إذا فاز محمود عباس (أبو مازن) بالإنتخابات الفلسطينية التي ستجري اليوم، والمؤكد أنه سيفوز وفقاً لكل التقديرات، فإن فوزه سيعني أول ما سيعني الإنتقال بالوضع الفلسطيني من حالة التـَّوهان بين الثورة والدولة الى حالة الدولة بكل إلتـزاماتها وطبيعة عملها وطريقة إتخاذ القرارات فيها.
لقد بقي أبو عمار، رحمه الله الرحمة الواسعة وغفر له ما تقدم من ذنوبه وما تأخر، يرفع شعار «الدولة» منذ ان رفع بندقية «الثورة» ولكنه عندما حان موعد المباشرة ببناء الدولة بعد عودته، ومعه ثورته، الى وطنه لم يستطع إخراج قدميه من «إسمنت» الثورة المـُسلَّح فخاض تجربة حائرة بين الماضي والحاضر أربكتها سياسة الإنقياد الى عواطف شارع ناقم ومحبط وجائع وخائف.
إن ما ينطبق على طبيعة المـرحلة، التي بقيت سائدة منذ عودة أبو عمار وثورته من الخارج في العام 1994 وحتى هذا اليوم الذي تجري فيه هذه الإنتخابات، هو ذلك المثل الذي يتحدث عن ان غراباً أراد ان يتخلى عن مشيته ويقلِّد الحمامة في مشيتها وكانت النتيجة انه لم يتقن تقليد مشية الحمامة وأنه في الوقت ذاته نسي مشيته الأولى ولم يستطع العودة إليها.
إن هذا ليس قدحاً بالرئيس الفلسطيني الراحل إنه تشخيص لواقع الحال في مرحلة متقلبة سادت لنحو عشرة أعوام ثم فإن ما يجب التنويه إليه هنا هو ان هناك عوامل موضوعية كثيرة هي التي حالت دون أن يتخلص أبو عمار من وضعية «الثورة» الى وضعية «الدولة» فبقي يتصرف ويسيـِّر الأمــور على طـــريقة تسيير «جمهورية الفاكهاني» في بيروت الغربية وعلى طريقة «فتح لاند» في الجنوب اللبناني .

وهنا فإن الفرق بين ياسر عرفات ومحمود عباس، الذي سيصبح اليوم أول رئيس فلسطيني لدولة تخلَّصت من حالة «الثورة»، هو ان الأول حالم وشعبوي يهمه جداً ما يمكن ان يقوله الشارع وما تقوله الفصائل الفلسطينية، بما في ذلك المنظمات التي هي مجرد أسماء بلا مضامين، في حين ان الثاني واقعي وبراغماتي ويعرف أنه لا يجب ان يقود الشارع القائد وأن الوحدة الوطنية ليست مجرد تجميع تنظيمات بعضها حقيقي وبعضها وهمي بل هي توحيد الشعب الفلسطيني حول برنامج عملي قابل للتطبيق وبعيد عن الشعارات وعن إنتظار ما يمكن ان تقوله العواصم والتنظيمات الرافضة.
إذا فاز أبو مازن بالإنتخابات التي ستجري اليوم، والواضح انه سيفوز وكل المؤشرات تشير الى هذا، فإن أول ما سيواجهه من مهام ملحة هو تخليص الحالة الفلسطينية من «مشية الغراب والحمامة» وهو تخليص هذا الوضع من إرث «جمهورية الفاكهاني» و «فتح لاند» إن لجهة التركيبة الأمنية والعسكرية السائدة الآن وإن لجهة طريقة إتخاذ القرارات وتنفيذها وقبل ذلك أساليب الإدارة التي يجب إتباعها.
لقد صدرت عن محمود عباس بعض التعبيرات والشعارات «الشعبوية» خلال المعركة الانتخابية وهذه مسألة طبيعية حيث لايزال الشعب الفلسطيني يسمع صدى خطب عرفات التعبوية المـُجلجلة لكن ما هو مؤكد ان هذا الرجل الذي سيصبح اليوم اول رئيس لحالة الإنتقال من « الثورة» الى «الدولة» سيبدأ وعلى الفور بتطبيق القناعات التي كان وصل إليها منذ العام 1979 وربما قبل ذلك بسنوات .. ووداعاً للثورة.