جرت في النرويج قبل 31 عاما:
اسرار عقدة الليلة المرة في ليلهامر التي ما زال يعيشها الموساد
*كيف طلق المحامي زوجته ليتزوج عميلة الموساد؟
*لماذا تعامل دول القانون، اسرائيل التي لا تحترم القانون، كطفل مدلل؟


1
في كل عام تشهد اسرائيل نقاشا حول ما جرى في ذلك اليوم البعيد في تلك المدينة النرويجية الساحلية البيعدة.
كان ذلك ليوم 21/7/1973، وفي الساعة 22:40 منه أطلق رجلان 14 طلقة أصابت مواطناً مغربياً يعمل نادلاً اسمه أحمد بوشكي، فأردته قتيلاً أمام زوجته النرويجية، دون ان يدري مطلقا النار وهما عميلا للموساد انهما اخطءا الهدف هذه المرة، حيث كان الهدف هو رجل الامن الفلسطيني علي حسن سلامة.
ولم يكن اخطاء الهدف هو سوء الطالع الوحيد لمخططي ومنفذي العملية، بل وقوع عدداً من المتورطين في عملية الاغتيال، في قبضة الشرطة النرويجية.
ومن خلال ما تسرب من التحقيق عرف الراي العام بعض ما يجري هناك في المطبخ في تل ابيب الذي يتم فيه اختيار الهدف وكيفية تطبيق خطط الاغتيال.
وتبين ان وحدة التصفية في الموساد تابعة إلى وحدة تنفيذية سرية باسم متسادا، وقرارات الإعدام تقرّرها لجنة خاصة هي لجنة x وعلى رأسها يقف رئيس الحكومة وتضم رؤساء الاستخبارات، والموساد، والشاباك.
وحسب إرشادات لجنة x تقوم أجهزة المخابرات بجمع المعلومات حول الشخص المطلوب، ابتداء من مظهره الخارجي وبجلب صور له ودراستها وعناوين سكنه وعمله وأية تفاصيل من شأنها المساعدة والكشف عن أسلوب حياته وبرامجه اليومية، وعادة ما يتم تتبع الشخص المراد اغتياله في دولة أوروبية أو دول حوض المتوسط.
ويتولى عمليات التعقب أفراد متخصّصون في ذلك الأمر وهم قلة، على الأقل هذا ما اتضح من أقوال أفراد الموساد الذين اعتقلوا في النرويج.
وحسب ما تسرب من اعترافات رجال الموساد أولئك للشرطة النرويجية، فأن رجال التتبع والتعقب يعدون ستة رجال و نساء وجميعهم لهم قدرة على التنكر بأنهم مواطنون أجانب، ولهم خبرة عالية في أساليب التعقب السرية، وفي التصوير و المشاهدة السرية.
وبالإضافة إلى طاقم التعقب هناك آخرون يشاركون لإنجاح عمليات التصفية، مثل طاقم (ح) وغالباً ما يتكون من رجل وامرأة يمثلان دور زوجين، يكونان مسؤولان عن استئجار المنازل، أو غرف الفنادق وترتيب أمور أخرى تحتاجها عملية التصفية.
وهناك طاقم (ك) وهو المسؤول عن الاتصال بين المنفّذين الميدانين والقيادة في تل أبيب.
وبعد التشخيص المؤكد للشخص المطلوب، وبعد أن يتم إعطاء التصريح النهائي من المسؤولين للتنفيذ، ينضم للعملية طاقمان جديدان، وهما أولاً طاقم (ب) والذي يضم حراساً وسائقين للهرب، ووظيفة رجال (ب) وهم متنكرون أيضاً تحت غطاء أجنبي، التأكد من أن المطلوب لا يوجد حوله أو معه حراسة ومساعدة طاقم التصفية بترك المنطقة. والهرب عاملين بالمثل العربي الشهير (الهرب: ثلثا البطولة).
ويمكن أن يكون أهم طاقم في العملية كلها هو الطاقم (أ) ومهمته هي تنفيذ حكم الإعدام الصادر من لجنة x الرهيبة، أي الذين يضغطون على الزناد وما هي إلا لحظات حتى يكون المطلوب في عداد الأموات، إلا في حالات قليلة.
