين.. فلم يشهد زمن من الأزمان ما يشهده زماننا من تطاول على أصحاب الكلمة، فكل سطر يكتبونه يتعرض لنار الألسنة والتعليقات ولا يكتفي المعلقون بتحميل المكتوب ما ليس فيه وإنما يتعدون ذلك دائماً بالخوض في شخص الكاتب وشخصيته، وأصبح الذين كانوا بالأمس ثلة تلوك الكاتب في مجلس خاص لا يتجاوز تأثيره بضعة أمتار مربعة، يعرفون أن بوسعهم أن يتجاوزوا بانتقامهم الحدود والقارات وأن يسمعوا كل المعمورة صوتهم ورأيهم وما تجود به قرائحهم، غافلين عن وزر يحملونه فوق أكتافهم إلى يوم القيامة حين أصبحت النميمة عالمية عابرة للقارات.
كما استخدم خفافيش الإنترنت أيضاً البريد الإلكتروني لكي يساهموا برسائلهم في حرق دم الكتاب والتطاول عليهم بدءاً من شخوصهم وانتهاء بعائلاتهم!!
والمتتبع لهذه الظاهرة الغريبة عن مجتمعنا ديناً وخلقاً يجد أن منشأها هو عنترية قديمة ما زالت تعشش في عقول بعض الناس، فهم عندما يجرحون ويتطاولون إنما يفرغون شحنة وطاقة غباء لديهم ويقنعون أنفسهم بأنهم منجزون ومنتجون وأصحاب رأي، في حين أن كل ما حدث هو أن أصحاب العقول الضيقة انتقلوا على بساط العصر السحري من غرفهم الضيقة إلى العالم أجمع دون أن يبدلوا ملابسهم البالية..
نسأل الله أن تنتهي هذه الظاهرة وأن تتوب إلى رشدها تلكم الفئة.