محمد مظلوم: في البدء كانت البصرة وكانت الكوفة. ذلك هو العراق، بمفهوم أرض السواد، أو بالأحرى أرض السوادين. بل إن العراق، بالمفهوم عينه، بصرتان هما الكوفة والبصرة كما يؤكد ياقوت الحموي في «معجم البلدان». العراق التاريخي يتموضع في تلك المنطقة تحديداً ومنه تهب ريح الأحداث وسير الرجال. اما العراق الحضاري، السومري او البابلي وما بينهما وما يليهما ويجاورهما، فليس ثمة يقين واضح عن سيرته المغطاة تحت المياه والتلال والطوفانات، ولسنا في صدد حفريات في مياه انسحبت فخلفت مدناً من الطمي أو طفحت فأوجدت مدناً أخرى، فالعراق السياسي اليوم لا يشبه بأية حال «عراق الحضارات»، والعراق الدولة اليوم في تقابل وتنازع مع صورته التاريخية، وهو أمام تاريخ جديد لن يكفي فيه مجرد الإستعانة بما مضى للخروج من محنة ما يجري.
إنها ثكنة القصب. بهذا المعنى، ينزلها الجند بوصفها محل استراحة للمحاربين ومعقلاً لإعادة التنظيم لشن حروب جديدة. وبصرة اليوم لا تبدو منقطعة الصلة عن ظلال تاريخها القوية والساطعة. إنها أخصب أرض لتجلي الفتنة بصورتها العنفية الأكبر في التاريخ العربي الإسلامي. فمعركة الجمل التي دارت رحاها على هذه الأرض «الصلبة والغليظة والقاسية» لم تكن مجرد خلاف صحابي إنتقل بذيوله نحو أرض السواد بل كانت أكبر مواجهة دموية داخلية بين الكوفيين والبصريين، خرجت عن تقاليد الخلاف الأثير بين اتجاهي السماع والقياس، في علم النحو وعلم الكلام والأخلاق معاً. ولهذا فإن البصرة تجمع ثنائية السيف القلم أيضاً! فهي حاضنة لمدارس الفكر والشعر، من الحسن البصري إلى الثورة الشعرية التحديثية للسياب، وهي قاعدة في الوقت نفسه، لهبوب موجات الثورات الأخرى الاكثر عنفاً واحتجاجاً كثورة الزنج بقيادة علي بن محمد والحركة القرمطية وسواهما.
وعلى رغم ان التسمية الرديفة للبصرة تتعدد كما هو شأن معظم المدن، لكنها في الواقع من بين مدن عراقية قليلة ومعدودة ظلت محتفظة باسمها التاريخي وحافظت عليه في تحولات التاريخ السياسي للعراق وقيام دولته. ففيما تحولت كركوك إلى «التأميم»، و«التآخي» أحياناً، والموصل إلى نينوى والحلة إلى بابل والناصرية إلى ذي قار والديوانية إلى القادسية والعمارة إلى ميسان، ظلت البصرة تحمل اسمها الذي ولدت به، ولم تطغ عليه الكنية او الأسماء الرديفة.
بيد إن الكنى المجازية الملحقة بها والنعوت البلاغية المضافة لها، لم تكن في الواقع سوى نقيض صورتها وواقعها. فـ«ثغر العراق الباسم» كما تسمى في الادبيات التربوية والإعلانات السياحية، لم تعرف الإبتسامة يوماً. الثغر هنا لم يكن سوى كناية جناسية عن ثغرة هشة لنفوذ الجيوش ونشوب الحروب، فمنها عبر الإنكليز لاحتلال العراق من جنوبه إلى شماله ومنها نفذ صدام لضم «الطفل إلى أبويه في المحافظة التاسعة عشرة» وهي كانت طاولة الرهان الإيراني على احتلال العراق لإسقاط صدام بالقوة بخاصة في معارك شرق البصرة الكبرى في منتصف الثمانينات، ومنها أيضاً عبر «المارينز» لاحتلال العراق وإسقاط صدام.