واستناداً لما تسرب من اعترافات ليلهامر فإن أعضاء لجنة (أ) الذين ينفذون الإعدام هم من رجال الموساد أو ضباط جيش من صفوف وحدة هيئة الأركان تخصّصوا في هذا النوع من الإعدام (مثل يهودا باراك رئيس وزراء اسرائيل السابق او افي ديختر رئيس الشاباك الحالي)، وهو طاقم يصل إلى المنطقة بهدف التنفيذ فقط ومباشرة بعد إنهاء العملية يترك المنطقة بسرعة).
وفي مرات كثيرة لا ينجحون مثلما حدث في تلك (الليلة المرة في ليلهامر) التي ما زال طعم مراراتها يؤرق الموساد ويثير نقاشا، كما اشرنا في الصحف الاسرائيلية.
2
في مطلع عام 2000، وفي إجراء نادر في اسرائيل حظرت اللجنة الوزارية الخاصة بإعطاء التصريح بالنشر للشخصيات الرسمية في الدولة، كتاباً لـ (أليعيزر بلمور) الموظف السابق في وزارة الخارجية حول عملية (ليلهامر) في النرويج.
في البداية لا بد من الإشارة هنا إلى آلية نشر الكتب التي يكتبها رسميون صهاينة لمعرفة كيف تم منع الكتاب، فبعد أن أكمل بلمور كتابه قدّمه كما جرت العادة لمصادقة وزارة الخارجية التي كان يعمل بها. والتي صادقت على نشر الكتاب وكذلك فعلت الرقابة العسكرية بعد أن طلبت حذف بعض المقاطع من الكتاب وإجراء بعض التغييرات الصغيرة عليه.
وبعد أن استجاب (بلمور) للتعليمات توجّه للجنة الوزارية الخاصة بالمصادقة على المنشورات التي يكتبها أي موظف سابق في الدولة عن فترة عمله. وفيما يخصّ هذه اللجنة فإن شرط موافقتها على أي مؤلف لأيّ موظف رسمي يسري حتى خمس سنوات بعد استقالة الموظف، وحتى عشر سنوات إذا تضمّن المؤلف تفاصيل تتعلق بأمن الدولة أو علاقاتها الخارجية.
وخلال العامين (1998 - 1999 ) على سبيل المثال، عرقلت اللجنة الوزارية المذكورة نشر عدة كتب منها، كتاب رئيس شعبة الاستخبارات السابق أوري ساغي (أضواء في الظلام) (الذي نشر فيما بعد)، وكتاب العميد احتياط ميخائيل الدار (داكار) (الذي نشر هو الآخر فيما بعد) و هي التي منعت كتاب بلمور.
وتكتسب هذه اللجنة أهمية خاصة في إسرائيل و يرأسها وزير العدل (وكان وقت النظر في الكتاب السياسي اليساري يوسي بيلين) ووزير الدفاع (إيهود باراك وكان أيضاً في الوقت نفسه رئيساً للوزراء) والخارجية (وكان دافيد ليفي) ووزير العلوم والرياضة (وكان متان فلنائي).
وعند مناقشة نشر كتاب (بلمور) قيل أن مشاركة فلنائي وباراك وليفي في اللجنة كان (ضعيفاً) ويمكن فهم ذلك، ربما فلنائي بسبب تخصّصه وباراك وليفي بسبب انشغالهما، والأهم ربما لترك المهمة ليوسي بيلن.
ولكنه لم يكن وحده هناك في تلك اللجنة المهمة، فالمصادر الصحافية العبرية ذكرت أن مصدر المعارضة الرئيسي لنشر الكتاب كان (الموساد).
صحيفة هآرتس العبرية ذكرت في حينه أن "رئيس الموساد أفرايم هليفي أقنع يوسي بيلين بأن نشر الكتاب سيضر بالموساد وبعلاقات إسرائيل مع النرويج" وبأن وزير العدل لم يردّ على صحيفة (هآرتس) بالتوضيح.
