محمد الحسن أحمد: اضطربت مسالك السياسة الأمريكية إزاء السودان بشكل لافت ومثير. فبعد أن كانت الإدارة الأمريكية ترمي بثقلها وراء إنجاز اتفاق السلام بين الشمال والجنوب الى درجة توجه كولن باول الى منتجع نيفاشا بكينيا، حيث كانت تجري المفاوضات بين الحكومة وحركة قرنق بهدف الإسراع في الوصول الى اتفاق السلام حتى يكون ذلك الإنجاز إحدى ركائز إنجازات البطاقة البوشية للانتخابات الحامية الوطيس الآن، انعكست الصورة الآن، حيث تبالغ هذه الإدارة في المجادلة الآن في مجلس الأمن طلباً لإنزال أشد العقوبات على السودان، بمزاعم التطهير العرقي والإبادة الجماعية في دارفور مما يعني تحولاً يثير الكثير من علامات الاستفهام!

لكن المفارقة العجيبة أن الهدف الانتخابي المقصود منه الفوز بأغلبية أصوات الناخبين الأمريكيين السود ما زال على البطاقة، فبعد أن كان السلام يعني أن الرئيس بوش قد أطفأ نار أطول الحروب في القارة الإفريقية وجلب السلام للمسيحيين السود في السودان، تحول العنوان الى أن الرئيس بوش أصبح يشدد الضغوط على الحكومة ويهدد بإنزال أقسى العقوبات عليها لكونها تمارس تطهيراً عرقياً وإبادة جماعية على العنصر الإفريقي في غرب السودان.

لقد أصبح قدر السودان أن يكون حاضراً في الانتخابات ليس بالنسبة لحملة بوش فحسب، وإنما حملة منافسه كيري أيضاً. أولم يجمع أعضاء الكونجرس، الديمقراطيون والجمهوريون، عبر مزايدات مفضوحة على أن السودان مارس تطهيراً عرقياً وإبادة جماعية في الوقت الذي كان فيه كولن باول يردد عقب عودته من دارفور أنه ومن معه من المستشارين القانونيين لم يلمسوا حججاً دامغة على وجود تطهير عرقي وإبادة جماعية؟ لا شك في أن هذا الإجماع كان سببه أن عيون الجميع مصوبة على الانتخابات والرغبة في كسب أصوات الأمريكان السود، بالنسبة لبوش أو كيري؟

الآن بدّل كولن باول موقفه وانضم الى صفوف المزايدين، فقد خاطب لجنة الاستماع في الكونجرس ونطق بما يصب في مصلحة البطاقة الانتخابية عندما قال في توصيف جديد للأزمة في دارفور، إنها عمليات إبادة جماعية وإن الأدلة التي جمعتها بلاده تعضد ارتكاب إبادة جماعية، وربما أن العمليات ما زالت مستمرة. وأضاف: “إن الولايات المتحدة اقترحت مسودة قرار على مجلس الأمن يطالب بإجراء تحقيق شامل”. ويهدد المشروع الأمريكي بفرض عقوبات نفطية على السودان إذا لم يوقف الانتهاكات، كما يطالب بتوسيع قوة الاتحاد الإفريقي في إقليم دارفور ليكون قوامها أكثر من 3000 جندي وأن يكون حفظ السلام من مهامها أيضاً.

