د. عبد الوهاب المسيري:
وجدت أنه من المفيد أن نميز بين "المثل الأعلى الديمقراطى" من جهة، ومن جهة أخرى "الإجراءات الديمقراطية" حتى لا نضيع في متاهات لفظية ومساجلات فارغة. والمثل الأعلى الديمقراطي يعني المساواة بين الأفراد أمام القانون وأن تكون فرصهم في الحياة متساوية وألا يكون التمييز بينهم على أساس الدين أو العرق أو الجنس، وهو في صميمه إيمان بالإنسانية المشتركة. أما الإجراءات الديمقراطية فهي معروفة لنا جميعاً، من بينها حق التصويت، والاقتراع السري، والفصل بين السلطات، وسيادة القانون، وحرية التعبير والإعلام، وحق التظاهر، وحق تكوين النقابات... إلخ. والمثل الأعلى الديمقراطي لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال الإجراءات الديمقراطية. ولكن توجد حالات كثيرة تنفصل فيها الإجراءات الديمقراطية عن المثل الأعلى الديمقراطي. ولعل الدولة الصهيونية أصدق مثل على ذلك للأسباب التالية:
1- تصنف الدولة الصهيونية نفسها على أنها "دولة ديمقراطية يهودية"، وهي عبارة تعني أنها ليست دولة لكل مواطنيها وإنما هي دولة كل يهود العالم بما في ذلك أولئك الذين لم يهاجروا إلى الدولة الصهيونية، وأن الديمقراطية هنا مقصورة على اليهود، واليهود وحدهم. هذا يعني، في واقع الأمر، عدم الالتزام بالمثل الأعلى الديمقراطى مع التمسك بالإجراءات الديمقراطية مع تضييق نطاقها بحيث يتم تطبيقها على المستوطنين الصهاينة وحدهم دون غيرهم، وعلى كل من يستوطن معهم من اليهود ويتم استبعاد الفلسطينيين.
2- إن النظام التشريعي في الدولة الصهيونية، شأنه شأن النظم التشريعية في الجيوب الاستيطانية الأخرى، يتحكم في نطاق المشاركة السياسية عند المنبع، بالتحكم في الشرط الجوهري فيه والمتمثل في المُواطَنة، حيث توجد قيود رئيسية تحول بين أصحاب الأرض الأصليين من العرب وتَمتُّعهم بحق المواطنة على أراضيهم. فالشكل الديمقراطي للنظام وراءه أيديولوجية استيطانية استعمارية هي الصهيونية التي تحدد حدود الدولة على نحو لا يرتبط بالرقعة الجغرافية التي تحتلها الدولة. فالدولة الصهيونية أداة للتعبير عن القومية اليهودية، وهو ما يعني حرمان العرب، أصحاب الأرض الأصليين، من حقوق المواطنة. وهذا ما تكرسه التشريعات والقوانين من ذلك قانون العودة عام 1950، وقانون الجنسية عام 1952، والسياسة التربوية التي وضعت عام 1953 والتي تسعى إلى "تأسيس التربية الابتدائية في دولة إسرائيل على قيم الثقافة اليهودية، واكتساب العلم، وحب الوطن، والولاء للدولة والشعب اليهودي".
3- قوانين الصندوق القومي اليهودي تحظر تأجير الأراضي التي يمتلكها الصندوق (وهي غالبية أراضي فلسطين) لغير اليهود واستخدام عمالة غير يهودية (أي عربية). وهذا الشرط الأخير كثيرا ما ينتهك حيث تستخدم العمالة العربية في بعض المستوطنات والأراضي المملوكة للصندوق بسبب كفاءتها ورخصها. ولكن العنصرية جزء من القانون الإسرائيلي، ولذا إن "ضبطت" إحدى المستوطنات وهي تستأجر عربيا وتخرق القوانين العنصرية الصهيونية، فإنه يتم معاقبة المستوطنين. أي أن العنصرية هنا ليست مسألة فردية، بل مسألة خاصة لهيكل القانون نفسه.
4- غياب دستور مكتوب، وهذا الأمر يعود إلى محاولة تحاشي نشوب خلافات بل وانقسامات حادة بين العلمانيين والمتدينين. وعدم وجود دستور مكتوب يعطي الحكومة والكنيست حرية كبيرة في الممارسة السياسية دون قيود دستورية على حركتها.