هكذا هي الثغور إذن، ثغرات مفتوحة على المآسي وليست ثغراً يبتسم بوجه البحر الذي لا يعرفه العراقيون ولا يتصلون به سوى من ثغرة البصرة.
ووسط هذه الخطوط التي ترسمها آليات الحرب على الأرض الصلبة تحول خراب البصرة إلى نوع من المصير الأسطوري لهذه المدينة التي أضحت مثلاً للخراب في كل مكان، لكنها لم تفلح في تخريب الإنسان خراباً نهائياً إذ ظل «البصراوي» يشكل في الذاكرة العراقية معادلاً للطيبة التي لا يدانيها خراب. وإذا كانت طيبة البصري لم تنحسر نوعياً مع موجات الخراب المتعاقبة، إلا أن هذه الموجات كانت من بين أسباب تراجع البصرة نفسها سكانياً من المحافظة العراقية الثانية من حيث تعداد النفوس إلى الثالثة بعد ان تقدمت عليها الموصل التي عرفت إستقراراً نسبياً خلال نصف القرن الماضي، بل إن مدناً عراقية حديثة لا يتجاوز عمرها العمراني والسكاني مئتي عام، كالسليمانية مثلاً، أخذت تشهد نمواً بشرياً يجعلها تزاحم حاضرة أرض السواد الأقدم: بصرته الفيحاء.
وفي تاريخ العراق السياسي شكلت البصرة دوراً أساسياً في توجيه معضلة قيام الدولة وتشكيل ملامح حكمها الجديد بعد خروجها من قبضة الخلافة العثمانية.
فوفق نظام الولايات العثماني كان العراق ثلاث ولايات أساسية هي بغداد والبصرة والموصل، أما بقية ما يعرف اليوم بالمحافظات، فكانت لواحق بتلك الولايات الأساسية الثلاث. وعلى رغم ان بغداد كانت أكبرها، لكن البصرة كانت أكثرها تأثيراً في مجرى التاريخ السياسي للبلاد.
ففي حمى التحضير لأول تجربة انتخابية في تاريخ العراق جرت قبل ما ينيف على الثمانين عاماً، كان نقيب البصرة وواليها، طالب النقيب، العربي السني أقوى المرشحين لعرش العراق بعد تنامي المعضلة العراقية في التفكير البريطاني أثر ثورة العشرين، ولم يكن لنقيب البغداديين عبد الرحمن الكيلاني، او الموصلي عبد الهادي العمري حظ وافر إزاء مرشح عموم العراقيين طالب النقيب، وعلى رغم أن الأخير ارتضى ان يشغل منصب وزير الداخلية في الحكومة الانتقالية الأولى التي شكلها الكيلاني، إلا إن طموحه كان أبعد من ذلك ويتعلق ليس بأمارة البصرة وتوسيعها بل التربع في بغداد على عراق جديد.
بيد ان الامر انتهى بوالي البصرة إلى الاعتقال والنفي ليأتي فيصل الأول منطلقاً من ميناء جدة على متن باخرة بريطانية رست عند «ثغر العراق الباسم» ليتوج ملكاً على العراق، ماراً على المدن العراقية من جنوبها إلى عاصمتها في أول حملة انتخابية انطلقت من المكان نفسه الذي خرجت منه باخرة ثانية تحمل والي البصرة ومرشح العراقيين إلى المنفى الشرق الآسيوي.
ومع أن البصرة تقع أقصى جنوب العراق، فإن خلاصة الخميرة السكانية المتنوعة تتداخل عندها تماماً كما يتداخل نهرا دجلة والفرات عند نقطة شط العرب، ومثلما شكل هذا التلاقي الطبيعي للنهرين مشكلة حيوية ومستديمة في الجغرافيا السياسية بين العراق وإيران شكل هذا التداخل السكاني مصدراً للكثير من الهجرات والهجرات المتعاكسة بفعل التحولات السياسية التي تشهدها ليس البلاد وحدها بل والبلدان الأخرى المجاورة منها والبعيدة.
