معرض عن الشاعر الفرنسي غيوم أبولينير:
عبدالاله الصالحي
باريس ـ القدس العربي
من بين جميع الكُتاب والشعراء الفرنسيين الذين عاشوا تجربة الحرب وكتبوا عنها يبقي الشاعر غيوم أبولينير النموذج الأكثر ثراء وابداعية. وهذا ما يعكسه المعرض الجميل الذي يقيمه حاليا متحف الحرب العالمية الأولي بقصر بيرون في اقليم لاسوم تحت عنوان أبولينير بين النيران . في هذا المعرض يستطيع الزائر رؤية حوالي 140 وثيقة وقطعة من صور ورسائل وكتب ومخطوطات ورسوم تُظهِرُ الشاعر في أتون الحرب العالمية الأولي وترسم تعرجات مساري الشاعر والمحارب ما بين 1914 و1918. ويركز المعرض بشكل خاص علي حضور ابولينير في جبهة شامبان ما بين نيسان (ابريل) 1915 واذار (مارس) 1916 مبرزا العلاقة بين الحياة اليومية في الجبهة والعوالم الفنية للجندي ابولينير. هكذا تحضر كل المواضيع التي تناولها ابولينير في أعماله: حياة الجبهة وحياة باريس، الحب، الحرب والشعر. كما حرص المنظمون أيضا علي ابراز السياق الفني والأدبي لفترة الحرب عبر عدد من الكُتاب المجندين مثل جان كوكتو و بليز ساندراس.
هكذا يستطيع الزائر رؤية ذلك العدد الشهير من مجلة ميركور دو فرانس الأدبية وعلي غلافه لطخة من دم أبولينير الذي كان بصدد قراءته عندما أصيب بشظية في الرأس في خندق. وجنب هذه المجلة نجد القبعة الواقية، المثقوبة من جراء الشظية، التي كان يعتمرها في لحظة الاصابة صبيحة 17 اذار (مارس) عام 1916. والتي تمخضت عنها صورة الشاعر الشهيرة ورأسه ملفوف بالضمادات البيضاء. ورب ضارة نافعة فبفضل تلك الاصابة ابتعد ابولينير عن فظاعات الخنادق وعاد الي باريس وأجوائها الثقافية لينشر ديوان كاليغرام ويضاعف من نشاطاته الأدبية في المجلات والصالونات الأدبية التي كان واحدا من ألمع وجوهها قبل الحرب. ففي تلك الفترة كان أبولينير اسما في غاية الحيوية يتوسط مجموعة من الشعراء الشباب منهم لويس أراغون واندريه بروتون وأندريه سالمون وبيار ريفيردي الذين كانوا معجبين بموهبته وبجِدَّة قصائده ونَفَسها الحداثي المختلف تماما عن ما كان يُنْشَرُ من شعر آنذاك. ورغم انه كان اول من استعمل كلمة سوريالي فسيعتبره السورياليون لاحقا كاتبا خفيفا وشعره مجرد تمارين جمالية سطحية.
والغريب في مسار أبولينير هو أنه نجا من الموت في أتون معارك الحرب العالمية الأولي الطاحنة والمعروفة بوحشيتها ودمارها الهائل لكي يموت بعد سنتين من مغادرته الجبهة وبشهور قليلة بعد زواجه بسبب التهاب حاد في الرئة وعمره لم يتجاوز 38 عاما.
الشعر في محك الحرب والحب
علينا أن لا ننسي أن انخراطه في الجبهة كان أيضا نابعا من رغبته في التجنس بالجنسية الفرنسية. فأبولينير، واسمه الحقيقي غيوم دو كوستروفيسكي، من اصول بولندية لكن جنسيته روسية رغم أنه ولد في ايطاليا من أب مجهول وأم بولندية. وفور التحاقه بالجيش الفرنسي تقدم بطلب للحصول علي الجنسية الفرنسية وهذا ما توفق فيه عشية اصابته. أبولينير كان يحب الحرب وهذا ما دفعه الي الالتحاق بالجيش بعد يومين فقط بعد اعلان الحرب في 3 من اب (اغسطس) 1914. فقد كان يريد أن يعيشها عن كثب كتجربة حسية. آه يا الهي كم الحرب جميلة... . كتب في احدي قصائده وهذا ما لم يغفره له أبدا لويس أراغون الذي كان يكره الحرب وعوالمها مثل غالبية الشعراء والكُتاب.
لكن أبولينير لم يكن محاربا وشاهدا علي ويلات الحرب فقط. فهو أساسا شاعر ولم يكن ينوي أبدا التخلي عن حساسيته الشعرية بل أنه فعل المستحيل لكي لا يضيع حسه وفضوله الشعري بين هدير المدافع والقنابل كما كتب في احدي رسائله الي محبوبته مادلين باجيس: في الحقيقة ليس هناك أي كاتب قادر علي التعبير عن الفظاعة اليومية والحياة الغامضة التي تميز خندقا بسيطا .
