لعله من الواضح الآن أن الطريقة غير الدستورية التي فرضتها القيادة السورية لحسم موضوع الاستحقاق الرئاسي في لبنان قد أفضت بهذه القيادة أنها أضحت أمام استحقاق سياسي خاص بها داخل لبنان، وبين أروقة مجلس الأمن الدولي. ففي لبنان استمرت تداعيات القرار السوري بالتمديد. ربما أن سوريا أرادت بحسم الموضوع إنهاء الجدل والصراع حوله في الداخل، وقطع الطريق على محاولات التدخل من الخارج. لكن ما حصل هو العكس تماماً. فالاعتراضات اللبنانية لا تزال تتفاعل، وتترك آثارها على العملية السياسة، وعلى التحالفات التقليدية داخل لبنان. والملاحظ هنا أن الاعتراضات اللبنانية، وإن كانت تتخذ أشكالا مختلفة تبعاً لطبيعة وقرب العلاقة مع دمشق، إلا أنها تبدو واسعة، ولا تقتصر على خصوم سوريا التقليديين. وليس أدل على ذلك من أن سوريا وجدت نفسها في صدام حتى مع الكثيرين من حلفائها. رفيق الحريري، لم يخفِ أبداً، وبصمته المطبق، أنه أذعن للضغوط، وربما للتهديدات السورية لتمرير قرار تعديل الدستور في مجلس الوزراء. صمت هذا الرجل حتى الآن، واحتفاظه بكل القنوات مفتوحة مع الجميع، المعارض والمؤيد للتمديد، تترك الانطباع أنه يعمل على أن يكون رابحاً من التمديد لخصمه اللدود. لكنها قد تعني أنه يبحث عن الفرصة أو الطريقة المناسبة للتعبير عن معارضته هو أيضاً. واللافت هنا هو استمرار التشاور بين الحريري وبين النائب الدرزي، وليد جنبلاط رغم ما يبدو من تناقض في موقفيهما من الخطوة السورية.
من جانبه قام جنبلاط يوم الإثنين الماضي، وهو أحد أصدقاء سوريا، بسحب وزرائه الثلاثة من الحكومة بعد مصادقة مجلس النواب على تعديل الدستور للسماح بتمديد رئاسة لحود لمدة ثلاث سنوات. كما استقال للسبب نفسه الوزير فارس بويز. بل لاحظت صحيفة النهار المعارضة أن قائمة المهنئين للرئيس لحود اقتصرت على المؤيدين أساساً للتمديد والمحسوبين على لحود، في حين خلت من الذين اقترعوا مع التمديد، ومن المطارنة الموارنة. هناك موجة احتجاج واضحة وواسعة ضد ما أقدمت عليه سوريا من فرض لخيار التمديد على كل اللبنانيين. لكن الغريب هو أن هذا الاحتجاج على مستوى النخبة السياسية والثقافية لم يتمكن من أن يترجم نفسه إلى احتجاج شعبي ضد السياسة السورية في لبنان. في الوقت نفسه تجب ملاحظة أن غياب الاحتجاج الشعبي هنا لا يعني أن السياسة السورية تحظى بقبول أغلبية الشعب اللبناني. الأمر الذي يعكس احتباس الخيارات السياسية على مستوى النخبة، وأن أياً من هذه النخب لم يتمكن بعد من إيجاد قاعدة شعبية له على مستوى المجتمع ككل. والسبب في ذلك يعود طبعاً إلى التركيبة الطائفية للمجتمع اللبناني. ولذلك فإن موقف أعضاء قرنة شهوان، مثلا، لابد وأنه يحظى بقاعدة شعبية ما بين الطائفة المسيحية، وخاصة المارونية. وكذلك الأمر بالنسبة للموقف السياسي لمنظمة أمل بين الشيعة، ... وهكذا بالنسبة للمنظمات الأخرى وإطارها الطائفي.
