تنهمك الدوائر المعنية في الدول الأوروبية التي تقطنها جاليات عربية وإسلامية كبيرة في دراسة أوضاع هذه الجاليات. وتسعى هذه الدوائر والمؤسسات الحكومية وشبه الحكومية من خلال الدراسات التي تضعها حول هذه الجاليات لرسم أفضل الطرق وأسرعها وأكثرها فعالية من أجل تسوية أوضاع هذه الجاليات وربما دمجها في المجتمعات التي تقطنها. ففي بريطانيا مثلاً، تبلورت ملامح “استراتيجية إسلامية”. وفي فرنسا توصلت الدوائر الفرنسية المعنية بقضايا العرب والمسلمين إلى رسم استراتيجية مماثلة تقريباً.
تبدو هذه الاستراتيجيات وكأنها تسعى إلى هدف رئيسي واحد ألا وهو “توطين العرب والمسلمين”. هذا لا يعني التوسع في إعطاء الجنسية الأوروبية إلى المهاجرين العرب.. بالعكس، هذه الاستراتيجيات سوف تسعى إلى ضبط الهجرة العربية وإلى تقليصها وإلى التشدد في إعطاء الجنسيات وحق العمل إلى المهاجرين العرب. المقصود بالتوطين هو السعي إلى دمج العرب والمسلمين الذين حصلوا، أساساً، على هذه الحقوق بالمجتمعات الأوروبية، من أجل تسهيل هذا الدمج وتيسيره، تسعى الدوائر الأوروبية المعنية إلى بلورة ما يمكن اعتباره بالإسلام والعروبة “الأوروبية”. في هذا النطاق سوف يتعين ابتداءً من خريف هذا العام على أئمة المساجد في الدولتين الأوروبيتين تلقي الدروس، في برامج تعليمية موجهة خصيصاً إلى المسلمين، حول حضارة، تاريخ، قوانين وثقافة كل من البلدين. كما سوف يتوجب على أولئك الأئمة أن يتعلموا لغة البلاد وأن يجتازوا امتحانات لاختبار مستوى تحصيلهم الدراسي.
إضافة إلى ذلك سوف تعمل الدولة، بالتعاون مع هيئات عربية أو إسلامية معترف بها، على تأسيس منظمات من أجل جمع التبرعات والزكاة، تعمل وفقاً للشرائع الدينية الإسلامية وبما ينسجم مع النظم والقوانين السائدة في البلدين. وسوف تسعى هذه المنظمات إلى توجيه حصيلة هذه التبرعات لخدمة المعوزين والمحتاجين من أبناء الجاليات العربية وفي الوقت نفسه إلى الحيلولة دون وصولها إلى يد الجماعات الدينية المتطرفة. وتشجيعا لهذا الاتجاه، فإن الحكومة البريطانية بدأت في تقديم مساعدات إلى المسلمين البريطانيين الذين يحجون إلى مكة.
هذه الجهود لا تقتصر على بريطانيا وفرنسا وإنما يشترك فيها عدد أوسع من الدول الأوروبية التي يقصدها المهاجرون العرب. ومن الأرجح أن تلقى هذه الجهود صدى طيباً لدى الجاليات العربية والإسلامية. فهذه الجاليات تعاني من مشكلات متراكمة. على سبيل المثال، الدراسات التي وضعتها دوائر رسمية بريطانية تؤكد أن المشاريع الخيرية التي تقوم بها الجاليتان البنغلاديشية والباكستانية لا تلقى المستوى نفسه من العون الحكومي الذي يقدم إلى مشاريع خيرية بريطانية أو تابعة لجاليات غير إسلامية. فضلاً عن ذلك فإن ظاهرة التعرض إلى المعتقدات الدينية والقومية للمسلمين والعرب بلغت من الانتشار حداً دفع الحكومة البريطانية إلى استصدار قانون يمنع هذه الظاهرة. ولكن النتائج الإيجابية التي تحققها هذه السياسات المستجدة تقترن بجانب سلبي رئيسي وهو أنها تأتي في سياق مكافحة الإرهاب، وليس في نطاق سياسة عامة من أجل ضمان المساواة بين المواطنين ومكافحة العنصرية المستشرية في العديد من الدول الأوروبية، وحيث إن هذه المجهودات تأتي في نطاق مكافحة الإرهاب، فإنها تؤدي إلى نتائج قد لا تتناسب مع الغاية المتوخاة منها، أي تسهيل دمج العرب والمسلمين في المجتمعات الأوروبية، ويأتي في مقدمة هذه النتائج ما يلي:
1- تبدو هذه الإجراءات كأن الغرض منها هو التضييق على العرب والمسلمين تحديداً. ففي بريطانيا مثلاً، جاء في إحصائيات رسمية أن عدد المرات التي تعرض فيها مسلمون ومسلمات إلى التفتيش في الشوارع ارتفع من 36،000 مرة خلال عام 2000 إلى. 62،00 خلال العام المنصرم. وفي فرنسا تعد السلطات المعنية ترتيبات لإنشاء 22 وحدة أمنية لمراقبة الجوامع والمطاعم والمكتبات والمكالمات الهاتفية البعيدة المدى التي يمكن استخدامها من قبل الجماعات الإرهابية. هذه الإجراءات جديرة بأن تلقى تفهماً وترحيباً من قبل العرب والمسلمين. فالحقيقة أن العرب والمسلمين هم الضحايا الأول للإرهاب، ومحاصرة منظماته وأعماله تخدم مصالحهم وتحميهم من الضرر. ولكن كثيراً ما يضل الذين يكافحون الإرهاب الطريق، فيتعرضون إلى الأبرياء وينال هؤلاء من الإذلال والامتهان ما يحولهم إلى عناصر ناقمة على الدولة والمجتمع. وبسبب الحساسيات والأوضاع البائسة التي يعيشها العديد من المهاجرين، فإن الحديث عن هذه الأخطاء ينتشر بسهولة فتعم النقمة أوساطاً كثيرة ويفيد منها من يريد تحريض المهاجرين العرب على الدول التي أموها فاستقبلتهم ووفرت لهم فرص العمل والحرية.
2- إن الاهتمام بالمهاجرين العرب في سياق مكافحة الإرهاب، سوف يفسح المجال أمام جماعات كثيرة مناهضة للهجرة أو للعرب أو للمسلمين لكي تحرض الأوروبيين والجماعات المهاجرة الأخرى من إفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا وأوروبا الشرقية ضد المهاجرين العرب والمسلمين قائلة: “ارأيتم؟ إن الحكومات الأوروبية تراعي العرب وتسهل أمرهم وتغدق عليهم المساعدات كي تأمن شرهم وتقنعهم بالامتناع عن القيام بأعمال العنف. فهل أصبح الطريق إلى الحصول على مساعدات الحكومات هو استخدام العنف أو التلويح به؟” ولا ريب أن مثل هذه التحريضات، التي باتت تتردد بالفعل، تسيء إلى الحكومات الأوروبية وقد تجبرها على التراجع عن السعي عن دمج الجاليات العربية والإسلامية في مجتمعاتها فيخسر العرب ويخسر الأوروبيون.
من أجل تلافي هذه النتائج فإنه من الضروري بلورة سياسات واستراتيجيات لدمج المهاجرين العرب والمسلمين في المجتمعات الأوروبية في سياق إنساني متقدم ومنفتح. وفي هذا السياق فإننا نعتقد أنه من الأصح أن تكون الدمقرطة وليس التوطين هي الهدف الرئيسي لهذه الاستراتيجيات. أي ان تسعى الدوائر الأوروبية المعنية إلى إقناع العرب والمسلمين الأوروبيين بمزايا الديمقراطية وتعويدهم على ممارستها بحيث يصبحون محصنين ضد الانخراط في أعمال العنف. فكثيرون من الذين درسوا تاريخ فرنسا والتاريخ الأوروبي عموماً أخذوا منه الإعجاب بكوميونة باريس والثورات العنيفة التي غيرت القارة.
المهاجرون العرب هم بغنى عن اقتباس مثل هذه الدروس بينما هم في حاجة ماسة إلى الاطلاع على مزايا الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان. عندها سوف يتحول هؤلاء أو الأجيال الجديدة منهم إلى عضد للديمقراطية ليس في أوروبا فحسب وإنما في بلادهم كما يقول جيل كيبيل في كتابه الجديد “الحرب على عقول المسلمين: الإسلام والغرب”.