نقلت الليلة صحيفة (هآرتس) الإسرائيلية عبر موقعها الإلكتروني عن شيمون بيريز رئيس حزب العمل ورئيس الوزراء الأسبق، قوله إن وفاة رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات سوف تكون لها انعكاسات كبيرة على مسار النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني، بل وعلى المنطقة برمتها، وأضاف قائلاً إن "ما يحدث بالفعل الآن أن قيادة فلسطينية جديدة يجري تشكيلها في شكل عاجل، وهي القيادة التي وصفها بيريز بأنها "ستكون أكثر واقعية وتصميما على وضع حد للمشكلة الأليمة للشعب الفلسطينيي"، على حد تعبيره .
الجانب الآخر من المشهد الإسرائيلي (الليكودي)، كشفت عنه صحيفة (جيروزاليم بوست) التي نقلت عن مصادر أمنية قولها إن أجهزة الأمن الإسرائيلية ستستمر في عرضها للمساعدة في حالة وفاة عرفات، مشيرة إلى أن ذلك يتحقق من خلال الإعداد لمراسم تشييع الجنازة, وتأمين الدفن وغير ذلك من المهام، غير أنها شددت على انه لن يتم السماح تحت أي ظرف بدفنه في المسجد الاقصى في القدس أو في أي مكان آخر داخل اسرائيل"، كما نقلت الصحيفة التي تصدر بالانكليزية عبر موقعها على شبكة الإنترنت .
وفلسطينياً فإن مقربين من أسرة "الحسيني" المقدسية الشهيرة، سربوا أنباء مفادها أنها لن تسمح بدفن عرفات في مقبرة الأسرة التاريخية المتآخمة لحرم الأقصى، وأن ذلك القرار جاء تنفيذاً لوصية عميد العائلة الراحل، غير أن هذا الرفض من قبل (آل الحسيني) يمكن التفاهم بشأنه، لكن من لن يكون التفاهم معه وارداً، هو آرييل شارون الذي قرر عدم دفن عرفات في الأقصى، وهو ما يثير تساؤلات عن المكان الذي يمكن أن يدفن فيه عرفات، الذي يبدو أن الأقدار شاءت ألا يحكم وطناً مستقلاً في حياته، ولا يجد حتى مقبرة تليق بتاريخه النضالي الطويل .
ومن القدس إلى باريس حيث أتت زيارة الرئيس شيراك العاجلة وغير المقررة سلفاً إلى مستشفى بيرسي لتؤكد أن رئيس السلطة الفلسطينية لا يزال على قيد الحياة، لكن هذه الزيارة أكدت ما يتردد عن تدهور الحالة الصحية لعرفات، ثم جاءت تصريحات جيروم بونافون، الناطق باسم الرئاسة الفرنسية التي قال فيها إن "شيراك رأى عرفات وزوجته، وأعرب للسيدة زوجته عن أمنياته له بالشفاء"، ولم يذكر الناطق شيئا يؤكد أن الرئيس شيراك تحدث مع عرفات، حيث أكد بونافون أن شيراك رآه فقط، كما زادت التكهنات بتدهور حالته على نحو سريع حين أشار بيان الرئاسة الفرنسية إلى أن شيراك التقى بعد رؤية عرفات عددا من المسؤولين الفلسطينيين، ثم تحدث مع الاطباء المعالجين طالبا منهم بذل كل ما في وسعهم لإنقاذ حياة عرفات، وهو ما يشير إلى أن الوضع الراهن لعرفات أدق من أن تقلل من شأنه تصريحات رسمية مثل تلك التي أصدرتها إدارة الخدمات الصحية في القوات المسلحة الفرنسية، التي أكدت فيها أن "عرفات لا يزال على قيد الحياة" خاصة حين أورد البيان عبارة غامضة قال فيها "إن حالة عرفات الصحية أصبحت أكثر تعقيداً" مؤكداً أن تحرير هذا البيان جاء "احتراما لسرية المرض" وهو الأمر الذي شددت عليه السيدة سهى قرينة عرفات، كما أشار بيان المستشفى العسكري الفرنسي .
وكان عرفات قد نقل إلى مستشفى بيرسي العسكري في منطقة كلامار غرب باريس يوم 29 من شهر تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، وأفاد تقرير نشرته وزارة الدفاع الفرنسية قبل يومين أن الفحوصات الطبية الأولية أكدت وجود "خلل في الدم" واضطرابات في الهضم، لكنها استبعدت إصابة الزعيم الفلسطيني بسرطان الدم (اللوكيميا) .
