يرفع وليد جنبلاط صورة فيليكس دزيرجنسكي في صدر داره. أسس دزيرجنسكي lt;lt;اللجنة الاستثنائية لمكافحة التخريبgt;gt; في الاشهر الاولى التي اعقبت الثورة البلشفية الروسية وكانت مثالا للقسوة في مواجهة اعداء الثورة حتى بات مختصر اسمها، lt;lt;تشيكاgt;gt;، يكفي وحده لالقاء الرعب في قلوب ليس العناصر المعادية للحكم الشيوعي الصاعد، بل حتى في نفوس المواطنين العاديين.
تطورت lt;lt;التشيكاgt;gt; أسلوبا وإمكانات وتحولت الى lt;lt;لجنة امن الدولةgt;gt; (سالكي غي بي او lt;lt;الكا جي بيgt;gt; وفق التسمية المتداولة بتأثير الاخذ من المصادر الغربية)، التي احتلت مكانا مركزيا في الاساطير التي حيكت حول الاتحاد السوفياتي وجبروته وتفوق اجهزته المخابراتية وبطشها قبل ان ينهار كل شيء دفعة واحدة. وكان دزيرجنسكي بحق شخصية استثنائية جمعت بين الخبرة الواسعة في العمل السري عندما كان البلاشفة الروس مطاردين من قبل الاجهزة القيصرية، وبين الاخلاص الشديد للحزب ولقائده فلاديمير لينين. وليس غريبا ان يصب lt;lt;ديموقراطيوgt;gt; بوريس يلتسين غضبا شديدا على تمثال دزيرجسنكي الذي كان مرتفعا في ساحة رئيسة في موسكو امام مقر جهاز الاستخبارات السوفياتية.
والمؤكد ان وليد جنبلاط لا يجهل خلفية الرجل الذي تتصدر صورته قاعة في منزله (بناء على ما يقول زواره)، لكن لجنبلاط رأيا مختلفا تماما في رجال المخابرات اللبنانيين والسوريين ودورهم في المرحلة الراهنة. ليس في ما سبق دعوة الى ان يبدي جنبلاط قدرا من الاحترام لرجال lt;lt;الاجهزة المخابراتية المشتركةgt;gt; على غرار ذلك الذي يكنه للقائد البلشفي الروسي. على العكس تماما. فهؤلاء يخدمون نظاما (واحدا في بلدين؟) يختلف جذريا عن ذلك الذي قاتل دزيرجنسكي من اجله.
ما تنبغي الاشارة اليه هو ان معطيات السياسة اللبنانية والتي اصبح وليد جنبلاط نجمها الاول، باتت تستعصي على الفهم بواسطة ادوات التحليل التقليدية. فمجتمع معقد ويمر بمراحل متسارعة من التطور (وهذا قد يكون نحو الاحسن او الاسوأ)، لا يصح ان تظل ادوات فهمه وlt;lt;معرفتهgt;gt; مقتصرة على حسابات موازين القوى والعلاقات السياسية الفوقية والمزاجية الشخصية واقتراب مواسم الانتخابات وغير ذلك مما يغمر التحليلات الصحافية اليومية او ما يسمى اصطلاحا lt;lt;الاستحقاقاتgt;gt;.
ان تحليلا يسعى الى الالتزام بحد ادنى من الجدية يفترض ان يوسع دائرة تعاطيه مع مجموعة من العلوم التي لم تجد بعد مكانها المناسب لا في مقدمة العمل السياسي والعام ولا في خلفيتهما، والمقصود هو علم الاجتماع السياسي وعلم النفس الاجتماعي بل ان الاقتصاد السياسي الذي اصبح علما طاغيا في تحديد المبادئ الاولية لصورة أي مجتمع ودولة، لا يزال يتيما ومنبوذا في لبنان. بل ان التفسيرات الطائفية التي يفضلها السياسيون والمحللون غالبا ما توضع في خارج سياقاتها التاريخية lt;lt;العلميةgt;gt;.
ولا بأس هنا من اعادة الاعتبار الى ما كان يقوله كارل ماركس عن ان lt;lt;ليس لنا علم الا علم التاريخgt;gt; (في كتابه lt;lt;الايديولوجيا الالمانيةgt;gt;)، بمعنى ضرورة ادخال عناصر الاجتماع والاقتصاد والانتروبولوجيا وغيرها من المكونات التي زادها تطور العلوم اهمية ووزنا لوضع تحليل تاريخي للواقع المادي، والا يبقى المرء ضائعا في غياهب الضباب والتفسيرات المنتزعة من lt;lt;الفكر السحريgt;gt;.
