نجح الأطراف المتصارعون في لبنان وعليه في تحويل أزمته السياسية الاقتصادية الاجتماعية مفاضلةً شخصية بين الرئيس اميل لحود وخصومه: أنت مع لحود او ضده؟ حتى بعد أن تمّ التمديد للحود ثلاث سنوات إضافية، فإن السؤال المطروح هو: أنت مع التمديد للحود أو ضده؟
يكاد التمديد للرئيس اللبناني أو رفضه يصبح غاية بذاته وليس وسيلة لغاية او غايات اخرى.
هذا هو ظاهر الحال وليس باطنه. فالأطراف المتصارعون اختاروا جميعاً هذه المفاضلة بين لحود وخصومه لأنهم، مؤيدين ومعارضين، لم يقرروا بعد الغاية او الغايات المتوخاة من وراء الموافقة على التمديد او معارضته ومناهج تحقيقها في كلتا الحالين.
فعلوا ذلك لأنهم جميعا ما زالوا ينتظرون ماذا تريد أمريكا وفرنسا مؤخرا من لبنان وسوريا في الوقت الحاضر والمستقبل القريب. والى ان تتبدى مرامي واشنطن الإقليمية عموما وفي لبنان وسوريا خصوصا فإن الصراع سيبقى شخصيا او ذا طابع شخصي بين جهتين متقابلتين: لحود وخصومه.
متى تتضح مرامي واشنطن (وباريس) في نظر الأطراف المتصارعين؟
يشير هؤلاء، مبدئيا، الى تاريخين محددين: الثالث من اكتوبر/تشرين الأول المقبل، والثالث من نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. فالتاريخ الأول يؤشر الى انتهاء مهلة الثلاثين يوما التي حددها القرار 1559 الصادر عن مجلس الأمن الدولي للامين العام للأمم المتحدة كوفي أنان كي يقدم تقريراً له عما تمّ تنفيذه من بنود قراره المذكور وما يقترحه في هذا الخصوص. التاريخ الثاني هو الموعد المنتظر لظهور نتيجة انتخابات الرئاسة الأمريكية: هل يفوز جورج دبليو بوش بولاية ثانية، ام يفوز جون كيري ويطرد الجمهوريين من البيت الأبيض؟
ولكن...هل مرامي أمريكا غامضة الى درجة يقتضي معها انتظار حلول الموعدين المشار اليهما لتتضح الأمور على نحوٍ كامل؟
الحقيقة ان مرامي أمريكا جليّة واضحة وهي إعادة هيكلة المنطقة سياسيا وثقافيا، وقد بدأت حملتها تلك في أفغانستان والعراق، ويبدو أن خطوتها التالية ستكون سوريا ولبنان.
الأطراف المتصارعون، وأبرزهم سوريا، لا تخفى عليهم مرامي أمريكا، إلاّ انهم يعتقدون أن مناهج تحقيقها ما زالت غير واضحة وانها ستتأثر بالضرورة بما سيتضمنه تقرير أنان من معطيات ومقترحات وما ستعتمده واشنطن (وباريس) في ضوئه من مبادرات وتحركات، وان الأمر سيكون على درجة أعلى من الوضوح بعد انتهاء معركة الرئاسة الأمريكية.
خلافا لهذه التقديرات، أرى ان مرامي أمريكا واضحة وكذلك نهجها، وان تقرير أنان ونتيجة الانتخابات الرئاسية قد يؤثران في فعالية التحركات الجارية، تخفيفاً او تكثيفاً، من دون ان يؤديا الى تغيير جوهري فيها. ولعلي لا أغالي بقولي إن واشنطن باشرت هجمتها على النظام السوري بقصد إسقاطه، وانها اختارت لبنان ساحةً لإضعاف هذا النظام قبل ان تتدخل “اسرائيل”، بعلمها وموافقتها او من دون علمها وبموافقتها اللاحقة دائما، لتضرب ضربتها.
وحدهم العميان لا يرون كيف ان أمريكا تمكنت أخيرا من تطويق كل من ايران وسوريا. فالأولى مطوقة غربا بالجيوش الأمريكية في العراق، وشمالاً بجمهوريات آسيا الوسطى ( السوفييتية السابقة) حيث لأمريكا قواعد عسكرية ونفوذ، وشرقا بالجيوش الامريكية في أفغانستان، وجنوباً بالأساطيل الأمريكية وباكستان حيث لأمريكا نفوذ واسع. اما سوريا فقد أصبحت مطوقة شرقا بالجيوش الأمريكية في العراق، وجنوبا ب “اسرائيل” وآلتها الحربية المتطورة، وشمالاً بتركيا حيث لأمريكا قواعد عسكرية، وتبقى جهة الغرب حيث لبنان والبحر الأبيض المتوسط حرّان نسبيا امام سوريا. لذا تبتغي أمريكا اشعال فتيل الاضطراب السياسي في لبنان لمشاغلة سوريا واستنزافها وبالتالي إرهاقها على نحوٍ يمكن معه نقل الاضطراب السياسي الى داخلها. في هذا السياق يمكن تفسير أغراض أمريكا من وراء استصدار قرار مجلس الأمن 1559. فهو مدخل لتفجير اضطرابات سياسية وأمنية في لبنان ومن ثم في سوريا، وهو منصة أيضا لشن اعتداءات “إسرائيلية” لاحقة على لبنان وسوريا معاً وتبريرها.