وتبدو الصورة النمطية للجنوب الشيعي وكأنها طمست خلف إطارها أقليات عرقية ودينية أخرى، قد يكون المسيحي الجنوبي واحداً منها، إذ ثمة الأرمن الهاربون من أنهار الدم التي تركوها خلفهم عبر مراحل مذابحهم المتعددة فاقتفوا مجرى النهرين ووصلوا البصرة بل إلى الفاو، اقصى نقطة في يابسة العراق، بالاضافة الى التركمان والأكراد والهنود القادمين مع السفن المحملة بالتوابل مرة، وبعديد الجيوش مرة أخرى. كما شكل يهود البصرة الكثافة البشرية الثانية لليهود في العراق بعد بغداد عند منتصف القرن الماضي. فالبصرة هي ورشة العراق التقليدية وليست السياحة إلا واحدة من ملامحها، وما ملايين النخيل ومصانع التمور والتعليب فيها سوى بعض من تلك الملامح، لكن الوجه الأبرز لها وجود شركة نفط الجنوب، وكونها المنفذ البحري الوحيد والضيق للعراق على الخليج.
قد يبدو مثل هذا الكلام شيئاً من التاريخ في هذه المرحلة. فمنذ الاحتلال الأميركي للعراق شهدت البصرة موجات إضافية من النزوح نحو الأعالي بخاصة بين الأقليات بفعل تنامي دور الميليشيات المسلحة وولاءاتها المتباينة. يكفي هنا أن نشير إلى أن عدد العوائل المسيحية في البصرة لم يتجاوز عند احتلال العراق 1300 عائلة، بحسب مصادر في الحركة الآشورية، نزحت غالبيتها في الشهور العشرين الأخيرة إلى البلدان المجاورة أو إلى المحافظات الشمالية مما يجعل المسيحيين على سبيل المثال لا يتجاوزون بضعة آلاف في البصرة التي كان للمسيحيين فيها أحياء كاملة في الستينات والسبعينات من القرن الماضي.
في النظرة الخارجية للبصرة ثمة من سيتذكر أم قصر، تلك القصبة الحدودية التي تجمع بين الميناء والثكنة بوصفها المدينة التي صمدت في وجه الغزو الأميركي، ليس أكثر مما صمدت بغداد فحسب بل أكثر مما صمدت اي مدينة عراقية كبرى أخرى.
وثمة من سيتذكر منها وقائع وأحداث أخرى في شتى الميادين، لكنَّ القوائم المتنافسة التي وصل عددها 41 قائمة ستتذكر أشياء أخرى عن المدينة وهي تدرس توجهات المقترعين. فالبصرة ذات حراك سياسي خاص في تاريخ العراق الحديث. بالنسبة للشيوعيين العراقيين، مثلاً، هي المدينة التي شهدت ولادة الخلية الماركسية الاولى عام 1927 أي حتى قبل التأسيس الرسمي للحزب الشيوعي العراقي. وبالنسبة للإسلاميين والمهتمين بتاريخ الحركات السياسية العراقية المعاصرة سيذكرون للبصريين انهم قادوا أول إنشقاق نوعي في تنظيمات حزب الدعوة الإسلامية أحد أبرز التيارات الدينية المعارضة لنظام صدام خلال الثمانينات والتسعينات، فتنظيم حزب الدعوة في العراق تعددت أجنحته، بخاصة بعد الثورة الإيرانية وإعدام مؤسسه السيد محمد باقر الصدر، فكان عبد الزهرة عثمان (عز الدين سليم) الذي اغتيل خلال رئاسته الدورية لمجلس الحكم في آيار (مايو) الماضي، أحد المؤسسين لجناح في حزب الدعوة يتبنى فكرة ولاية الفقيه بنموذجها الإيراني المؤسس على طروحات الإمام الخميني في هذا المجال، ولهذا سنجد الدور الإيراني فعالاً تماماً ومتجذراً بقوة في البصرة وإن لم يبد كذلك لبعضهم للوهلة الأولى.
