مطاردة.. ظهيرة يوم لا اسم له عندى الآن، ما بين الثانية عشرة والثانية ظهرا، يقترن التوقيت بدرجة من الضوء تغمر الحارة التي تخف الحركة بها لانشغال النساء في إعداد طعام الغداء، ولاستدعاء معظم الأطفال بعد أن نالوا حظهم من اللعب.
طرق غير معتاد على الباب. تلمس أمي صدرها بيدها:« يا ساتر استر..». تتردد .. ما من مثير للخشية مثل طوارق الفجأة، وقفت على مسافة خلفها. «إلحقيني يا أم جمال..» تعرفت على صاحبة الصوت، بادرت بفتح الباب.. «أم سعد.. مالك يا أختى؟». إذا ما ذكر الفزع على مسمع مني على امتداد الأزمنة التالية فلابد أن استدعي ملامحها.
خاصة أنني في ذلك العمر لم أكن أرفع البصر عنها بمجرد دخولها وقعادها متربعة في الصالة الضيقة، أقعد خلف أمي اتطلع إليها. مرتاحا، مأخوذا، آمنا، مستكينا بتأثير ما تبثه من دعة وقدرة على بث مؤثرات غامضة تجعلني مشدودا إليها، نفس وضعي الذي اتخذته عند النظر إلى الحمراء في البداية، تطلعي إلى أم سعد من خلال عمر متأخر، ربما كنت أدنو من العاشرة. أو التاسعة. وربما الحادية عشرة، لا أدري.
أما الحمراء فالمؤكد أنني كنت دون الخامسة عندما تحلقت بصورتها المائلة عندي حتى الآن. تجيء أم سعد كل شهر مرة أو مرتين، تحمل بقجة فيها قماش أو مناديل لتغطية الرأس، أحيانا تأتي بقطع صابون معجون بزيت الزيتون لمنع تساقط الشعر، أو بودرة ناعمة لمعالجة التسلخات، أو مفتقة تفوح رائحتها النفاذة، مزيج من سبعة مكونات،أقواها تأثيرا ونفاذا العسل الأسود والحلبة، تدفئ الجسم في الشتاء، تبعث الدفء، تزيد السمنة، كان الامتلاء من مكونات الجمال وقتئذ.
لم تكن أم سعد سمينة أو حتى تميل إلى امتلاء. وجهها بيضاوي، فسيح. عيناها مركز. جاذب، مؤثر. فسيحتان، عميقتان، إطارها عميق السواد، حاجباها علويان، مشرفان،أما أنفها وفمها فيشكلان لحنا غامضا، لا أسمعه لكنني أرصده، ورغم انعدام الصوت إلا أنه لم يكن بوسعي إلا الامتثال والإصغاء،قوامها ناعم، منعم، لا بالطويل ولا بالقصير. قريب من السموق، دان من الاعتدال، أثق انها لو مثلت أمامي الآن فستنتابني الحيرة ذاتها. كافة ما يمت إليها هادئ، ناعم،فكأنها منبع الرضا.
بل إنني خلال استعادتي لحضورها عبر أزمنة مختلفة، وفي أماكن متباعدة إلا وكانت محرضا على الطمأنينة والاستكانة. لذلك تبدو استثنائية الاستعادة في ذعرها الذي صار عندي سمة وعلامة. تسند جبهتها إلى راحة يدها، استدارة الكتفين وانحدارهما تمهيدا للذراع المتصلة براحة يد يبهرني اتساقها وتناسبها.
استعيدها من كافة الجهات، فكأنها تسري عبر حلم عابر. في هذه الظهيرة لم تبسط بضاعتها. لم تفرد محتوياتها. إنما بدت مرعوبة. فزعة. لا يرد معنى الخشية عليّ إلا تبدو ملامحها. اضطرابها. زيغان نظراتها، تحديقها إلى نقطة غير محددة، تلفظ بين الحين والحين ما يعني أنها في حالها. تسعى على رزقها. تمشي فلا تميل ولا تهتز، ولا تلامس بعينها أي نظرات أخرى. ألا يكفي تعبها؟ ألا يكفي شقاؤها وجريها المتصل لتصون الأنفس الثلاث، اليتامي، من تركهم والدهم بدري.