وكتب الصحافي يوسي ملمان في هآرتس بتاريخ 2/2/2000م معتقداً أن (رئيس الموساد يخشى على ما يبدو من توقيت نشر الكتاب، هناك في هذه الفترة لجنة تحقيق رسمية في النرويج تقوم بالتحقيق في الاشتباه بأن (توراكسل بوش) النائب العام إبان القضية قد ضلّل وزراء القضاء الذين قدّموا تقارير كاذبة للبرلمان، وأيضاً تقوم اللجنة بالتأكد من الشبهات بأن الاستخبارات النرويجية قد تعاونت قبل العملية وبعدها مع الموساد".
ولكن لماذا خاف الموساد من نشر الكتاب؟ ملمان يعتقد أنه بسبب وجود انتقادات لما يسميه الاستعداد الرديء للعملية، وكذلك لتصرف قسم من المشاركين، غير المهني بما فيهم مايك هراري قائد العملية، ومن المعروف ان هراري الذي شارك مباشرة في اغتيال عدد من القادة الفلسطينين في عواصم اوروبية، تحول الى مرتزق يبيع خدماته للحكام الجنرالات في افريقيا.
يقول ملمان: "من الواضح أن بلمور يعرف أكثر مما هو موجود لديه استعداد لكشفه، وعلى هذا النحو يبدو أن سبب معارضة رئيس الموساد لنشر الكتاب هو خوفه على صورة التنظيم الذي يرأسه، هذه الصورة التي تضرّرت خلال السنوات الأخيرة إثر سلسلة عمليات فاشلة في الأردن وقبرص وسويسرا".
ويقصد بالطبع عدة عمليات هزّت صورة الموساد في السنوات الأخيرة منها العملية الفاشلة لاغتيال رئيس المكتب السياسي لحماس خالد مشعل في العاصمة الأردنية عمان، والتي تدخّل فيها الملك الأردني الراحل حسين وتمخضت عن إعطاء الترياق الشافي لمشعل وإخراج الشيخ أحمد ياسين من السجن.
وأشار (يوسي ملمان) المتخصص في الشؤون الأمنية في مقاله في صحيفة هآرتس العبرية إلى أن أليعيزر بلمور الموظف المتقاعد صاحب الكتاب لم يتخيّل أن يأتي يوم وتنسب إليه إسرائيل احتمال المس بأمن دولته … !.
3
على أية حال، فإن الكتاب يتحدث، كما ذكرنا، عن ما حدث يوم 21 تموز من عام 1973، عندما أطلق النار اثنان من رجال الموساد الصهيوني على نادلٍ مغربي يدعى أحمد بوشكي وهو ينزل من الباص فأردوه قتيلاً على الفور أمام ناظري زوجته النرويجية الحامل في أشهرها الأخيرة.
وهي العملية التي أصبحت مجالاً للبحث والمراجعة لدى أصحاب القرار في اسرائيل وكذلك لدى الصحافة والرأي العام الاسرائيلي، وأعطت الكثير من المتابعين فكرة عن آلية عمل فرق الموت الاسرائيلية، وأيضاً عن محركات استهداف أشخاص بعينهم بالاغتيال، والدور الذي تقوم به (الدول الصديقة) في التغطية وعلى الأقل (غض النظر) عن أنشطة الموساد الرهيبة.
وساعد في إبقاء المسألة مثارة عدم سكوت زوجة القتيل المغربي والتي تابعت الأمر قضائياً والتي حصلت بعد سنوات طويلة على تعويض مالي من إسرائيل، ووقوع عددٍ من المشاركين في العملية في قبضة الشرطة النرويجية. وتقديمهم للمحاكمة والإفراج عنهم قبل إكمال مدة محكوميتهم وتحوّل المسألة إلى قضية للنقاش داخل دهاليز المجتمع السياسي في النرويج، كما في اسرائيل، فان المسالة لم تعد تثير حتى الفضول لدى الراي العام العربي...!.
كان الموساد يريد أن يصفي أبو حسن سلامة، ولكن تشخيصاً خاطئاً أدّى إلى مقتل المواطن المغربي، ونجح اللذان أطلقا النار من الموساد بالفرار ومعهم ثمانية من أعضاء الموساد من بينهم مايك هراري قائد العمليات في الموساد وقتذاك ورئيس الموساد تسفي زامير (وقتذاك أيضاً)، والذي كان أثناء العملية في غرفة عمليات متقدمة في النرويج، لادراكه اهمية الهدف يلاحقه جهازه.