وبالرغم من كل هذا التلطيخ لسمعة السودان، دولةً وشعباً، فإن كولن باول يعلم أن مشروع القرار المطروح على المجلس لن يفوز في كل الأحوال، وهذا ليس مهماً، وإنما المهم بالنسبة له هو الفوز بأصوات الناخبين السود لمصلحة بوش، ولهذا يقول باول في معرض المداولات في لجنة السياسة الخارجية انه “لا يوجد لدى واشنطن أي اتجاه لفرض عقوبات أحادية على السودان، لأنها غير مجدية نسبة لعدم وجود تبادل تجاري وتعاون اقتصادي بين البلدين، كذلك فإنه غير واثق بمرور مشروع العقوبات الذي طرحته بلاده على مجلس الأمن، لأن الصين وباكستان تعارضان فرض العقوبات لاعتقادهما بعدم جدواها في تغيير سلوك الخرطوم. وعندما سأل زعيم الأغلبية في الكونجرس باول عن احتمالات إجهاض العقوبات لعملية سلام الجنوب التي تم التوصل إليها في نيفاشا وإمكانية تحوّل السودان الى صومال آخر، تراجع باول وتناقض مع نفسه وهو يقول “إن الولايات المتحدة ليس خيارها فرض عقوبات على الخرطوم”، لكنه شدد على ضرورة تعاون الحكومة لوقف الفظائع والعنف في دارفور ونزع سلاح ميليشيات “الجنجويد”.

إذا جاز لنا أن نتأمل تلك الفقرات المنقولة عن وزير الخارجية باول فإننا بكل تأكيد نجد فيها قدراً لا يستهان به من التناقض والارتباك، فإذا كان هو لا يرى إمكانية لتمرير مشروع القرار، يكون السؤال لماذا قدمت الولايات المتحدة الاقتراح؟ ثم إذا كانت الولايات المتحدة لا ترى جدوى من فرض العقوبات فلماذا التلويح بها؟ وإذا كانت الإدارة الأمريكية متفهمة أن التضييق على حكومة السودان يمكن أن يضعف احتمالات الوصول الى سلام نيفاشا، فلماذا تبالغ في الضغط على الحكومة؟

هذه الأسئلة ليس هناك من جواب منطقي أو مقنع من باول عنها. والجواب الوحيد هو أن كل هذه الفرقعة المقصود منها كسب أصوات الناخبين السود لمصلحة حملة بوش الانتخابية. ولكن السؤال الذي لا يوجد أي جواب عنه هو، لماذا تلطيخ سمعة السودان بهذه التهم الجزافية لقاء كسب أصوات الناخبين من دون أي اعتبار للضرر الذي سيلتصق به عبر العالم، والذي قد يؤدي الى تمزيق وحدة نسيجه الاجتماعي وتفكيك وحدته؟ في الغالب الأعم أن الجواب هو أن كل شيء يهون في سبيل كسب بوش رئاسة ثانية، بما في ذلك سمعة السودان ومكانة السودان. ولكن هل المرشح الآخر جون كيري سيستكين ويترك الأمر عند هذا الحد وهو يرى أن الفارق بينهما في الأصوات قليل، ولا بد أن يلهث وراء أي مجموعة من الأصوات؟ لا ريب أنه سيتحرك في بورصة المزايدت ويعتبر أن إدارة بوش مقصرة لأنها لم تفعل كل ما هو مطلوب لردع السودان ولإنقاذ أرواح الأفارقة من ذبح العرب الشماليين لهم، وساعتها ستضطر إدارة بوش لتزايد عليه أيضاً وسيكون السودان عرضة للمزيد من التهديد والوعيد وربما لما هو أسوأ.

وأغلب الظن أن السودان سيكون حاضراً في سوق المزايدات بين الحزبين حتى انتهاء حمى الانتخابات الأمريكية، وحتى ذلك الحين سيكون عرضة للتشويه والتشويش لأنه من سوء حظه ان أدخله في المبتدأ بوش ضمن بطاقته الانتخابية ودارت الدوائر فأصبح أيضاً ضمن منظومة منافسه جون كيري.
ولعل كل ما يطمح إليه أهل السودان هو ألا تتصاعد سوق المزايدات بين الحزبين والمرشحين الى درجة تبلغ حد إلحاق المزيد من الأذى بالسودان خلال الفترة القصيرة المتبقية على إجراء الانتخابات.

وفي كل الأحوال لا يبدو في الأفق أن السودان سينعم بالسلام أو الاستقرار قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية، لأن نهش القوتين الرئيسيتين المتصارعتين في الانتخابات الأمريكية لن يتوقف ما لم تصل الانتخابات الى نهايتها، وساعتها سيكون لكل حادث حديث.