مع وجود كل هذه القيود "القانونية" هل يمكن الحديث عن "ديمقراطية إسرائيلية"؟ ألا يكون من الأدق أن نعيد تسميتها بحيث نشير إليها على أنها "ديمقراطية المستوطنين"، تماما مثل ديمقراطية العصابات، التي يلتزم أعضاؤها بالإجراءات الديمقراطية فيما بينهم، حتى يمكنهم سلب الناس حقوقهم وممتلكاتهم؟
بعد هذه المقدمة النظرية يمكننا أن ندرس تجليات هذه الديمقراطية العنصرية والتي درسها الصحفي الإنجليزي جوناثان كوك (في "الأهرام ويكلي"). ولنأخذ ابتداء الجانب الأمني، فخلال الستة وخمسين عاما الماضية، رفضت إسرائيل إلغاء "حالة الطوارئ" التي ورثتها عن حكومة الانتداب البريطاني. فقانون الطوارئ يبقي إسرائيل دائما في حالة حرب دائمة، تسمح لها بالقيام باتخاذ نطاق واسع من الإجراءات المتشددة التي تتناقض مع مبادئ الديمقراطية. وتتضمن هذه الإجراءات الحبس الإداري (أي السجن دون تهمة أو محاكمة)، بالإضافة إلى الرقابة والتنصت. وتتخذ هذه الإجراءات داخل إسرائيل ضد المواطنين الفلسطينيين بوجه خاص، مما يجعلهم تحت حكم إرهابي ورقابي غير ظاهر وتحت السطح، وهو استمرار - بشكل مختلف وأساليب مختلفة- للحكم العسكري الذي رزحوا تحته خلال العقدين الأولين من عمر الدولة. وعلى فترات منتظمة يتم تذكير هذه الأقلية أيضا بأن الدولة لن تسمح بأي معارضة من المواطنين الفلسطينيين.
وتطال الديمقراطية العنصرية الصهيونية كلا من الفلسطينيين وأرضهم. وقد صرح بن جوريون أن قانون المواطنة وقانون العودة "سيشكلان معا وثيقة الحقوق ودستوره التي ستكفلها إسرائيل لكل يهود الشتات". والواقع أن هذين القانونين - اللذين يكفلان لأي يهودي في العالم أن يهاجر إلى إسرائيل وأن يحصل على جنسيتها – يشكلان أساس نظام قانوني للتميز العنصري بين المواطنين. فحسب هذين القانونين يتم إما عدم منح الفلسطينيين - الذين هم السكان الأصليون للبلاد – مواطنة، مثلهم مثل المنفيين، أو مواطنة من الدرجة الثانية، كفلسطينيين. هذا التصنيف محكم لأنه لا يسمح بالهجرة الفلسطينية - كما يسمح بهجرة اليهود – إلى داخل إسرائيل. والاستثناء الوحيد هنا ينطبق على الفلسطينيين الذين حصلوا على الجنسية الإسرائيلية بزواجهم من مواطنين إسرائيليين. وفي الصيف الماضي، أغلق الكنيست هذه الثغرة. فقد أصدر تعديلا لقانون المواطنة والجنسية يمنع لم شمل العائلات في حالة واحدة فقط، هي الزواج بين فلسطينيين وإسرائيليين.
أما بخصوص الأرض فيلاحظ أنه منذ تأسيس إسرائيل في عام 1948 عملت السلطات الصهيونية بلا هوادة لنقل أكبر قدر ممكن من الأراضي المملوكة للعرب إلى سيطرة الدولة الصهيونية. وفي عام 1948 كان المستوطنون الصهاينة لا يسيطرون إلا على 6% فقط من الأرض، أما الآن فتقع 93% منها اليوم تحت سيطرة إما الهيئة الحكومية المعروفة باسم "هيئة أراضي إسرائيل" أو الكيانات الصهيونية نصف الحكومية، مثل الوكالة اليهودية أو الصندوق القومي اليهودي. وقد تحقق هذا التحول من خلال مصادرة الدولة للأراضي المملوكة للفلسطينيين، إما من اللاجئين من حرب 1948 بواسطة القانون المعروف بقانون "الملكية الغائبة"، أو من مواطنين فلسطينيين أثناء الحركة الدائمة للاستيلاء على أراضيهم لإقامة مناطق عسكرية، أو محميات أو من أجل هجرة اليهود. واليوم لا يملك الفلسطينيون سوى 2-3% من الأرض، ويسيطرون على أقل من ذلك – لأن معظم أراضيهم تقع في نطاق سلطة التخطيط لعديد من المجالس اليهودية الإقليمية.
والله أعلم.
التعليقات