لم تفلح هجمات الحادي عشر من سبتمبر، في خلق الهوة الحضارية التي تريد، إنما أفلحت في تعريض الحضارة لذلك الخطر. وأكثر من ذلك، فقد وفرت الهجمات وما بعدها، بيئة خصبة لنشاط "الإرهابيين" العازمين على توسيع الفجوة بين الشرق والغرب، وتحويلها إلى هوة يتعذر سدها. ها هي ثلاثة أعوام كاملة مرت الآن على تلك الهجمات، وخلالها لا يزال يسمع صوت المنطق والعقل والتوسط، بيد أن الجماعات "الإرهابية" المتطرفة، لا تزال هي المستثمر للشعور بالغضب والألم والخوف الذي يسود كلتا الحضارتين. وعليه، فلابد من بذل المزيد من الجهد في سبيل التصدي للقوى السلبية هذه. ومع أن إحدى العبارات التي باتت شائعة الآن على نطاق واسع، هي أن العالم تغير في أعقاب الهجمات، إلا أن الذي لا يزال مطروحاً للتأمل والتفكير، هو كيف وبأية درجة تغير العالم؟

هنا في الولايات المتحدة الأميركية، فإن أثر تلك الهجمات، لا يزال يخيم بيننا ثقيلا وكثيف الظل. فهناك الثلاثة آلاف أسرة من أسر الضحايا والمكلومين، ومعهم الشعب الأميركي كله، الذي عايشهم الألم والأحزان. وبالنسبة لهؤلاء جميعاً، فإن الحادي عشر من سبتمبر، يظل يوماً لتجدد أحزان لا تنتهي مطلقاً، سواء على المفقودين، أم على ما طرأ على الحياة نفسها من تغيير لا سبيل إلى محو آثاره، لكونه حدث مرة واحدة وإلى الأبد. فقد تغيرت البلاد بأسرها، تغييراً لا يقف عند حدود مزاج المواطنين فحسب. وفي حين شملت التوصيات المقدمة من عدة جهات، قوائم طويلة بما يجب فعله من أجل تحسين مستوى الأمن القومي وتوفير الطمأنينة للمواطنين، إلا أن هذه التوصيات لم تنفذ بعد، ولا تزال الفروق الحقيقية في حياة الناس اليومية، على أوضح ما تكون، بين ما قبل وما بعد الهجمات.

ففي واشنطن العاصمة مثلا، توجد الآن 17 نقطة من نقاط التفتيش، تنتهي بالأخيرة المؤدية إلى مقر الكونجرس. وقد تثير هذه النقاط شعوراً بالضيق لدى البعض. وقد ينظر إليها آخرون على أنها ضرورة أمنية لابد منها، وخطوة احترازية اقتضتها الضرورة. غير أنها تبقى بمثابة تذكرة ثابتة للجميع، بحقيقة جديدة على الحياة الأميركية، مفادها أننا بتنا نعيش مرحلة من حياتنا، لم نعد نشعر فيها بالأمان.

أما إجراءات الأمن في المطارات، فقد طرأ عليها تغيير، ما كان ليتخيله أحد قبل نحو ثلاثين عاماً. والمثير للملاحظة أن إجراءات التفتيش ذاتها المعمول بها حالياً في المطارات، من تفتيش شخصي، وتفتيش عن المعادن والأسلحة، وتصوير أمني بالكاميرات، قد انسحبت على مجالات واسعة من الحياة اليومية، سواء في المصالح والدوائر الحكومية الأخرى، أم في مكاتب وشركات القطاع الخاص، والأماكن العامة.

ثم إن الحياة الأميركية تغيرت في جوانب ووجوه أخرى عقب الهجمات، سيما بالنسبة للعرب الأميركيين، وغيرهم من المجموعات الأخرى المهاجرة. وشملت أوجه التغيير هذه، الاعتقالات والترحيل والاستدعاءات للمكاتب الأمنية والاستخباراتية، وغيرها من الإجراءات التي اعتمدت على استخدام الانتماء العرقي والثقافي للمواطنين والمقيمين والزوار على حد سواء، في اتخاذ الإجراءات الأمنية ضدهم. وعلى رغم أن تعاون أفراد هذه الجاليات ومؤسساتهم مع الأجهزة الأمنية قد ازداد، وانحسر الكثير من المضايقات، وأشكال التمييز التي تعرضت لها عقب الهجمات مباشرة، إلا أن الخوف من الاستهداف لا يزال قائما، وكذلك الخوف من أن ينقر على باب شقة أحدهم طارق من "زوار الليل"، فيؤخذ المرء إلى مكان لا يدري ما سيحدث له فيه، ولا ما سيثار ضده من اتهامات.

ويضاف إلى ذلك كله، أن الأحداث نفسها في منطقة الشرق الأوسط، وما صحبها من سياسات أميركية في أعقاب الهجمات، قد زادت الطين بلة، وعززت مشاعر الكراهية ضد الأميركيين، مما يعني أنها زادت الوضع القومي الأمني والإقليمي والدولي سوءاً. ذلك أن فلسطين والعراق، تحولتا إلى حقول للكراهية والموت. ففي العراق وحده، جرى قتل أكثر من 1000 جندي أميركي. وفي فلسطين، جرى اغتيال ما يزيد على ألف إسرائيلي، مقابل مصرع ثلاثة آلاف فلسطيني. وفي كلا البلدين نجد أعداداً لا تحصي من المصابين في كلا الطرفين المتنازعين. وعليه فإن الترجمة اللغوية الوحيدة لهذه الإحصاءات هي: "نحن والضد الآخر"! وهذا هو عين المناخ الذي يستثمره "الإرهابيون" والمتطرفون، ويسعون لتوسيع نطاقه وتعميق هوته.