لم يتأخر العرب كثيراً عمن قاموا، باكراً، بـ قرصنة آخر رواية لغابرييل غارسيا ماركيز.
وقد سبق للعرب أن حققوا، أكثر من مرة، سبقاً في قرصنة كتابات هذا الروائي العظيم بزَّ اللغات الأوروبية، ذات القوي الشرائية العالية، المتلهفة لنقل أي كتابة تحمل توقيعه.
سمعنا، كلنا، عن الضجة التي أحدثتها قرصنة رواية ماركيز الأخيرة ذكريات عن عاهراتي الحزينات من قبل دور نشر كولومبية، قبل أن تصدر الرواية، رسمياً، عن دار النشر الإسبانية موندا دوري ، الأمر الذي دفع الكاتب، كما قيل، إلي تغيير نهاية الرواية في الطبعة الرسمية .
ليس هناك كاتب حي، علي ما أظن، يمكن ان يشكل صدور عمل له حدثاً تتناقله الصحف الجادة والشعبية علي السواء، بصرف النظر عن مضمونه.
فماركيز، بين قلة قليلة من كتاب عصره، لم يعرف، مذ كان في أواخر الثلاثينات من عمره، العزلة الخانقة التي يعيشها الكتاب الجادون علي صعيد الانتشار، رغم انه روائي العزلة بامتياز.
فهو كما يقول الإنكليز Celebrity.
له شهرة توازي، أو تفوق، نجوم السينما و البوب ميوزك الغربيين.
ومن العبث تفسير أسباب هذه الشهرة. فهو ليس، بالتأكيد، أهم روائي عالمي حي. فهناك روائيون أمريكيون لاتينيون وأوروبيون ويابانيون يشاطرونه الأهمية، لكن لا أحد منهم بلغ شهرته الراسخة، والمتواصلة، مذ أصدر روايته الشهيرة مئة عام من العزلة .
أكتفي، من جهتي، بتفسير واحد لهذه الشهرة التي عبرت اللغات والثقافات والطبقات بكلمة واحدة استعيرها من قاموس الفنانين العرب اليوم هي: القبول.
ہہہ
قلت ان العرب لم يتأخروا عن قرصنة آخر رواية لماركيز حتي قبل أن تصدر في لغات أوروبية أكثر انتشاراً من الاسبانية مثل الانكليزية.
ففي زيارتي الأخيرة إلي القاهرة أهداني الشاعر والمترجم المصري طلعت شاهين نسخة من رواية ذكريات عن عاهراتي الحزينات الصادرة بترجمة عربية من توقيعه عن دار سنابل التي يشرف عليها في العاصمة المصرية.
الرواية، عكس معظم أعمال ماركيز السابقة، صغيرة الحجم (126 صفحة بحرف كبير)، قرأتها، علي نفس واحد، في نحو ساعتين.
ولكن أي رواية؟
أي مياه عميقة يحركها فيك سيد السرد وساحر الكلمات؟
أي آمال عريضة، مخاتلة، قاتلة، فرحة وحزينة يحييها في أقصي بقعة ماتت (أو علي وشك أن تموت) فيك، خصوصاً، إن كنت ممن يستبد بهم هاجس التقدم في السن الذي يباعد، بسرعة وقسوة، بينك والشباب الذي ذهب هدراً، والنضارة الأولي التي ولت من دون أن تعرف كيف.
عجوز في التسعين يقع، من علو قرن كامل، في غرام فتاة في الخامسة عشرة من العمر!
سيقول الأخلاقيون الغربيون المزيفون: Paedophile.
ولكن لا.
فالأمر لا يتعلق بالجنس الذي لابدَّ أن يكون عملاً شاقاً لعجوز في التسعين، بل بالحبّ.
فالجسد يشيخ، يذوي، يترهل، تتعطل مضخاته الواحدة تلو الأخري، ولكن النفس، تلك الشقية، اللعوب، الأمّارة، لا تشيخ.
أهناك تناظر بين الجسد والنفس؟
أعني، هل لهما عمر واحد؟
أتكون النفس في التسعين عندما يجرجر الجسد نفسه، بمشقّة ما بعدها مشقّة، إلي التسعين، أم تظل تتشبث بزمن خاص بها؟
لا أدري.
أنا الآن، تقريباً، في الخمسين، ولكن نفسي، ما تزال تتمترس، بحماقة وعناد، في خانة العشرينات.
كم مرة سألت نفسي: ألا تكبر هذه النفس؟
ألن تتوقف عن حماقات وتهورات الشاب العشريني الذي كنته منذ ثلاثين سنة؟
سيكون مدعاة للهزء والشفقة أن أبلغ عمر عجوز ماركيز، فيما لا يزال ذلك الشاب العشريني يعربد في داخلي.
ہہہ
هذه بعض الأسئلة المقلقة، المقضّة، التي طرحتها عليَّ رواية ماركيز الأخيرة.. غير أنها، يا للغرابة، ليست الأسئلة نفسها التي يطرحها العجوز علي نفسه.
إنه لم يفكر في العمر.
اكتشف، فجأة ومن دون سابق انذار، انه بلغ التسعين، فأراد أن يكافيء هذه السنين التي حملها الجسد، وهناً علي وهن، بليلة إلي جوار عذراء؟
لكن هذه النزوة التي تبعثها حيّة نفسه، لا جسده الشيخ، تتحول حباً جارفاً سعيداً وشقياً في آن.
سعيداً لأنه لم يعرف مثل هذا الخفقان من قبل، وشقياً لأن هذا الخفقان يصدر عن جسد لا أمل له في مجاراه شآبيب الفتوة ونضاره الشباب الأول المجسدتين، بالمسطرة والفرجار، في جسد فتاة الخامسة عشرة الممددة علي السرير.
كان الحلّ الروائي الماكر الذي يذكّر برواية النائمات الجميلات للياباني كاواباتا، أن تكون الفتاة مخدرة.. أي أن تكون الفتنة نائمة!
هكذا يمكن منازلة الشيطان: بحضوره وغيابه في آن.
ہہہ
سؤال آخر يخطر في البال، أيضاً، بعد قراءة الرواية: أهي اطروحة عن امكانية الحب، في أرذل العمر، أم عن استحالته؟
ألم يكن ممكناً لماركيز ان يجعل بطله في السبعين من العمر (مثلاً) حيث احتمال الجسد للغواية أكبر؟
ولكن هذا لن يكون ماركيز.
أي لن يكون الكاتب نفسه الذي كتب رواية الحب في زمن الكوليرا حيث لا يلتم شمل العاشقين الشتيتين إلاّ في آخر العمر أيضاً.
هذه نكهة رومانسية متأخرة من سيد الواقعية السحرية .
الحبَّ يأتي،
والحب ينتصر..
حتي وأنت تضع قدماً في القبر.