واحد من الإثنين الأخيرين فرّ عن طريق البحر، ولكن ستة من أعضاء الموساد الآخرين وهم: (أبراهام جمار، ودان آرئيل، وتسفي شتينبرغ، وميكي دورف، ومريان غولدنيكوف، وسيلفيا رفائيل، ضبطوا وقدّموا للمحاكمة في النرويج.
وطرد ضابط أمن السفارة الاسرائيلية إيغال أيال الذي اختبأ العميلان شتينبرغ ودروف في شقته من النرويج وانتهت القضية، كما هو معروف أن علم الرأي العام الكثير عن أساليب عمل فرق الموت الاسرائيلية وكذلك، وهذا ما يتعلق بـ (بلمور) بأزمة دبلوماسية صعبة عكّرت صفو العلاقات الاسرائيلية مع النرويج، وهنا برز دور الرجل صاحب الكتاب المحظور.
4
يتضمّن الكتاب المحظور نشره، حسب استعراض ملمان له، أحداثاً مثيرة بالفعل كتبها أليعيزر بلمور الذي كان قد أرسل قبل هذا العملية بأربعة شهور للنرويج كملحق سياسي في سفارة اسرائيل هناك، وعيّن في وقتٍ لاحق مسؤولاً عن السفارة.
يقول ملمان إنه بعد اعتقال أعضاء الموساد في النرويج بأسابيع طلبت وزارة الخارجية والموساد من (بلمور) أن يعالج قضية المعتقلين، وأن يلعب دور رجل الاتصال مع السلطات النرويجية، وهذا ما فعله، إلا أن معالجة قضية السجناء فأوكلت من قبل قيادة الموساد في تل أبيب لمن يسميها بلمور (يهوديت).
يضيف ملمان "بلمور يقصد يهوديت نسياهو التي كانت من قدامى الموساد وكانت مشاركة في عملية اختطاف أدولف أيخمان في عام 1961 من الأرجنتي. نسياهو وصلت إلى استوكهولم في السويد والتقت مع بلمور في غرفة في فندق بعد أن أوصلت له تعليمات ذكرته بالأفلام البوليسية، بعد ذلك بفترة تجاسرت والتقت معه في أوسلو نفسها وطلبت منه أن يحدثها عن لقاءاته مع المعتقلين من أعضاء الموساد".
وفي الوقت ذاته كانت إسرائيل وكّلت المحامي (المقدسي) أرفين شيمرون لمساعدة المحامين النرويجيين الذين تولوا الدفاع عن المتهمين. ويورد ملاحظة قد لا تكون هامة في سياق حديثنا، وهي أن نسياهو تصادقت مع زوجة شيمرون وعندما سرحت من الموساد تدرّبت على المحاماة في مكتبه.
ويشير صاحب الكتاب المحظور إلى أن (أنواس شيودت) وهو أحد المحامين النرويجيين قد وقع في حب (سيلفيا رفائيل) إحدى المقبوض عليهم، والتي سحرت المحامي كما يقول بلمور.
المحامي شيودت أصبح يزور سيلفيا في السجن بشكلٍ ثابت وتحوّلت الزيارات منذ لحظة معينة إلى زيارات عاطفية. وبعد إخلاء سبيلها طلّق شيودت زوجته النرويجية وتزوج من سيلفيا.
بلمور يعتقد أن الحظ قد لعب في مصلحة الشرطة النرويجية بدرجة لا توصف في تحقيقات عملية القتل في ليلهامر، ويكتب "الأمر بدأ من الشرطي المجهول من شرطة ليلهامر (بار أريك روستاد) الذي نصب بعد القتل بفترة قصيرة حاجزاً على الشارع بين أوسلو وليلهامر، الشرطي شبه النائم يلاحظ سيارة بيجو بيضاء تمر أمامه ويسجّل رقمها في كتابه لأن المرأة التي تقودها بدت مضطربة في نظره) ويوضح بلمور أن المرأة المقصودة هي (مريان غولدنيكوف) من مواليد السويد التي اتضح لاحقاً أنها سكرتيرة عادية في الشاباك وجنّدت للعملية.