قائمة «الإئتلاف العراقي الموحد» أو ما صار يعرف بالقائمة 169، ستكون بهذا المعنى هي الأقوى في البصرة، ليس لأنها قائمة شيعية، او لأنها مدعومة من المرجع علي السيستاني كما يروج لها في شتى المدن العراقية، بل لأن إعداد القائمة جرى بعناية، كما يبدو، اذ جمعت بين تعدد المذاهب والطوائف والأديان، وبين البعد العشائري والديني، أكثر من اعتمادها على الحزبية العلمانية، اضافة إلى إن الثقل الأساسي للأحزاب فيها هو للتيارات الدينية التي رعتها إيران خلال ربع القرن الأخير، على رغم ان البصرة ليست شيعية خالصة وإن كانت ذات غالبية شيعية واضحة، وحتى تلك الأقضية التي تبدو سنية خالصة (كقضاء الزبير مثلاً) لن تجد إذا قررت الإقتراع أقرب من هذه القائمة اليها في غياب قائمة سنية واضحة المعالم، اضافة الى وجود شخصية سنية بارزة في قائمة الإئتلاف، ونعني الشيخ فواز الجربا، أحد شيوخ قبيلة شمر أكبر قبائل العراق، الذي يبدو البديل النوعي للرئيس الحالي غازي الياور.
وعلى رغم أن العراق دائرة انتخابية واحدة كما نص قانون الإنتخابات، من الواضح ان للبصرة وبقية سوادها أو قل مدن الجنوب الأخرى تأثيراً قوياً وحاسماً في رسم المشهد الأخير لنتائج الإنتخابات. لكن هذا لا يمنع أن ثمة واقعاً في البصرة قد يختلف نوعياً عن واقع المدن الأخرى، ذلك إن الجهاز الإداري في المدينة لا يكاد يتبع سلطة الحكومة المركزية اليوم، إذا سلمنا بوجودها في بعض المناطق من العراق.
هذا الواقع المتباين يمكن تلخيصه بمشهد تداخل النشاط الميليشيوي بالجهاز الاداري للدولة في المحافظة، بدءاً من جهاز الشرطة والخدمات البلدية والمؤسسات الأخرى في المحافظة. ولنتذكر الصدى الذي احدثته في البصرة أزمة النجف بصفحتيها الأولى والثانية ما بين ربيع العام الماضي وخريفه، اذ كشفت عن أنه لا سيطرة حقيقية للحكومة الموقتة ولا للقوات البريطانية على المدينة. فالوجود العسكري البريطاني لا يعني السيطرة الأمنية الكاملة على المحافظة ولا يشير إلى سيطرة إدارية يمكنها معالجة ما سيستجد في الساعات الساخنة. فكل ما جرى تم على أساس نوع من هدنة غير معلنة أو بالأحرى تفهم للواقع الموجود على الأرض. نزول الشرطة إلى الشارع مع قوات جيش المهدي وصور محمد صادق الصدر وشعارات التيار الصدري خلال أزمتي الربيع والخريف الماضيين، تلخص إلى حد بعيد هذا الواقع الذي يمكن ان ينفتح على إحتمالات شتى ترافق عمليات الإنتخابات، بخاصة ان التيار الصدري أعلن عن مقاطعته للانتخابات مع استمرار وجود القوات المحتلة في العراق.
بيد ان المخاوف من احتمالات اندلاع العنف وأصوات التفجيرات التي قد تطغى على أصوات الناخبين، لن يكون التيار الصدري مصدرها الحقيقي، بل إن ثمة جهات عدة داخلية وخارجية لها في البصرة مواطىء اقدام دأبت على تأصيلها وتعزيزها طيلة ما يقارب العامين من الإنفلات المتعدد المستويات.

*شمس الناصرية... وخيمة أور
إذا كانت خيمة صفوان في البصرة، هي التي أوقفت الهجوم الاميركي على العراق بعد عاصفة الصحراء عام 1991، وأتاح الاتفاق الذي عقد في تلك الخيمة بين قادة قيادة التحالف الدولي وقادة الفيالق العراقية المنهزمة، لصدام قمع الإنتفاضة الشعبية التي اعقبت هزيمته في الكويت، فإن خيمة أور في الناصرية شكلت نقطة ظلت مغفلة وعابرة مع تتالي الوقائع وسخونتها، لكنها تبدو اليوم مرجعاً مهماً لتفسير ما آل إليه الوضع السياسي في العراق بعد اجتماع تلك الخيمة.