أما على المستوى الدولي، والأمم المتحدة تحديداً، فقد وجدت سوريا نفسها أمام استغلال أميركي لعنجهيتها السياسية في لبنان. تستطيع سوريا أن تشتكي وأن تحتج على هذا الاستغلال، وأن تصفه بالتدخل غير المبرر في الشؤون اللبنانية. وهي محقة في ذلك. ومن الممكن كذلك إضافة أن الولايات المتحدة، مثلا، لم تحتج على تغييرات دستورية عدة للغرض نفسه الذي هدفت إليه سوريا في لبنان، مثلما فعل الرئيس التونسي، زين العابدين بن علي، ليسمح بترشيح نفسه للمرة الثالثة، وكما فعل الرئيس المصري أيضاً. لكن كل هذا وغيره لا يبرر لسوريا أن تفرض على اللبنانيين ما هو من صميم استقلالهم وخياراتهم الدستورية، ولا يبرر لسوريا منهجها السياسي ككل الذي تتبعه في لبنان.
فأولا ما حصل في تونس ومصر وغيرهما، بالرغم من أنه غير دستوري، إلا أنه من الممكن القول إنه تم بإرادة محلية، ومن دون تدخل خارجي. أما ما حصل في لبنان فهو تدخل سوري في فرض خيارات سياسية على اللبنانيين. ومن ثم لا يستقيم أن تحتج سوريا على تدخل الآخرين في شؤون لبنان الداخلية في الوقت الذي تكون فيه هي صاحبة السبق في ذلك وبإصرار وتحد واضحين.
ثانياً، وهذا هو الأهم، فشل السوريون في ثلاثة أمور استراتيجية فيما يتعلق بعلاقتهم بلبنان: أولا: معنى العلاقة الخاصة. ثانياً: عدم المصارحة في أن الوجود العسكري السوري في لبنان، والعلاقة الخاصة تلك لم تكن لتتحقق بالسهولة التي تحققت بها من دون ضوء أخضر أميركي وإسرائيلي. ثالثاً: أن العاهل الأردني الراحل كان أحد الأطراف التي سهلت التفاهم السوري الأميركي ــ الإسرائيلي حول هذا الموضوع. من هذا الزاوية لابد أن تدرك القيادة السورية أن صورة المشهد السياسي في المنطقة تغيرت منذ انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، والغزو العراقي للكويت والتداعيات الإقليمية الضخمة التي ترتبت عليه. من أهم تلك المترتبات تعميق التحول الذي حصل للصراع العربي الإسرائيلي لناحية تدهور الموقف العربي، وهيمنة إسرائيل السياسية حتى الآن. والأهم من كل ذلك هو طبعاً سقوط بغداد تحت الاحتلال الأميركي، وتحول الولايات المتحدة، بتواجدها العسكري الكثيف في المنطقة، إلى طرف مباشر في توازنات القوة وتوازنات المصلحة في المنطقة.
أما الأمر الثالث الذي تتجاهله القيادة السورية، ولا يبدو أنها تريد مواجهته، فهو العلاقة بين إصلاح علاقتها مع لبنان بالإصلاح الداخلي في سوريا ذاتها. من دون تحقيق الإصلاح الأخير يصعب، إن لم يكن مستحيلاً إصلاح العلاقات السورية اللبنانية، وبالتالي تعديل السياسة السورية تجاه لبنان. إن سوريا، مثلها في ذلك مثل بقية الدول العربية الأخرى، لا تستطيع الخروج من المأزق الذي تجد نفسها فيه إلا من خلال تطبيق برنامج إصلاحي حقيقي وشامل يهدف إلى تحقيق الحرية والعدالة والمساواة. تأثير سوريا هنا كبير على الوضع في لبنان وعلى الخيارات اللبنانية، وليس العكس. وغياب الديمقراطية والحرية في سوريا لا يسمح لها بأن تلعب دوراً إيجابياً في مساعدة لبنان على تجاوز الحدود والاعتبارات الطائفية لتركيبته السياسية. على العكس تعمل سوريا على استغلال تلك الاعتبارات لتعميق استتباع لبنان السياسي لها. وكم كان المثقفون السوريون واللبنانيون على حق عندما أكدوا على أن "رفع الوصاية عن إرادة الشعبين وتمكينهما من اختيار ممثليهما الشرعيين هو وحده الكفيل بالحد من التدخل الخارجي، وصون الاستقلال والسيادة في كلا البلدين، وتدعيم علاقات الأخوة والتعاون بين الشعبين والدولتين".