يبدو ان فرنسا لاحظت، من بين أمور أخرى، هذا التوجّه العدواني الأمريكي فسارعت الى الدخول على خط التطورات اللبنانية بمعارضة تمديد ولاية الرئيس لحود. ذلك بأنها فهمت التمديد بأنه تمهيد لإقصاء حليفها رفيق الحريري عن رئاسة الحكومة الامر الذي يُضعف نفوذها في الجمهورية المتقلقلة.
لكن بقاء الحريري في السلطة لا يعني أبدا تخلي فرنسا عن سياستها الجديدة التي حددها مصدر فرنسي واسع الاطلاع لجريدة “النهار” (8/9/2004) بأنها “سعي باريس كي تصبح سيادة لبنان واستقلاله ووحدة أراضيه واقعا فعليا، وهذا بالنسبة إلينا هو الهدف الأساس، وهذا هو فحوى رسالة مجلس الأمن”، أي القرار 1559.
أكثر من ذلك: لوّح المصدر الفرنسي نفسه بانعكاس قرار مجلس الأمن على مفاوضات الشراكة الأوروبية مع سوريا اذ قال: “إننا سنعمل على أن يتم الأخذ بقرار مجلس الأمن الرقم 1559 في إطار العلاقات بين سوريا والاتحاد الأوروبي. وهذا كله مسار يبدأ مع تقرير كوفي أنان الشهر المقبل. عندها نتشاور مع شركائنا ونرى اذا كان من المفضل عمل شيء”.
الهجوم الأمريكي - الصهيوني، المدعوم نسبيا بفرنسا، جاد وجدّي ولا يجوز القول تاليا ان قرار مجلس الأمن فَقَد مفعوله بمجرد تعديله وانه بات يشكّل “انتصارا نسبيا لسوريا”. هذا الكلام ينم عن ان قائليه لا يدركون أن حقائق كثيرة تكشّفت بعد احتلال العراق، وان امريكا جادة في إعادة هيكلة المنطقة، وانها و”اسرائيل” عازمتان على محاولة تطبيق هذه السياسة على سوريا ولبنان.
المطلوب إدراك الخطر الماثل والتحسب لأبعاده وانعكاساته وأضراره المحتملة، لكن دونما هلع ولا شعور بضرورة التضحية ببعض الحقوق لحماية معظمها. والمطلوب، أيضا، التذكّر بأن سوريا عانت من تطويق شبه كامل لها خلال السنوات 1956 و 1957 و 1958 يوم كانت دول حلف بغداد (تركيا والعراق وايران، والأردن ضمنا) تحيط بها من الشمال والشرق والجنوب بالإضافة الى “اسرائيل” في الجنوب الغربي، ومع ذلك تمكّنت سوريا من الصمود ومن تجاوز الصعوبات. كيف؟ بتحقيق تلاحم بين السلطة والشعب. كان الشعب يحمي سياسة الصمود والمقاومة ويدافع عن النظام لأنه كان مقتنعا بان ثمة قضية وطنية عادلة يناضل من أجلها الجميع وتستحق التضحية والصبر لتحقيق النصر.
ليس ثمة حال وطنية مشابهة في لبنان، وحتى في سوريا، هذه الأيام، في مواجهة ما يبيّته لهما العدو من عدوان. فالأزمة الاقتصادية الاجتماعية الطاحنة وما ولّدته من ضائقة معيشية، والفساد المستشري في كل الميادين والدوائر والمستويات، والصراعات الشخصية على المغانم والأسلاب أنهكت الناس وصرفتها عن الاهتمامات الوطنية بالهموم الشخصية والمعيشية.
ثمة حاجة، إذاً، الى اغتنام حدث التمديد للرئيس لحود لشحنه بإرادة متجددة ومستعرة للتغيير، والمصالحة الوطنية، والاصلاح السياسي والاقتصادي، ومحاربة الفساد، ومواجهة الضائقة المعيشية، وتوسيع قاعدة المقاومة.
أجل، يجب إشعار الناس بأن ثمة قضية وطنية واجتماعية تستأهل الالتزام بها وتعبئة الجهود من أجلها والتضحية في سياق الدفاع عنها. ولعل فاتحة ذلك تكون بالتوافق على تأليف حكومة وطنية جامعة، في إطار من مصالحة وطنية، تمثل جميع التيارات السياسية مع غالبية مريحة فيها للقوى والشخصيات الوطنية والديمقراطية الملتزمة والنظيفة، كي تنهض لتنفيذ برنامج للإصلاح الديمقراطي السياسي والاقتصادي، يكفل اعادة تكوين السلطات العامة، وحماية الحريات العامة، ومعالجة الاختلالات المالية والمديونية العامة، وتحقيق الإنماء المتوازن ومواجهة التحديات الخارجية بشتى أشكالها وأنواعها.
باختصار، يجب ان يكون للشعب قضية كي يسترخص التضحية من اجل الأهداف الأساسية والمصيرية. أليس كذلك؟
التعليقات