ففي 15 نيسان (ابريل) 2003، أي بعد بضعة أيام من سقوط الصنم في ساحة الفردوس ببغداد، اجتمع الجنرال المتقاعد جاي غارنر الذي ارسل للعراق لرئاسة مكتب إعادة الإعمار والمساعدات الإنسانية، بعدد من ممثلي المعارضة المقربة من الولايات المتحدة في حضور رؤساء عشائر ووجهاء من بعض مناطق العراق، ليعلن أطلاق «عملية ولادة الديمقراطية في العراق». التوصيات التي تمخضت عن ذلك الإجتماع تضمنت التأكيد على الفيديرالية والانتخابات والمحاصصات التمثيلية واجتثاث البعث. ومثلت هذه التوصيات مسودة أولى للتصور النظري الأميركي لمستقبل العراق السياسي.
لم يهتم غارنر بخدمات إعادة الأعمار والمساعدات الإنسانية، بل انشغل أكثر في عملية إطلاق الديمقراطية، ولم يهتم خلفه بول بريمر المختص بمكافحة الإرهاب بتوفير الأمن للعراقيين، بل انشغل بالإعداد لمجلس حكم ثم تسمية حكومة إنتقالية، لم تضبط الأمن في عدد من المحافظات العراقية حتى الآن، لكن الطريق إلى «الديمقراطية» لا يزال هو الهدف الثابت حتى الآن.
تبدو الناصرية، و«خيمة أور» بهذا المعنى، الإحداثية الأولى للوعد الاميركي بـ«الديمقراطية»، ولا شيء سواها أو قبلها. وإذا ما نحينا هذا الوعد عن الناصرية قليلاً، نرى أن المدينة أفرزت قبل نصف قرن صراعاً سياسياً طرفاه القوميون واليساريون..
فالقيادة البعثية الأولى كانت من هناك، إذ أن أول أمين قطري للبعث في العراق، فؤاد الركابي الذي جرت تصفيته في السجن عام 1973، كان من الناصرية. بيد أن الشيوعيين العراقيين لهم حصة خاصة أيضاً في المدينة. فالناصرية إلى ما قبل الثمانينات كانت معقلاً أساسياً لليسار العراقي، ولعل قائمة الحزب الشيوعي العراقي «قائمة اتحاد الشعب» ستتفاءل بتاريخ هذه المدينة كثيراً وهي تخوض تجربة ابتعدت عنها طويلاً وتجد نفسها اليوم ماضية تحت رعاية العدو القديم، «الإمبريالية العالمية».
ففي الناصرية وزع أول منشور ماركسي قبل تأسيس الحزب الشيوعي العراقي في الثلاثينات من القرن الماضي، وهي المدينة التي حصد فيها هذا الحزب أصوات أكثر من 60 في المئة من الناخبين في آخر انتخابات حقيقية قبل ما يقرب من نصف قرن. لكن هذه العقود الطويلة ليست مجرد فاصل زمني وهاوية واسعة بين الطموح والواقع في مسيرة الحزب الذي استبدل شعاره الأثير (المنجل والمطرقة) بالنجمة الثمانية المتموجة على هيئة شمس عراقية،وهي الشمس القديمة التي اتخذتها الجمهورية الأولى عام 1958 شعاراً لها حيث كان للشيوعيين مكان واسع تحتها. وقضية تبديل الراية الحمراء بالشمس الساطعة، تعيد للأذهان تلك الحادثة الشهيرة التي شاعت كنوع من الطرفة في العراق قبل أكثر من نصف قرن عندما أقدم الأهالي في منطقة كميت الجنوبية، وغالبيتهم من البسطاء والمسحوقين، على المبالغة في أظهار التعبير عن ولاء المدينة الشيوعي بالكامل، بالإقدام على طلاء كل معالم المدينة البارزة باللون الأحمر بما فيها أشجار النخيل، وصاروا يهتفون هتافاً شهيراً مشددين فيه على وحدة القافية «صار كميت... جزء من السوفيت».
