نويت الإقامة في لبنان‏.‏ كنت في محنة بسبب التوقيع علي بيان توفيق الحكيم الشهير‏,‏ فاخترت السفر الي لبنان والاقامة به سنة‏1975.‏ كان قد سبقني الي هناك من الأصدقاء ابراهيم عامر مدير تحرير المصور سابقا‏,‏ ونبيل زكي المحرر باخبار اليوم سابقا ورئيس تحريي حاليا‏,‏ وغالي شكري الكاتب بالاهرام‏,‏ والصحفيان سمير كرم ومحمود عزمي‏..‏ وكان لي نخبة من أعز أصدقائي من المثقفين والمبدعين اللبنانيين الذين دعوني للاقامة في بلادهم الج
لبنان إذن‏..‏ وكانت علي جدران شارع الحمراء وقتذاك شعارات تقرأ فيها لبنان واحة الحرية وراحة المغتربي
لذلك لم أكن أتوقع أبدا أن أجد نفسي فجأة في تقاطع النيران للحرب الأهلية اللبنانية سنة‏1975(!)
ولكن الحكاية من الأول بدأت بالرحلة من دمشق في الطريق الجبلي المزدحم بالرائحين والغادين متجها إلي بيروت‏.كنت قد أستأجرت سيارة ومعي زوجتي قادمين من مهرجان المسرح العربي بدمشق في شهر مايو‏1975..‏ وكان الجو حارا جدا‏,‏ وقال لي السااذا كان هذا الحر في الجبل فما بالك بالحر في بيروت‏(!)ازعجني قوله والسيارة تمرق بنا في طريق تقع عليه مصايف جبل لبنان الشهيرة‏.من شتورة إلي زحله وبحمدون وعلاي بيوتها جميلة وأشجارها وارفة وبعض نسمات رقيقة تغالب الحر وتدافع لظاه بلطف أنفاسها العليلة‏..
قلت لنفسي‏:‏ وما وجه العجلة للوصول إلي بيروت‏,‏ ولماذا لا نبقي في الجبل أياما حتي تنكسر حدة الحوقلت للسائق
مل بنا إلي فندق في علاي نقضي به أيام الحر
طرقت باب الفندق ففتح الباب وأطل منه رجل متقدم العمر‏.‏ انتم فاتحين أو أن الموسم لم يبدأ بعدمعلوم فاتحين‏.‏ شرف‏.‏ أهفدخلنا الفندق زوجتي وأنا وانتظرنا في البهو حتي يعد لنا الغرفة ويدعونا‏..‏ وإذا ابنته الصبية الرقيقة تقدم لنا شراب الليمون البارد والقهوة‏.‏ لاحظت ان الفندق ليس فيه زبائن غيرنا فسألته عن الخدمة والطعام‏..‏ قال لي‏:‏أطلب ما تشاء با
قضيت يومين في علاي أتمشي في البلدة وأجلس طويلا في شرفة الفندق الواسعة أو شرفة الغرفة نتعشي في ضوء النجوم والقمر الصغير‏,‏ ولم يكن في البلدة الكثيرون كلما ارفع سماعة التليفون تقول الابنة الجميلة علي السويتش‏:‏ عيوني‏.‏ فأقول‏:‏ تسلم عيونك‏.‏ اطلبيا في بيروت

اصدقائي في التليفون يقولون لي‏:‏كيف انت في علاي وفنادق الجبل لم تفتح بعد والموسم السياحي لم يبدأ فأقول‏:‏ عندنا
برد الجو بعد يومين فازمعت السفر وطلبت من صاحب الفندق الحساب‏,‏ فقال‏:‏عنديلم أفهم فاستوضحته فقال لي‏:‏ أستاذ‏.‏ الفندق لم يفتح بعد‏,‏ والموسم لم يبدأ‏..‏ فانتم ضيوفي هذين اليومين‏..‏ فاقبل ضيافتي وشرفني م
وانضمت لنا زوجته وجاءت ابنته بالليمون البارد والقهوة‏,‏ والحت زوجته علينا بقبول ضيافتهما‏(!)‏ وهو أمر لم يسبق أن صادفته في حياتي‏,‏ وأحرجني للغواستغربته‏(!)شعرت بان مضيفي سرح بفكره بعيدا وهو يقول‏:‏ أين اليوم من زمان‏,‏ كان السياح هنا معظمهم من المصريين الباشوات والبكوات‏,‏ الشعراء والفنانين والصحفيين‏.‏ كان يأتي هنا شوقي بك واحمد رامي وعبد الوهاب وحسين هيكل وطه حسين ولطفي السيد ومكرم عبيد ومحمد التابلذين يذهبون في الصيف إلي أوروبا يمرون بجبل لبنان أولا ثم يسافرون من بيروت الـي أوروبا في تلك الايام يا استاذ كنا نبدل الجنيه المصري بست عشرة ليرة لبنانية ـ وكانت لبنان رخيصة والمصريون أهل مرح وطرب فكانوا يحيلون صيفنا الي مسرات متصلة‏..