في العودة الى جنبلاط، يمكن بسهولة جلب مجموعة من تصريحاته المتناقضة (وهي بالمناسبة ليست محصورة به بل تكاد تكون صفة عامة لكل سياسيي لبنان) والخروج منها مثلا بإدراج تنقله بين صفوف التيارات السياسية، اليسارية واليمينية، الطائفية والعلمانية، في خانة عدم الثبات على مبدأ. ويمكن بسهولة اكبر استحضار مواقف الراحل كمال جنبلاط والقول ان ما يقول به ابنه مناقض تماما لمضمون خطابه ازاء الفلسطينيين والفئات الاجتماعية المسحوقة.
لكن هل يكفي هذا التناقض لتفسير درجة الانبهار التي عمت مدرجات الجامعة اليسوعية في الاسبوع الماضي على سبيل المثال؟ أليس جنبلاط هو من قاد حرب الجبل ضد المسيحيين وشرّدهم من قرى لم يعودوا اليها بعد وساهم في ما بعد مساهمة اساسية في الاطاحة بالمشروع السياسي الذي كانت تتبناه القوى المسيحية؟ لا يهدف هذا السؤال الى نكء الجراح ولا الى محاولة اثارة الاحقاد، بل الى القول ان تفسيرا آخر قد يكون مطلوبا. تفسير من نوع ان المسيحيين وخصوصا موارنة الجبل لم يبرأوا ابدا من ذكريات حكم الامراء الدروز وأن هؤلاء ما زالوا يشغلون حيزا واسعا في الخيال المسيحي الجمعي بصفتهم اصحاب السلطة والقوة. فهل في الامكان التقليل من اهمية المعطى التاريخي والنفسي عند التحدث عن العلاقات المارونية الدرزية؟ هل يجوز نسيان الهزائم العسكرية التي ألحقها الدروز بالموارنة في العام 1860 والتي انقلبت بفعل العاملين الديموغرافي والاقتصادي (اكثرية مارونية ترتكز الى اندماج برأس المال الغربي) والتدخل الفرنسي الى انتصار للمسيحيين وإقامة lt;lt;دولةgt;gt; المتصرفية؟ ألا تصح مقارنة هنا ولو بنوع من المبالغة بانتصار وليد جنبلاط في العام 1983 وعجزه لاسباب موضوعية عن تحويل انجازه هذا، الى دور مقرر وأول، وعدم الاكتفاء بدور صاحب حق النقض غير المتوج، في لبنان ما بعد الطائف ما يدفعه الى البحث عن خيارات تتيحها معارضة تضم lt;lt;المهزومينgt;gt;؟
واليوم، هل يستقيم فهم الصورة السياسية اللبنانية اذا جرى اهمال تبرم البرجوازية المسيحية التي تشعر بالغبن إزاء حصتها من ارباح المشاريع وlt;lt;اعادة الاعمارgt;gt; في مقابل صعود الرأسمالية الطفيلية المستندة الى الحماية المخابراتية اللبنانية السورية؟ وهل يجوز حصر الهمّ الجنبلاطي بالفوز في الانتخابات المقبلة وتناسي تشابه حالة وليد جنبلاط مع سوابق في التاريخ القريب جرت فيها مساعٍ لمضاعفة الوزن الطائفي الدرزي من خلال تحالفات مع طوائف اخرى (السنّة الذين لا تنقصهم مبررات لشعورهم بالضيق منذ الاستقلال وحتى اليوم) في مواجهة الحكم ذي اللون الطائفي والسياسي المغاير؟
وهل تمكن محاسبة جنبلاط على قراءة lt;lt;غير يساريةgt;gt; لتاريخ اليسار والمقاومة الفلسطينية، يقوم بها امام جمع من رموز الخندق المواجه في الحرب الاهلية من دون الاخذ في الحسبان ان الرجل ليس ابن كمال جنبلاط فحسب، بل هو سليل فؤاد ونظيرة وبشير جنبلاط وهو حامل لارثهم وإن بدرجات متفاوتة من التأثر على غرار ما يحمل كل شخص ارث هوياته المركبة والمتعددة او كما يقول جورج لوكاتش من ان lt;lt;الانسان ابن عصره اكثر من آبائهgt;gt;... وهل يصح النظر في خطاب اليسوعية العالي النبرة وتناسي خطاب اقل حدة ألقاه في عانوت بعد يومين وقبلهما كلمته في بيت الدين في الذكرى الاولى لحرب الجبل منذ 21 عاما؟
إن قراءة لكل هذه العوامل مجتمعة ربما تكون الانسب لتقييم ظواهر السياسة في لبنان ومعطياتها، وإلا سيبقى اللبنانيون محكومين بقراءات جزئية تساهم في اعادة انتاج الازمات والحروب الاهلية.