لكن «السوفيت» لم يعد موجوداً، وسكان كميت انتقلوا كمعظم سكان الجنوب نحو لون آخر، فمع صعود التيار الإسلامي الشيعي في محافظات الجنوب بعد الثورة الإيرانية، وتحول المسحوقين وطبقة البروليتاريا الرثة، إلى مستضعفين في الأرض يبحثون عن منقذ يمن عليهم بوراثة الأرض، وانتعش خطاب الشيع والأقليات غير الحاصلة على صورتها، ولا يسعها البحث عنها اليوم إلا عبر مرجعياتها الروحية تلك. بيد أن هذا الواقع لا يمنع من ان نزوعاً مضمراً، قد يعيد للعلمانيين عموماً ولليساريين منهم تحديداً مساحة معينة في خريطة الجنوب الملتبسة.
فنظرة اولى على برنامج «اتحاد الشعب» في حملته الإنتخابية قد تلخص جانباً مهماً من طبيعة إستيعاب ماركسيي التاريخ غير المتحقق، للمسار الجديد بعد التعثر في الحركة الجوهرية لذلك التاريخ. ثمة تشديد يبدو مبالغاً فيه لناحية التأكيد على احترام الدين الإسلامي، والمعتنق العقائدي للأفراد، وهو تأكيد شددت عليه بيانات حزبية وأدبيات وافتتاحيات صحافية تؤكد أن الذين يجاهرون بمواقفهم المضادة للتدين أو للأحزاب والحركات الدينية الحليفة لا يمثلون الحزب الشيوعي بأي حال من الأحوال. كما أن ثمة نقطة مفصلية أخرى في برنامج الحملة الإنتخابية للحزب الشيوعي تتقاطع مع صلب النظرية الشيوعية وتجنح نحو الفكرة الرأسمالية عبر ترسيخ أهمية اقتصاد السوق وتشجيع الإستثمار الخارجي وإن على حساب اقتصاد دولة البروليتاريا الذي دأبت الأحزاب الشيوعية على الكفاح من أجل تحقيقه.
أغلب الظن إن خيمة أور وكلمات غارنر الأولى عن الديمقراطية ستكون إحداثيات ضرورية لجميع القوائم المتنافسة في الناصرية والتي وصل عددها الى 41 قائمة شأنها شأن البصرة، ولا يمكن للممارسة أن تبتعد كثيراً عن تذكر المغزى الأساسي لاجتماعات خيمة أور، والتذكر بالتأكيد لن ينصرف بعيداً نحو التاريخ البعيد للبلاد، أو يلتفت للتاريخ السياسي لأي من الأحزاب المؤتلفة في تلك القوائم، بل سيتركز، وهو ما ينبغي له فعلاً، على التاريخ القريب، اي على ما بعد التاسع من نيسان 2003 وتحديداً عند 15 نيسان، وبدء المناقشات في تلك الخيمة التي نصبت وسط الريح لتجري المداولات الأولى حول مستقبل العراق بعد ســقوط صدام.

*العمارة بين العمران والإمارة
تجمع العمارة طرفي المعادلة بين كل من البصرة والناصرية، في تلاصقها مع الإثنتين من جهة، واشتراكها مع البصرة في خط حدودي مشترك مع إيران، وفي تقاسمها مناطق الأهوار مع الناصرية، ليجعلها هذا الواقع تمثل خلاصة الجنوب، وتبدو كالعاصمة الإقليمية على رغم انها أصغر من الإثنتين والأقل سكاناً بين مدن الجنوب.
وعلى رغم إن إسمها يشير إلى العمران لكن الواقع يشير إلى غير ذلك. اذاً لا بد من الركون إلى افتراض إن اسم المدينة جاء من «الإمارة» وليس من العمران. فتاريخ تلك المنطقة بالذات يشير إلى أن ثمة أكثر من إمارة محلية نشأت عبر القرون الوسطى وحتى خلال فترة حكم العثمانيين للعراق ومجيء البريطانيين، وانهارت تحت وطأة الصراع الصفوي - التركي على العراق. وإذا ما عرفنا ان أهل العمارة معروفون بأنهم غالباً ما يلفظون الهمزة عيناً فإن في هذه المعرفة ما يعزز القناعة بأن ليس للعمران صلة ما بهذه المدينة.