أين هم الآن‏,‏ وكيف يعوضون جبل لبنان والهدوء والربيع المتصل وجمال الطبيعية؟هل كان حديثه حنينا الي المصريين من المصطافين أم كان حنينا الي شبابه به وأيام صباه؟‏!لبنان بلد جميل وهو هدية الله لأهله والسائح العربي‏:‏ ففيه المنحدرات الخضراء والاشجار الكثيفة والجو النقي مثل سويسرا‏,‏ ولكنه يمتاز عن سويسرا بربيع طويل وشتاء قصير‏..‏ وربما يمتاز عن أوروبا بكرم الضيافة‏,‏ فاينما كنت ورفعت سماعة التليفون ستسمع هذا الطيف‏:‏ عيونفاين ذلك في سويسرا أو غيرها؟‏!!
في بيروت وقع حادث أليم مفاجيء‏,‏ وهو اطلاق النار علي اتوبيس مدرسي فكانت تلك هي الشرارة الأولي للحرب الأهلية الطويلةتضاربت أقوال أصدقائي‏...‏ الذين يقولون لي أن ذلك حادث عارض وأن لبنان بلد ناجح وقادر علي تجاوز تناقضاته وينصحونني بالإقامة‏..‏ والذين يقولون أن هذا الحادث العارض مجرد مقدمة لصراع طويل مرير‏,‏ وينصحونني بالسفر وال
وقد اختار لي الصديق الصحفي المصري الراحل ابراهيم عامر فندقا قريبا من مسكنه‏,‏ وزرته مرات كثيرة زيارات طويلةوكنت من المحبين لابراهيم فضلا عن إعجابي بروحه العصرية‏,‏ فقد كان أول من رأيت من الصحفيين أو الكتاب الذين يكتبون مادتهم الصحفية علي الآلة الكاتبة‏,‏ ويصور مواضيعه بنفسه باحدث آلات التصوفي تلك السبعينيات‏,‏ قبل اختراع أو انتشار الكومبيوتر
وكان إبراهيم في لبنان مدير التحرير لصحيفة السفير التي يرأس تحريرها الصحفي القدير طلال سلمان‏.‏ وكان قبل ذلك مدير تحرير مجلة المصور المصرية في عهد رئاسة تحرير الكاتب الكبير احمد بهاء الدين كما كان مراسلا لوكالة انباء أوروبيةولابراهيم عامر كتاب من أهم المراجع لتاريخ الاقتصاد المصري هو الملكية الزراعية في مصر الذي اتمني اعادة طبعه واحيائه‏.