وفي اليوم التالي وصلت (غولدنيكوف) للمطار ومعها (دان آربيل) من أصل دانمركي وأعادت السيارة المستأجرة للشركة فتم توقيفها هي و(آربيل)، وفي جيب (آربيل) وجدوا رقم هاتف (إيغال أيال)، ضابط الأمن في السفارة الاسرائيلية، فخرقت الشرطة النرويجية حصانة ضابط أمن السفارة واقتحمت بيته حيث وجدت (ميكي دروا) و(تسفي شتينبرغ).
يواصل ملمان استعراضه للكتاب الذي يتحدّث عن العملية: (اعتقال (أربيل) و(غولدنيكوف) أفضى إلى شقة أخرى في أوسلو حيث اختفت (سيليفا رفائيل) الجنوب أفريقية و(أبراهام جمار). الإثنان لم ينهارا في التحقيق وتمسكا خلال أشهر بأسمائهما التنكرية (باتريشيا روكسبورغ) التي حملت جوازاً كندياً، و(لسلي أورباوم) البريطاني الجنسية.
محقّقو الشرطة النرويجية اكتشفوا أن الجوازات مزيّفة واشتبهوا بأنهم إسرائيليون. سيليفا وأبراهام من ناحيتهما لم يعترفا بهويتهما الحقيقية إلا في قاعة المحكمة.
"الحظ الذي ابتسم للنرويجيين كان سخياً معهم في الوقت ذاته بدرجة لا توصف حيث كانت ذروتها سقوط دانيل أربيل الذي وفّر منذ لحظات اعتقاله الأولى تفاصيل لا تقدّر قيمتها بثمن، وشكّلت أساساً قوياً لإعادة تمثيل العملية بأجزائها المختلفة" – كما يقول بلمور.
وفيما بعد برّر (أربيل) سبب انهياره بهذه السرعة لأن "من أرسلوه لم يكلفوا أنفسهم بذل الجهد في إعداده كما يجب، ولسبب ما كان على قناعة بأن عملية ليلهامر تتم بالتنسيق مع النرويجيين وبموافقتهم، ولذلك اعتقد أن معرفتهم لهوية الجهة التي أرسلته ستجعلهم يخلون سبيله فوراً".
ويكتب بلمور ملاحظة قد تبدو طريفة في تبرير انهيار (أربل): "هناك احتمالاً بأن مرض الخوف من الأماكن الضيقة الذي عانى أربيل منه قد لعب هو الآخر دوراً في تصرفه في فترة التحقيق. مخاوفه من الجلوس في الغرفة وحيداً وفي زنزانة صغيرة دفعته إلى البحث عن وسائل التودّد إلى محقّقيه وكسب سخائهم وصداقتهم. أربيل اعتقد أن مثل هذا الثمن يمكن الحصول عليه من خلال محادثات ودية صريحة".
وربما يوضح ما يسوقه بلمور، محاولة الاحتفاظ لديه ولغيره من الاسرائيلين بالصورة (السوبر) عن الموساد، فلم يستطع، بلمور، وهو الدبلوماسي صاحب التجربة والذي اقترب أكثر من غيره من أشهر عملية فشل للموساد في ليلهامر، التصديق أنه يمكن، هكذا و كل بساطة، أن ينهار عميل للموساد ويعترف، كما يمكن أن يحدث لدى أيّ عميل لايجهاز أمنى آخر في العالم.
5
يسرد ملمان نقلاً عن كتاب بلمور "حتى تكون هذه المحادثات طويلة وهذه كانت تتم في مكاتب التحقيق في الزنزانة الصغيرة - كانت هناك حاجة لمدهم من التفاصيل في كلّ مرة. أربيل وغولدنيكوف هما الوحيدان (الخلية الإسكندنافية) اللذان تحدّثا بصراحة منذ البداية مع محقّقيهما".