انتجت العمارة خلال العقدين الأخيرين، عدد من «أمراء الاهوار» ممن قادوا مجموعات صغيرة تصدت للسلطة، اطلقت عليهم تسمية الثوار في زمن لم يعد فيه مجال لثورات كبرى تصل الى العواصم، لكن ثوار العمارة ظلوا يحلمون بإمارات أوسع وأبعد من تلك المستنقعات المائية التي جرى تجفيفها في عهد صدام وبدأ الماء يجري رويداً رويداً في مفاصلها المتيبسة بعد سقوطه.
صفة أخرى جعلت من هذه المدينة نموذجاً لاضطهاد السلطة للمتحدرين من الجنوب. فـ«الشراكوة» او «الشروكية» صفة تنميطية أطلقت على النازحين من هذه المدينة إلى العاصمة وكبريات المدن، ليتم من خلالها توصيف جماعة واسعة من النازحين إلى العاصمة تحت هذه التسمية التي لا تخلو من نزعة تمييزية.
وتكاد العمارة تشكل مع محافظة واسط المجاورة أفصح صورة للتداخل السكاني الذي يقلق الجغرافيا السياسية بين العراق وإيران باستمرار. فمن هاتين المحافظتين ثمة اكثر من تداخل عشائري وأسري تاريخي الى ان جاءت مقصات الحدود لترسم خطاً فاصلاً بينها. فما بين قبائل عربستان والعديد من أسر العمارة أكثر من صلة قرابة وتزاوج.
قد تكون العمارة واحدة من أكثر مدن الجنوب بؤساً وخراباً، وإهمالاً، حتى اضحت أوضح صورة للتدليل على بؤس الجنوب. جوانب عدة تجسد هذه الحقيقة، وواحدة منها أن «العمارتيين» خارج العمارة أكثر ممن هم داخلها، الى ان اضحت المحافظة مجرد خزان بشري يمتلئ بالبائسين ليفيض هذا البؤس الإجتماعي نحو العاصمة، ويكفي أن نشير إلى أن غالبية سكان مدينة الثورة (الصدر) في العاصمة هم من النازحين من العمارة، ونحن هنا نتحدث عما قد يتجاوز المليون من هؤلاء يشكلون أكثر من سكان محافظة ميسان التي بلغ تعداد نفوسها بحسب تقديرات آخر إحصاء سكاني ثلاثة أرباع المليون اي اقل مدن الجنوب لجهة التعداد السكاني. لكن الحقيقة الديموغرافية ليست هي المرجع الحاسم عادة في مثل هذه الأمور، ومن المفيد هنا التذكير بأن معظم ثورات الأهوار ضد السلطات المتعاقبة على البلاد إنطلقت من الضفاف الشرقية لنهر دجلة اي في العمارة بالذات لتكون تلخيصاً مكثفاً لفكرة الجنوب العراقي أكثر مما تلخصه البصرة كبرى مدن الجنوب واقصى نقطة فيه.
وإذا كانت العمارة لا يمكن اختزالها في الموقع الذي يبعد حوالي 370 كيلومتراً جنوب بغداد، بل في مئات الأحياء التي أنشئت على ذلك الطريق حتى توغلت في العاصمة عبر نزوحات متعددة خلال نصف القرن الأخير، فإن أسباباً كثيرة تجعلها، مثلما تجعل قرينتها الكوت، تميل بكفة لا جدال حولها لناحية قائمة «الإئتلاف العراقي الموحد» (المدعومة من السيستاني)، من بين 30 قائمة تنافس في المحافظة. إنها القائمة المحلية بصيغة وطنية شاملة. هكذا سيجري النظر اليها من قبل أهالي العمارة، على الأقل من باب التفاؤل، ليس أكثر، وربما يحمل غد ما بعد الانتخابات خيبات أضافية للعمارة التي لم تطل العمران ولا الإمارة.