ريم الصالح*: في لقاء أجري مع أحلام مستغانمي، سئلت فيه عن رأيها في غادة السمان فأجابت: «بصراحة لا أنسى جميلها، احتضنتني حين جئت الى بيروت واحتفت بي ودلتني على ناشري، هي جميلة انسانيا لكن مشكلتي مع غادة أنها بلا قضية، ويؤلمني أن أقول هذا فأنا أقيس الكاتب بقضيته لا بلغته، غادة تتفوق علي موهبة ولغة، هي خلقت لغة احتمينا بها في بداياتنا كانت الكاسحة التي شقت الطريق الثلجي أمامنا لكنني لا أجد نفسي في كتاباتها ففي كل كتاباتها لا تكاد تجد كلمة وطن أو شهيد».
انتهى كلام الكاتبة أحلام مستغانمي التي أعترف بأنني من أشد المعجبات بروايتيها «ذاكرة الجسد» و«فوضى الحواس» بل أعتبر أن قراءة حروف أحلام مستغانمي نوع من المجازفة المخيفة التي تجعلك تغمض عينيك وتطبق الكتاب وأنت تقرأه، لكنني أستغرب هذا التصريح الناري الذي أطلقته على أدب غادة السمان والحكم القاطع عليها بأنها بلا قضية والغاء تجربة أربعين عاما انقطعت خلالها الكاتبة للكتابة برهبانية مدهشة، وابتعدت عن المهرجانات والأضواء واللقاءات التلفزيونية والاذاعية، وأنتجت خلالها أكثر من أربعين كتابا في مجال الرواية والنصوص الشعرية والقصة القصيرة والتحقيقات والمقالات.. أليس تفرغها للكتابة كل هذه السنوات قضية؟
اليس احياؤها للغة العربية واخراجها من قوالبها الجامدة وتحويلها الى مهرجان من الألعاب النارية قضية؟ أليست المغاور التي تفتحها في قلب قارئها والألغام التي تزرعها في عقله قضية؟ أليس إخلاصها للحقيقة وسعيها لمساعدتنا على فهم أنفسنا وما يدور حولنا قضية؟ وحتى بعد أربعين عاما لا تزال هذه الكاتبة قادرة على أن تقدم لقارئها الجديد الذي يجعله يرفع حاجبه دهشة واعجابا بما تكتب.. واذا كانت الكاتبة تقصد القضية بالمعنى السياسي فقد قدمت غادة الكثير.
في مجموعتها «رحيل المرافئ القديمة» على سبيل المثال تناولت هزيمة 76 في قالب ابداعي خالد وفي روايتها «بيروت 75» تنبأت الكاتبة بالحرب الأهلية اللبنانية التي وقعت بعد نشر الرواية بأشهر، وفي روايتها «كوابيس بيروت» التي ترجمت مع كتب أخرى الى عدة لغات أجنبية وضعت الحرب اللبنانية على المشرحة في ملحمة ثرية بعيدا عن التفسير السطحي الدارج بأن الحرب كانت مجرد صراع ديني.
وفي كتب الرحلات قطعت الأرض عرضا وطولا ورصدت العالم لتساعدنا على اكتشاف أنفسنا وموقعنا، وفي روايتها «الرواية المستحيلة» رسمت فسيفساء دمشقية تجعلك تشم رائحة الياسمين وتحيا الحياة السورية القديمة بكل أمثالها وتفاصيلها وتناقضاتها عبر عيني طفلة دمشقية صغيرة. ألم تكن هي المؤسِّسة الأولى لأدب الرسائل في إقدامها على نشر رسائل غسان كنفاني وعلمتنا بعدها درسا في الجرأة واقلاق مؤسسات النفاق عندما لم تتبرأ من مسؤوليتها فجمعت كل ما قيل حول الكتاب بما في ذلك التجريح الشخصي وأضافته في ملحق الطبعات التالية من الكتاب.
كأنها كانت تريد أن تضع قارئها أمام التجربة كاملة، تجربة نشر الرسائل وردود فعل أفراد القبيلة الثقافية عليها.. ثم أن هذا التصريح لأديبة بحجم أحلام مستغانمي يثير أسئلة حول قضية الكاتب؟ اذا كانت غادة قد ابتعدت عن الخطابة والشعارات فهذه شهادة لصالح فنها وليس العكس. في رأيي ليس مطلوبا من المبدع أن تكون له قضية، تماما كما أنه ليس مطلوبا منه أن يكون مفلسا أو معاديا للسلطة أو حتى مثاليا أو قديسا وغير ذلك من الصفات الفيزيائية والاجتماعية والشعاراتية. المطلوب من المبدع هو شرط وحيد بسيط معقد نادر هو أن يكون ببساطة: مبدعا وقضيته هي ببساطة في ابداعه، وأستطيع أن أستعير الآن عبارة من تصريح أحلام نفسه حين قالت: «كانت غادة السمان هي الكاسحة التي شقت الطريق الثلجي أمامنا». أليست هذه بحد ذاتها قضية لا يستهان بها؟ أنها استطاعت أن تفتح المجال أمام الكاتبات العربيات للكتابة والابداع. ثم أن المبدع متحيز بالضرورة للحرية والجمال والمحبة، فقضيته كونية وانسانية، وكلما استطاع أن يتحرر من الآيديولوجيا والأحزاب والشعارات التي تكبله والتصق بانسانيته قبل كل شيء واحتفظ بعين الطفل التي ترى كل شيء بدون مواقف مسبقة، نجح في تقديم أدب جيد، تقول الكاتبة إن غادة بلا قضية لأنها «لا تجد كلمة وطن في كتاباتها».
ان كتب غادة لا تتكرر فيها كلمة أكثر من الوطن، حتى الحب لا يذكر كما يذكر الوطن بل أعتقد أنه اذا كان هناك شيء أضعف أدب غادة من وجهة نظري فأعتقد أنه حلم الوحدة العربية الذي يسيطر عليها ويكبلها وكثيرا ما يراودها عن فنها، فكاتبة بحجم غادة وموهبتها كان يفترض أن تكون لها نظرة كونية انسانية أبعد من المفهوم الاقليمي الضيق.
أما عن كلمة (شهيد) التي تنتقد أحلام عدم تكرارها في أدب غادة، فهذه شهادة لصالح غادة واحترامها لحياة الانسان، هذه الكلمة نفسها هي التي أوصلت أبناءنا الى غوانتانامو بحثا عنها وعن اغراءاتها من دون وعي بالقضية التي سيدفعون حياتهم من أجلها، وهي الكلمة التي كان يطلقها صدام حسين على قتلاه ويخرس بها الأهالي، وهي الكلمة التي يستخدمها تجار الوطن والدين في الوصول لغاياتهم عبر سخائهم بدماء غيرهم من دون أن يسعوا الى الحصول على هذا (الشرف) الذي يغرون به المراهقين.
وقد يفسر غياب هذه الكلمة في أدب غادة هو مقولتها الشهيرة: «جميل أن يموت الانسان من أجل الوطن لكن الأجمل هو أن يعرف كيف يحيا من أجل الوطن».
*كاتبة سعودية
- آخر تحديث :
التعليقات