ولكن المسألة لم تتوقف عند (آربيل) فهناك أيضاً من قدّم معلومات للمحقّقين "تسفي شتينبرغ وميكي دورف اعترفا بحكاية التغطية التي زوّدا بها ولم يخرجا عنها خلال التحقيق معهما. طاقم التحقيق النرويجي استغل بشكلٍ جيّد المعلومات التي استطاع انتزاعها من كل من تطوّع لتزويده بالتفاصيل الهامة. المدعي العام استغل هذه النجاحات في التحقيق ووضع لائحة الاتهام بناء عليها".
بلمور يوضح أيضاً أن "طاقم التحقيق حصل على تفاصيل أخرى من خلال تحليل قائمة دخول الأجانب إلى النرويج وفحص استبيانات النزلاء في الفندق في أوسلو وليلهامر في الفترة التي سبقت حادثة القتل. النرويجيون لم يتكاسلوا بل على العكس قاموا بتوسيع اتجاهات التحقيق للدانمارك والسويد وفرنسا وإيطاليا وفي مراحل المحاكمة الأولى حاول المدعي العام استغلال ثمار التحقيق من أجل توسيع الاتهامات وشمل الجهود الإسرائيلية الشاملة في مكافحة العنف".
الصحافي ملمان يوضح أن بلمور، بكلامه هذا "يقصد أن قسماً من الطاقم الذي تولى قضية ليلهامر ظهر في عواصم أوروبية أخرى كان الموساد قد اغتال فيها نشطاء (أيلول الأسود) خلال الأشهر العشرة بين أولمبياد ميونخ وعملية (الليلة المريرة) كما أطلق عليها الموساد".
و كتب ملمان ملاحظة عائدةً إلى أفرايم هليفي، مسؤول الموساد الذي كان له دوراً في عدم نشر الكتاب قائلاً إن هليفي ربما كان يخشى الجملة التالية التي وردت في الكتاب: "المدعي العام تلقّى إشارة من المستويات الأعلى بالنزول عن الشجرة. النرويج لم تكن معنية بتطور القضية وتدحرجها إلى أبواب دول أخرى".
والقصد واضح هنا "أي ربط المشبوهين بعمليات الاغتيال في باريس وروما ونيقوسيا، هذا الأمر يصدر على ما يبدو من رئيس الحكومة النرويجي تريغواه برطلي نفسه الذي سعى لمساعدة إسرائيل المرتبكة من خلال تقليص الأضرار رغم حنقه عليها".
وهذا كلام خطير، وكان يجب أن يستلفت نظر المعنيين في الموضوع من الفلسطينيين ومن العرب وهو يشكّل نموذجاً لتعامل هذا النوع من الدول مع إسرائيل (كطفل مدلل)، والسؤال يبقى لماذا ؟ وما هي الأسباب الجوهرية التي تجعل إسرائيل تحظى بكل هذا العطف، وهي تخرق القانون بكل صلف، في دول تختال على غيرها من دول أخرى، بأنها تقوم أساساً على سلطة القانون.
يشير (ملمان) إلى إحدى الفقرات المثيرة في الكتاب والتي تدور حول كيفية حدوث الخطأ بقتل النادل المغربي بدلاً من علي حسن سلامة ويعيده إلى أنه (نبع من ملاحقة شتينبرغ ودورف لجزائري اسمه كامل بن آمنة الذي تبيّن أنه عضو في م. ت.ف ولكن ظهر في وقتٍ لاحق أنه كان الطعم الذي قاد المجموعة إلى بوشكي في ليلهامر. بن آمنة أعطى بعد العملية روايات مختلفة لمحققي الشرطة في النرويج والنمسا حيث تزوّج من امرأة نمساوية.
مرة قال إنه طالب ومرة قال إنه عامل بسيط وثالثة قال إنه بدأ العمل كموظف في مؤسسات الأمم المتحدة في جنيف. ولكنه وجد صعوبة في تفسير كيفية سماحه لنفسه بالتجوّل في النرويج وفي أرجاء أوروبا والشرق الأوسط. ولماذا كان بحوزته جوازان جزائريان ولماذا رافقه ممثل السفارة السعودية إلى المطار في جنيف في إحدى رحلاته".