الإشكالية الرئيسية في العلاقات السورية اللبنانية أن خصوصيتها تفهم من قبل السوريين على أنها تعني السماح لهم بالتدخل للتأثير على تركيبة الحكم في لبنان، وذلك لضمان أن التوجهات السياسية لهذا الحكم تبقى منسجمة مع الاستراتيجية السورية في المنطقة، وخاصة في موضوع الصراع مع إسرائيل. ومما يزيد الأمر تعقيداً أنه ليس هناك موقف لبناني موحد وواضح لما ينبغي أن تكون عليه علاقة لبنان مع سوريا، وعلى معنى العلاقة الخاصة معها، وإن كان هناك ما يمكن القول إنه إجماع لبناني حول صفة الخصوصية هذه. عدم الوضوح هنا هو ما يسمح للسوريين بفرض المعنى الذي يرونه لهذه الخصوصية انطلاقاً من حساباتهم السياسية أولا وأخيراً. وبهذا المعنى، يتطلب الأمر توحيد الموقف اللبناني أولا لإعطاء شيء من الوضوح والطمأنينة لسوريا.
تعتمد سوريا في تطبيق رؤيتها بشكل أساسي على تواجدها العسكري، وعلى تحالفاتها مع قوى لبنانية منقسمة على أسس طائفية. قد يبدو من الغريب أن السوريين واللبنانيين لم يتمكنوا من التوصل إلى صيغة لهذه العلاقة الخاصة تسمح للبنانيين بالاحتفاظ باستقلالهم وسيادتهم على خياراتهم السياسية، وفي الوقت نفسه تفسح المجال للتنسيق مع السوريين في موضوع السياسة الخارجية. من ناحيتها لعبت سوريا دوراً إيجابياً في تأمين الاستقرار السياسي في لبنان. تواجدها العسكري لا زال يضمن شيئاً من التوازن داخل هذا البلد . لكن سوريا، من ناحية أخرى، تعاملت مع لبنان على أنه ورقة تفاوضية في يدها، وبالتالي ضيقت كثيراً في المعنى الذي تعطيه لعلاقتها الخاصة مع هذا البلد الشقيق والمجاور. هذا في حين أن الوقت قد حان لأن تتبنى سوريا معادلة تسمح لها بالاحتفاظ بتواجدها العسكري من ناحية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية اللبنانية، من ناحية أخرى.
نجاح الولايات المتحدة وفرنسا في تمرير القرار 1559 في مجلس الأمن يعني أولا نهاية الترتيبات الإقليمية ــ الدولية التي سمحت لسوريا باستتباع لبنان. ثانياً، لفرض هذا التغيير تطلب الأمر تدويل الوجود السوري في لبنان. ثالثاً، أن صدور القرار يعني أن سوريا دخلت مرحلة المواجهة المباشرة مع الاستراتيجية الأميركية في المنطقة. وهذا يتطلب استعدادات من أهمها الإصلاح الداخلي، وإصلاح العلاقة مع لبنان.
لقد نجحت قيادة الرئيس حافظ الأسد في إدارة السياسة الخارجية باقتدار، في الوقت الذي فشلت داخلياً فشلا ذريعاً. الظروف الدولية والإقليمية آنذاك سمحت بهذه الازدواجية. أما الآن فقد انقلبت الظروف بما يفرض العناية بالجبهة الداخلية التي لا يمكن تقويتها من دون إصلاحات شاملة وجذرية في النظام السوري. ما يحصل لسوريا هو مؤشر آخر على ما تمر به المنطقة من تحولات كبيرة. العوامل الضاغطة في هذه التحولات لا تزال في أغلبها خارجية. آن الأوان أن تستبق الدول العربية الأحداث وأن تتصدى هي للتحولات المطلوبة. من دون ذلك سيأتي اليوم الذي ينظر فيه إلى هذه الدول على أنها فاشلة وعاجزة عن مواجهة التحدي الذي يتعاظم في المنطقة. حصل هذا للعراق. وهاهو يحصل في فلسطين. ولا يجوز لسوريا أن تجعل من قرار مجلس الأمن الأخير بداية للعد العكسي. يجب أن لا تسمح للآخرين بتوظيف أخطائها. وأول شيء في هذا الاتجاه هو التخلي عن المماحكة والمزايدة التي لا طائل من ورائها. هناك أخطاء، وأخطاء فادحة في سوريا ولبنان لابد من مواجهتها، ولابد من تجاوزها بشيء واحد هو الإصلاح.
التعليقات