ألا يكفي سعيها من مناطق العطوف إلى الكفر إلى الدراسة تبيع حتة هدمة أو صابونة أو كيس شاي لتؤمن القرش الحلال؟. ايقاع صوتها كأنها ترثي حالها. انتبهت فجأة عبر استغراقها، قالت إن ما أدهشها جرأته، وقاحته، عندما وصلت إلى المدخل، قالت إنه لن يستطيع، الدرب سد، لا يؤدي إلى حارة أخرى، غير نافذ، لا يدخله إلا من يقيم به أو من له صلة بأحدهم، لكنها فوجئت عندما التفتت أمام الفرن أنه يتعقبها عن قرب.
يكاد يمد يده ويلمسها، يغرس نظراته في ظهرها مثل السكين، إنها خائفة ولا تدري ما تفعل!. همت أمي قائلة «استني» فتحت الباب. تبعتها موزعا بين الرغبة في النظر إلى أم سعد والخشية من مجهول ما لم أعرف ولم أسمع بمثله من قبل. ليست أم سعد تلك التي طالما تمنيت مجيئها والتطلع إلى حضورها وإلى ملامحها خلسة مهدئا أنفاسي. كأن الخوف بدلها. طرقت أمي الباب المواجه. الست عطية زوجة عبده موزع السجائر على دكاكين البقالة والخردوات والأكشاك في الميادين.
تصفها أمي بالهدوء والرقة. دائما تصفها بالعروس رغم مرور سنة على مجيئها، لا تزال تنتظر طفلها الأول، شقيقها يجيء نهاراً ليرتاح، يعمل محصلا بالتراموي، هادئ مثل أخته. خجول، لا يرفع عينيه حتى لا يقع بصره على جارة أو عابرة سبيل. تساءلت أمي عما إذا كان عبده موجودا. وعندما استفسرت عطية عن السبب إذ أدركت أن الأمر غير عادي، خاصة أن ملامح أمي تنذر بوقوع شيء ما، قالت باختصار إن أحدهم يضايق أم سعد.
تصوري دخل وراءها..
« ضربت عطية صدرها بيدها»
يا خبر..
صاحت متسائلة عن المجرم ابن المجرم، لا يحتاج الأمر وجود شقيقها، ستنادي الجيران لردعه، ارتدت إلى الصالة لتعبرها صوب النافذة المطلة على الدرب. حاولت أمى منعها. لا تدري ما يمكن أن يجري، جريت إلى نافذة الغرفة الداخلية، اعتليت الكنبة، تطلعت من خلال المصراعين المنفرجين قليلا، أمام بيت أم عيد يقف متطلعا إلى بيتنا، متسع الحدقتين.
مستنفر، لونه بني غامق، شعره غزير، شفتاه متسعتان، يحدق بثبات، تجاه الطوابق الثلاثة، وعندما ارتفع صوت عطية صارخة محرضة لم يبد عليه أنه سمع أو انتبه. في لحظة متقدمة، تمت إلى نهار آخر بعيد، اسأل أمي مستفسرا عن غيبة أم سعد، لماذا لم تعد تأتي منذ ذلك اليوم؟. تلوح بيدها معلنة صمتها، آمرة في نفس الوقت بالسكوت!.

*هروب
في حوارهما الليلي الهادئ، تفضي أمي بما وصلها من أخبار الحارة إلى أبي، من راح، من جاء، من تشاجرت مع من؟ من باع ومن اشترى. فجأة انخفض صوتها إلى ما يشبه الهمس. «عطية هربت». «هربت.. مع من؟». «مع الرجل الذي دخل وراء سعدية «أم سعد» الدلالة..». «عطية» الفارهة، البضة، استعدت وقفتها في الشرفة، خروجها متحدية، متطلعة شذراً إلى الرجل الذي لن أنسى وقفته المستنفرة، غير العابئة، يطق بالرغبة. كيف تحقق الوصل بينهما؟ كيف فارقت بيتها؟.
عطية، في مكان ما الآن مع الرجل المجهول. الجريء، الذي تعقب «سعدية» «ياما في الحياة من عجب».