يقول ملمان: "في كل الأحوال ظهر بن آمنة وهو يتحدّث مع بوشكي وبذلك تحدد مصير النادل المغرب، ثلاثة من أعضاء الموساد الذين زوّدوا بصورة (سلامة) قرّروا كلاً على حدة أن بوشكي هو المطلوب. هذا القرار حسم ضد قرار مناقض لعضو آخر في القوة".
وهذا الشخص كما يقول بلمور هي: "فماريان غولدنيكوف التي سبحت في البركة بجوار بوشكي وسمعته وهو يتحدّث النرويجية بطلاقة، هذا الأمر جعلها تستنتج أن الشخص الذي يتقن النرويجية بهذه الطلاقة لا يمكن أن يكون أبو حسن سلامة (فالأمير الأحمر ليس معروفاً كشخص يتقن اللغة النرويجية) يقول بلمور. ولكن رأي غولدنيكوف لم يقبل. مما سيجعل إسرائيل تندم طويلا، إلى درجة الخشية من كتاب بلمور عن تلك العملية.
المحكمة قرّرت أن (المجموعة التي اعتقلت في ليلهامر قد نظّمت من قبل الأجهزة الإسرائيلية، وأنها هي التي تقف وراءها".
وتم تبرئة عضو المجموعة (دورف) لعدم توفر الأدلة..
وصدرت الأحكام على المقبوض عليهم كالتال : شتينبرغ حكم عليه بالسجن لمدة سنة وغولدنيكوف لعامين ونصف، أربيل حكم خمس سنوات ونصف السنة بالسجن الفعلي، إلا أنهما لم يقضيا كامل العقوبة وأخليَ سبيلهما قبل ذلك.
ومنذ أن عاد المشاركون في العملية إلى إسرائيل وهم يلتزمون الصمت (باستثناء سيلفيا رفائيل)، ولم يجروا المقابلات مع الصحافة. وفي عام 1996 وافقت إسرائيل على تعويض زوجة المغدور (توريل لارنس بوشكي) وابنتهما وابنان لبوشيكي من زواجه الأول بمبلغ 400 ألف دولار. وفي نفس المناسبة عبّرت إسرائيل عن أسفها عن الحادث دون أن تحمّل نفسها المسؤولية عنه.
ويمكن أن تكون أرملة بوشكي، وهي التي تابعت بشكلٍ فردي القضية، حقّقت نصراً لصالحها في قضية زوجها الراحل، وإن لم يكن كاملاً ما دامت إسرائيل تعفي نفسها عن (مسؤولية) اغتياله، وهي التي لم تنسَ تلك الليلة المريرة في ليلهامر، وكان مخلوقات فضائية نزلت الى الارض واغتالت ذلك المسكين بوشكي.
و ليس هناك ما يشير إلى أن الأطراف التي استهدفها ذراع الموساد الطويلة قد تعلّمت دروساً من ليلة ليلهامر تلك، رغم أنها كانت في معظمها دروساً مجانية، دفع ثمنها المرحوم بوشكي ووفّرتها يقظة شرطي نرويجي ناعس..!
ومن الذين لم يستفيدوا من الدرس علي حسن سلامة (أبو حسن) نفسه الذي ذهب بوشكي ضحية بدلا عنه، الذي فجر الموساد سيارته في أحد شوارع بيروت بعد أن ودع زوجته ملكة جمال الكون السابقة جورجينا رزق، ولم يأبه بالتحذيرات حتى تلك التي أتته من الخصم اللدود انذاك بشير الجميل، والذي كان بينه وبين ابو حسن علاقات ود..!
وبرر الموساد اغتيال أبو حسن أو الأمير الأحمر كما لقبه الموساد، بأنه يقف على راس منظمة أيلول الأسود الفلسطينية التي تبنت عملية احتجاز رياضيين إسرائيليين خلال دورة الألعاب الأولمبية في ميونخ، ولكن المثير أن المسؤول الفلسطيني أبو داود خرج عن صمته عام 2000 وقال أن أبو حسن سلامة لم يكن له أية علاقة بمنظمة أيلول الأسود وان الذي جره إلى حتفه هو كلامه عن مسؤوليته المفترضة في تلك المنظمة..!