كما كان ابراهيم واحدا من انبه الصحفيين المصريين ومن اخلص النقابيين‏,‏ كما كنت اعتبره من افضل المحللين السياسيينكنت أزوره مرة فدوت المدافع وصرنا نتصل هو وانا باصدقائنا نستطلع الأخبار‏,‏ واخذنا نألف وصف اللنبانيين للحالة‏..‏ حيث يقولون انها علقت يعني المعركة نشبت‏,‏ أو أن الحال متوتر يعني الصدام مت
قلت لإبراهيم أن الشرق الأوسط في اضطراب‏..‏ ففي مصر انفتاح وغلاء وازمة سياسية أدت الي بيان توفيق الحكيم وماأعقبه‏,‏ وارتفاع اسعار البترول أنصف العرب ولكن الغرب يزموالاضطرابات تتفاقم في المغرب وفي الصومال واثيوبيا والسودان‏.فقال لي ابراهيم‏:‏ العالم كله في اضطراب فامريكا هزمت في فيتنام‏,‏ والحرب الباردة علي اشدها‏,‏ وسباق التسلح يهدد العالم بالفناء سبع عشرة مرة‏(!!)‏ كما يقول الخبراء‏,‏ ومظاهرات السلام والتعايش السلمي يحتشد الناس فيها بالملايين فتكاد تزعزع النظام الم علي مبدأ الاحتواء والردع للاتحاد السوفييتي‏,‏ في حين يعاني الاتحاد السوفييتي من تقدم تكنولوجيا السلاح والفضاء مع وجود أزمة في القمح والزراعةالعالم كله في توتر كما يقول اللبنانيون وينذر باخطار غير مسبوقة
هكذا كان ابراهيم يري الصورة كاملة‏,‏ وكان وطنيا ومفكرا سياسيا وكاتبا قديرا
وقد جمعتنا الصداقة في الستينيات مع صلاح جاهين ومع الصحفية المصرية جاكلين خوري في تلك الأيام‏,‏ أيام الأحلام الواقعية وأيام المفاجآت الفاجعة‏,‏ قبل وبعد‏1
وقدر لابراهيم عامر أن يكون من شهداء الصحافة ومن ضحايا الحرب الأهلية اللبنانية بعد وقت‏.‏ حيث انهمرت الصواريخ فجأة وذات ليلة علي المطبعة الصحفية اللبنانية‏,‏ وكان ابراهيم عامر يراجع البروفات الصحفية قبل أن يأمر بطبعها‏....‏ فلم يصب اصابة مباشرة‏,‏ و الحروف المطبعية تبخر بقوة الانفجارات والحريق فتسممت رئتاه‏..‏ وتوفي في المستشفي بعد يوم وسقط شهيدا في الحرب اللبنانية أو الجبهة اللبنانية للصراع العالمي والاضطراب العالمي في سبعينيات القرن العشرين‏,‏ فأوجع رحيله قلوب أصدقائه ومحبيه وقرائه العارفين بفضي التنوير‏,‏ ورثاه صلاح جاهين بقصيدة‏..‏ رحمهما الله قبل وفاة ابراهيم عامر وتفاقم أطوار الحرب في لبنعرض علي الصديق الصحفي غسان مطر العمل بمجلته البلاغ‏,‏ كما أغراني الصديق العزيز الكاتب نبيل زكي بسكني الجبل بعيدا عن الاحتمالات الخطيرة في بيروت‏,‏ واختار لي الصديق العزيز الصحفي جورج الراسي شقة لسكني في موقع ممتاز يطل من أعلي الجبل علي ميناء بيروت‏,‏الي بأن المطعم والمقهي قريبان منها‏,‏ وأنها تعتبر من أجمل بقاع الجبل فاي كاتب يمكن ألا يبتهج بالفرصة الجميلة‏,‏ وفي متاعي كتاب الف ليلة وليلة وفي أوراقي مسودة مسرحية سميتها رسائل قاضي أشبيليه التي كتبها بأمر أمير المؤمنين لينتفع بها أهل الزمان‏..‏ وكعناوين الطويلة للمسرحيات موضة الأيام في ذلك الزمان‏.‏