عندما دعا بورقيبة الحكام إلى التخلّص من مركبات النقص


القدس: كثير من السياسيين والصحافيين والشخصيات العامة زارت مخيم الدهيشة الذي يعيش فيه اكثر من عشرة آلاف لاجىء فلسطيني هجروا قراهم عام 1948.

صورة نادة لزيارة بورقيبة لفلسطين
لكن السكان مازالوا يذكرون زيارة الحبيب بورقيبة الزعيم التونسي الراحل، الشهيرة لمخيمهم والتي أعقبها إلقاء خطابه الشهير في مدينة أريحا والذي أثار غضبا عارما عليه من الرأي العام الفلسطيني والعربي.
وزار بورقيبة مخيم الدهيشة في الضفة الغربية التي كانت وقتذاك جزءا من المملكة الأردنية الهاشمية عام 1965.
وما زال أبو حلمي فراج (70) عاما الذي استقبل بو رقيبة في بيته في المخيم يذكر تلك اللحظات التاريخية ويقول مستذكرا، إن مدير مكتب وكالة الاونروا في المخيم وقتذاك اختار بيته، لأنه بيت على قدر مقبول نسبيا من الترتيب بمقاييس المخيم ويضيف "كنت اسكن في غرفة من الغرف التي بنتها وكالة الغوث للاجئين ولكن كان حولها حوش، وكانت بهذه الصفة افضل من حالها".
ويتذكر أبو حلمي أن سكان المخيم نظموا استقبالا حافلا لبورقيبة بطل استقلال بلد شقيق وهو تونس وان الرئيس الراحل بو رقيبة سأله عن عمله فقال له انه يعمل عاملا عاديا يشتغل يوم ويعطل أياما فطلب منه أن يبني غرفة إضافية إلى جانب الغرفة التي يعيش بها، ولكن أبا حلمي الذي يعيش الان في شقة رحبة أجابه "أريد العودة إلى قريتي التي هجرت منها ولو عشت في العراء".
ورغم أن معاصرين للزيارة مثل اسماعيل عودة الذي كان من سكان المخيم ويعيش الان في أحد أحياء العاصمة الأردنية عمان رأى أن تحضير البيوت التي زارها بورقيبة في المخيم مسبقا لتبدو بأحسن صورة كونت "فكرة مغلوطة لدى بو رقيبة وهي أن سكان المخيم يعيشون في ظروف معيشية جيدة".
وقال عودة لمراسلنا " عندما علم الأهالي أن بورقيبة سيزور المخيم جمعوا احسن الأثاث الذي لديهم ووضعوه في المنازل التي تم تحضيرها مسبقا ليزروها الزعيم التونسي، فرأى أن اللاجئين يعيشون بوضع مريح أو بشكل اكثر من توقعاته المسبقة، واعتقد أن ذلك كان سببا في إطلاق تصريحاته التي دعا فيها إلى انتهاج سياسة واقعية تجاه إسرائيل".
إلا أن أبا حلمي يتذكر أن بورقيبة طرح مسالة العيش بجانب إسرائيل في بيته وسأله إذا كان يوافق على ذلك.
ويقول أبو حلمي أن بورقيبة كان ودودا واطلق نكاتا مع الحضور وقبل فتاة جميلة قائلا أنها مثل ابنته واشتهرت الفتاة فيما بعد بالفتاة التي قبلها بورقيبة.
وكان بورقيبة وبعد زيارته إلى مخيم الدهيشة ألقى خطابا في أريحا بتاريخ 3/آذار 1965 قابله الرأي العام العربي في حينه بعواصف من الاحتجاج الحادة. بسبب ما اعتبر حينها تنازلا في الصراع العربي الإسرائيلي، ومن حسن الأقدار أن بورقيبة لم يعش ليرى أن ما كان يقوله حينها هو شديد (الثورية) مقارنة بما يحصل الان- كما يقول إسماعيل عودة.