لكن أبولينير استطاع بأسلوبه الخاص أن يزاوج بين هدير الحرب وفظاعاتها وبين احتدامات مغامراته العاطفية. واذا كان ابولينير الجندي يقتسم مع رفاقه حياة الخنادق والدم والبارود فان ابولينير الشاعر كان يقاوم بشاعة الحرب بالشعر والمراسلة وخاصة بالحب. ذلك أن أبولينير عاشق محترف مسكون بظمأ عاطفي هادر يجعله يركض وراء النساء ويكتب لهن مئات الرسائل من معترك الحرب. ونساء ابولينير صرن شهيرات بفضل القصائد التي كتب من اجلهن: لويز دو كولوني سليلة عائلة من طبقة النبلاء أو مادلين باجيس استاذة الأدب أو ميراي هافيت المراهقة المعجبة ذات الجمال الغامض. هاته الفتيات كن يسكنَّ خيال أبولينير الجندي ويجعلن من يومي الحرب تجربة حسية حبلي بالمفارقات حيث تختلط الشهوة بالموت وهمس القلب بهدير الصواريخ وقسوة الخندق بالمجازات الشعرية.
اللافت أن معرض بيرون نجح بالفعل في ابراز هذه البوتقة الاستثنائية التي تصهر قعقعة السلاح مع قصائد الحب حيث نقرأ نصوص ابولينير ورسائله ونري رسومه وأغراضه الشخصية جنب صور نادرة عن مواقع الجبهة التي ارتادها الشاعر.
ابولينير ومادلين باجيس
في الأول من كانون الثاني (يناير) عام 1915 أثناء رحلة بين مدينتي نيس ومارسيليا التقي ابولينير صدفة بشابة في غاية الجاذبية اسمها مادلين باجيس. وقتها كان أبولينير شاعرا شابا عمره (34 عاما) في حين كانت مادلين أستاذة أدب في احدي ثانويات مدينة وهران التي كانت آنذاك مستعمرة فرنسية وعمرها بالكاد (22 عاما).
اثناء تلك الساعات المعدودة التي جمعت بينهما تحدثا بحماس عن الشعر والأدب وتبادلا نظرات حب محمومة قبل أن يفترقا. هو عاد أدراجه الي الجبهة وهي عادت الي وهران. وبعد ثلاثة أشهر من هذا اللقاء سيكتب لها أبولينير أول رسالة من الجبهة ستكون فاتحة مراسلة ضخمة جمعت بين الاثنين وفاقت المئة رسالة قربت بينهما رغم الحرب. واللافت ان ابولينير في رسائله الي مادلين لا يكتب كثيرا عن الحرب بقدر ما يكتب عن حبه وعواطفه ورغباته الجارفة اتجاهها. وبعد تسعة اشهر من الرسائل اللاهبة تمكن ابولينير من الحصول علي اجازة وسافر الي وهران للقاء حبيبته. ما حدث بين العاشقين نستطيع حدسه لكن الغريب هو أن أبولينير لن يري مادلين مطلقا بعد لقائه الخاطف بها في وهران في حين ظلت مادلين فتاة القطار الأزلية ولم تتزوج قط وتوفيت عانسا محتفظة بكنز من رسائل ابولينير وهداياه التي يعرض بعضها معرض بيرون.
غيوم أبولينير في بضعة تواريخ
1888 ولد في روما من أم بولندية وأب مجهول
1900 استقر في باريس حيث اشتغل البورصة.
1902 نشر أولي قصائده في المجلة البيضاء .
1905 ينشر عددا يتيما من مجلته اللاأخلاقي .
1907 نشر رواية اباحية تحت عنوان فتوحات دون جوان شاب .
1909 شرع في كتابة قصائد ديوانه الشهير كحول ويسجن بتهمة السرقة.
1913 استقر في حي سان جرمان وارتبط بصداقة مع الرسام بيكابيا والشاعر بليز ساندراس واصدر كتابا عن الفن التكعيبي وديوانه كحول .
1914 تعرف علي محبوبته لويز دو شاتيون وانخرط في الجيش.
1915 توجه للجبهة والتقي مادلين باجيس في رحلة قطار.
1916 حصل علي الجنسية الفرنسية وفي 17 اذار (مارس) أصيب بشظية قنبلة في الرأس ويغادر الجبهة للعلاج في مستشفي بباريس.
1917 أسس مجلة شمال جنوب مع الشاعر بيار ريفيردي. عرض مسرحيته آنسات تريسياس ونشر كما هائلا من القصائد في المجلات والدوريات الأدبية
1918 أصيب بالتهاب رئوي وفي الثاني من ايار (مايو) تزوج جاكلين كولب ونشر ديوان كاليغرامات وفي التاسع من تشرين الثاني (نوفمبر) توفي اثر استفحال التهابه الرئوي.
قصيدة لغيوم أبولينير: أغنية العاشق المنبوذ
وان أنا غنيت قصة الحب هذه عام 1903
من دون أن أعرف بأن حبي مثل طائر الفينيق الجميل
اذا مات في المساء
ينبعث في الصباح.
ذات مساء لندني ضبابي
صادفت صعلوكا
يشبه محبوبتي
نظرةٌ منه
جعلتني أغض الطرف أخجلتني
تبعت هذا الولد الصعلوك
وهو يمشي مصفرا ويداه في جيوبه
بَدَوْنا بين المنازل كموجة مشرعة من البحر الميت
هو العبرانيون وأنا فرعون.
فلتسقط هذه الأمواج الاسمنتية
لو فعلا لم تُعْشَقي بسخاء
أنا ملك مصر والجيش أخته/ زوجته
لو لم تكوني حبي الفريد.
عند منعطف شارع ألهبته أضواء الواجهات
وجراح الضباب الدامية
هناك حيث تبكي الواجهات
ثمة امرأة تشبهكِ
بنظرتها الوحشية
وندبة في العنق العاري
خرجت سكرانة من الحانة
في نفس اللحظة التي تأكدت فيها
من زيف الحب.
التعليقات