وفي وقت سابق اليوم نقلت وكالة الأنباء الفرنسية عن عضو في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية قوله إن "اجتماعا طارئا عقد في مدينة رام الله اليوم الخميس برئاسة أمين السر محمود عباس (أبو مازن) لمناقشة تدهور الوضع الصحي للرئيس الفلسطيني"، وقال المصدر نفسه : "استدعينا بشكل عاجل لاجتماع طارئ للجنة التنفيذية لهذا الاجتماع الذي لم يكن مرتباً من قبل، وأنه خصص لمناقشة تداعيات تدهور الوضع الصحي المفاجئ للرئيس عرفات"، بحسب ما نقلته الوكالة عن المسؤول الفلسطيني الذي لم تسمه .
وما زلنا في باريس حيث أعلن مصدر طبي فرنسي أن عرفات يعاني حالة (وفاة دماغية)، لكنه أوضح أن ذلك لا يعني أنه قد فارق الحياة، مؤكدا أن عرفات يمكن أن يعيش أياما بل أسابيع بفضل الأجهزة المتصلة بجسمه، لكنه أكد أن عرفات لا يزال على قيد الحياة وذلك بفضل هذه الأجهزة، وإن كان يعاني غيبوبة عميقة جدا من المرحلة الرابعة، وهي أقصى درجة على سلم حالات الغيبوبة، لافتاً إلى أن المريض في هذه الحالة يكون بين الموت والحياة ، ولكنه يمكن أن يعيش عدة أيام بل وربما عدة أسابيع .
واتسعت دائرة التكهنات حول خطورة حال عرفات عندما أعلن مستشاره نبيل أبو ردينة للمرة الاولى أن الرئيس عرفات في حالة حرجة وخطيرة على الرغم من أنه تمسك بأن عرفات ليس في حالة غيبوبة، كما تفاقمت الشكوك بشأن تدهور حال عرفات بإعلان مصدر طبي فرنسي أنه خضع لتصوير مقطعي على الدماغ وهو ما يعني ـ وفقا لنفس المصدر ـ بأنه بادرة عن تدهور حالة عرفات الصحية ، وإزاء هذه الشواهد التي تشير إلى الأسوأ لم يبق أمام الصحافيين المنتظرين أمام مستشفى بيرسي العسكري سوى تصديق ما قاله المصدر الطبي الفرنسي الذي اكد في وقت لاحق أن عرفات لا يستجيب للعلاج، كما ان البعض منهم الذي لا يزال يتمسك بالتفاؤل لم يعد أمامه إلا انتظار تقرير رسمي من مستشفى بيرسي العسكري الذي لن يجرؤ مع ذلك على تقديم أي معلومات عن صحة عرفات إلا إذا حصل على موافقته شخصياً، أو موافقة أسرته أو موافقة كبار المسؤولين الفلسطينيين المرافقين له .
منطق الأمور وقراءة التصريحات والبيانات يؤكد بقاء عرفات على قيد الحياة في العناية المركزة في مستشفى بيرسي العسكري في باريس، لكن مغزى زيارة شيراك له، واعتراف مستشاره نبيل أبو ردينة للمرة الاولى أنه "يعاني وضعاً صحياً حرجاً"، إضافة إلى الغموض الذي يكتنف صياغة البيان الرسمي الذي أصدره المستشفى الذي يرقد فيه عرفات الآن بين الحياة والموت، كل هذه الشواهد وغيرها تشير إلى أن احتمال رحيل عرفات بات أقرب من أي وقت مضى، ليخلف فراغاً سياسياً لا خلاف عليه، بل على طبيعته وتفاصيله، فقد كان "أبو عمار" على الرغم من مرضه الصعب، وسنوات عمره الخمس وسبعين، وحصاره داخل مقره على مدى ثلاثة أعوام، بمثابة "رمانة الميزان" لكل القوى والفصائل الفلسطينية، فضلاً عن النخب والصفوف التالية من القيادات التي لا يعرف المراقبون شخصاً آخر غير عرفات يمكن أن يجمع بين بعضهم في مكان واحد، وأي شخصية ستأتي بعد عرفات قد لا تتوفر لها الكاريزما والرمزية والاستمرارية، وبالتالي لا يتوقع لها أن تستمر سنين طويلة كتلك التي قيض لعرفات أن يخوضها في واحدة من أكثر الحكايات دراماتيكية منذ البداية وحتى النهاية التي يبدو أنها باتت وشيكة مع تسليمنا بأن الأعمار بيد الله تعالى . .