وبدأ بو رقيبة خطابه التاريخي، بإعلان تأثره "للحياة الأليمة التي يعيشها اللاجئون والتي تيرز أثار النكبة التي منينا بها قبل سبع عشرة سنة، كما أني معتز شديد الاعتزاز ومتفائل خيرا بحماسكم الفياض وإرادتكم الفولاذية المتجهة إلى استرجاع الحق غير منقوص".
وبالطبع لم تكن هذه الكلمات التي أثارت الرأي العام العربي ولكنها ربما بدأت مع قوله "أود أن الفت انتباهكم إلى أن العاطفة المشبوبة والمشاعر المتقدة لا تكفي وحدها للانتصار على الاستعمار، وإن كان هذا الحماس ضرورة من ضرورات الكفاح لدفعه والإبقاء على جذوته، فان التضحية والاستشهاد هما اللذان يضمنان النتيجة المرجوة والفوز العظيم".
ومضى بو رقيبة في حديث هام غير إنشائي أكد فيه انه يجب أن يكون أصحاب القضية هم طليعة المقاومة، وانه لابد من "قيادة حكيمة تجتمع فيها خصال جمة من فكر ثاقب وتخطيط بعيد المدى وتبصير بالأحداث وفراسة لنفسية العدو ومراعاة لتفاوت القوى بيننا وبين الخصم واعتبار لإمكانياتنا الحقيقية مع ضبطها وتقديرها بأكثر ما يمكن من التحري والموضوعية حتى لا يؤول بنا الأمر إلى مغامرة ثانية تكون نكبة أخرى تعود بنا أشواطا إلى الوراء".
وهو ما حدث بعد عامين فقط من الخطاب، في ما يسمى في الأدبيات السياسية العربية النكسة، أو حرب الأيام الستة في الأدبيات الإسرائيلية.
واضاف بو رقيبة بما يناسب قائد متمرس "إن نجاحنا في المعركة يتوقف على مقدار كبير من الصبر وعلى، وتهيئة الخطط وتوفير الأسباب سواء في ما يتعلق بإعداد المكافحين وتزويدهم بالأسلحة أو في كسب الحلفاء والأنصار فلا نتسرع قبل أن نضمن النصر لقضيتنا".
واستفز الراي العام العربي وقتها ما قاله بورقيبة عن "العمل الإيجابي الذي شرعنا به يستدعي قدرا عظيما من الصدق والإخلاص والجد والشجاعة، ذلك انه من السهل الاندفاع في المزايدات الكلامية واتخاذ المواقف الحساسة أما الأمر العسير المهم فهو الصدق والإخلاص ودخول البيوت من أبوابها, فإذا اتضح لنا أننا لا نستطيع قهر العدو والإلقاء به في البحر، وجب أن ننتهج إلى جانب الكفاح المسلح طرقا أخرى تعتمد الحكمة والدهاء بما في ذلك من كر وفر وترهيب وترغيب".
وانتقد بو رقيبة سياسة "المطالبة بالكل أو لا شيء، التي قادتنا إلى المأزق الذي نحن فيه، وجلبت لنا الهزائم التي ما زلنا نجر ذيولها حتى اليوم".
ويعطي مثلا على صحة كلامه ما حدث في التجربة التونسية حيث أن "تجزئة كفاحنا إلى مراحل سهلت على فرنسا نفسها التنازل وجعلتها ترضى بقبول اجتياز مرحلة محدودة في كل مرة باعتبارها اخف الضررين بالنسبة إليها، وظنا منها أنها قد تضمن بذلك البقية الباقية من نفوذها وسيطرتها الاستعمارية بيد أننا كلما خطونا خطوة قطعنا شوطا جديدا نحو الهدف الأبعد، فازدادت فرنسا ضعفا وازددنا قوة مكنتنا من عوامل جديدة للضغط عليها بالشغب وعصابات المقاومة إلى أن كانت آخر مرحلة عندما خاض شعب تونس معركة بنزرت فحقق الجلاء التام".
ووصل بو رقيبة إلى ذروة (الاستفزاز) عندما تحدث عن قرار التقسيم قائلا بتهكم، على الأرجح "أننا لو رفضنا الحلول المنقوصة مثلما رفض العرب الكتاب الأبيض والتقسيم, وقد ندموا على ذلك فيما بعد، لظلت تونس إلى هذا اليوم منكوبة بالاستعمار".
وبكلمات عاطفية ختم بو رقيبة خطابه بالقول " تلك هي وصيتي أوصيكم بها، وطريقتي اعرضها عليكم في هذه الزيارة التي لا اعلم هل ستمتد بي الحياة حتى تتاح مرة أخرى، ولعلكم تذكرونها وتذكرون الحبيب بو رقيبة".
ويضيف "إني أناشدكم الأخذ بها للوصول إلى الهدف حتى لا نظل بعد سبعة عشر عاما أخرى أو عشرين أو مائة نردد بدون جدوى أغاني العودة والوطن السليب، ذلك أن كفاحنا لو يقتصر على العاطفة الملتهبة فسوف نبقى على هذه الحال قرونا، ومهما يكن من أمر فلا بد أن يبرز في صفوف العرب رجال لهم من الشجاعة ما يكفي لمصارحة الشعب ومواصلة الكفاح بجميع متعرجاته وفي كل أطواره ومراحله بما يقتضيه من دماء وكر وفر حتى نضمن لأنفسنا و للأجيال التي ستأتي من بعدنا النصر الكامل واسترجاع الحق السليب".
ودعا بو رقيبة للقادة "بالانسجام والتخلص من كل المركبات سواء كانت مركبات نقص يشعرون بها أمام قوة العدو أو مركبات غرور وتهور وارتماء على الهزيمة المؤكدة دون تقدير للعواقب".
وبعد هذا الخطاب هاج وماج الرأي العام العربي وأحزابه وقواه الوطنية, وحدث انه في مخيم الدهيشة الذي كان استقبل بو رقيبة بالهتاف والتظاهرات الاحتفالية, انقلب حاله بعد الخطاب في أريحا وخرجت المظاهرات المنددة والمطالبة باستمرار الكفاح والنضال ورفض أية حلول غير العودة وتدمير إسرائيل, ووضع شبان صور بو رقيبة التي كانوا رفعوها عندما زار الأخير المخيم على مؤخرة حمار وداروا به منددين بالتخاذل أمام العدو.
وبعد مرور كل هذه السنوات يقول أبو حلمي أن بو رقيبة كان على حق "كان يجب أن نتبع سياسة خذ وطالب".
وردا على سؤال حول إذا كان الاعتذار واجبا لأبي رقيبة، قال أحد الشباب "عن ماذا نعتذر هل لأننا كن نطالب بحيفا و يافا؟ إننا ما زلنا نطالب بذلك سواء رضي الحكام بذلك أم لم يرضوا".
واعتبر حسين رحال قائد جبهة التحرير العربية وهي الفرع الفلسطيني من حزب البعث العراقي والذي كان من سكان المخيم آنذاك وجزء من الذين شاركوا في التظاهرات المنددة بابي رقيبة، أن الجماهير كانت على حق وهي التي رفضت الهزيمة واستمرت بالنضال المتواصل حتى اليوم.
ولكن أحد المثقفين من المخيم يقول "الاعتذار ليست جزءا من ثقافتنا بشكل عام ومنذ أن ألقى بو رقيبة خطابه فان مشكلة الجماهير هي في قياداتها، فالجماهير تقدم التضحيات ولكن تأتي النتائج سيئة وربما كان بو رقيبة الذي خصص جزء هام من خطابه التاريخي ذاك للحديث عن القيادات كان لديه تقدير حقيقي للأمور".