القديس الحرديني( يمين) شربل(وسط )رفقا (شمال)
نسّاك الشّرق الأوائل
يقول القديس أرونيموس ، إن هيلاريون كان أول من تنسّك ، وبلاد الشام لم تعرف ناسكًا قبله . اما المناسك الأولى فقد انتشرت في لبنان وتحديدًا في وادي قنوبين أو قينوبيون وهي لفظة يونانية وتعني المنتدى أو المجتمع وقاديشا التي تطلق على الوادي هي لفظة سريانية تعني المقدس، وهناك جبل المنيطرة وتعني باليونانية حظيرة الغنم أو مكان تنسك ورهبنة، وانتشرت المناسك والصوامع في جبال لبنان من شماله الى جنوبه وصولًا الى قانا الجليل مرورًا بجبل لبنان الذي استأثر بحصة كبيرة منها حتى أُطلق عليه "جبل النساك".ومما يذكره المؤرخون أن ناسكًا اسمه أرسمس إنطاكي الأصل، هرب من ظلم الإمبراطور ديوقسليان في مطلع القرن الثاني ميلادي، وعاش سبع سنوات في لبنان ثم غادر الى ايطاليا واستشهد هناك. ويروى أيضا ان إبنة الملك الروماني صاحب قصر حردين المعروف اليوم بمعبد مركوريوس آمنت بالسيد المسيح وانتقلت لتعيش متنسكة في إحدى مغاور البترون، ومرة قالت لوالدها الملك عندما قام بجرّ المياه من نبع نيحا الى القصر، إن ما فعله كان بفضل الله وعنايته فنهرها قائلًا بل بفضلي وفضل رجالي فغضبت الطبيعة وتزلزلت الأرض وتهدّم القصر، ومنذ ذلك الوقت آمن سكان حردين جميعهم بالمسيح نابذين الوثنية ما بين القرن الخامس والسادس للميلاد.
مدارس النسك الأولى
عرف العالم المسيحي ثلاث مدارس نسكية وهي المدرسة القورشية وصاحبها أبو الموارنة أو القديس مار مارون وكما هو معلوم، فمقر هذه المدرسة في سورية الثانية وتحديدًا في جبل قورش، وأما المدرسة الثانية فقد كانت في بلاد ما بين النهرين من رموزها القديس يعقوب النصيبيني الكبير الذي توفي سنة 338 م، والمدرسة الثالثة وهي مدرسة القديس أنطونيس المصرية (250-356 ) وللقديس أنطونيوس الفضل في جمع النساك في أديرة جماعية الى حين طلب الكرسي الرسولي من النساك الإنفتاح على المؤمنين ومساعدتهم في حلول مشكلاتهم . وكان على الناسك أن يلبس المسوح أو جلد الماعز، ويعيش في العراء على أرض صلبة او فوق عمود مثل عمود القديس سمعان( بلغ طوله 36 ذراعًا وبني فوقه كنيسة وصفها الأب مارتان اليسوعي بأنها الأعظم شأنًا والأكثر فخامة في الشرق وربما في العالم أجمع ).ومما يذكر ان أتباع مار مارون لم يكونوا فقط من الرجال بل إن نساءً كثيراتٍ اشتهرن بأنهن أكثر تنسكًا وزهدًا من مثل ماران وكيرا وفي عهد مار مارون بلغ عدد من تنسّكن 250 متنسكةً.
جبال لبنان مستعمرات رهبانيّة
كان لا بدّ ، وبعد انتشار المناسك وازدياد عدد الرهبان الذين انقطعوا لعبادة الله ومناجاته ، من قيام الكنائس والأديار ففي بادئ الأمر كان الرهبان يشكلون في الجبال تجمعات أطلق عليها اسم "إكليزيا" وهي تعني مجمع للعامة في اليونانية ، من هنا كانت المجامع الأولى للمسيحين من أجل الصلاة ولم يكن أمامهم أفضل من الأقبية المهجورة والمغاور والكهوف بعيدًا عن عيون الوثنية المتطفلة. وفي القرن الثالث سمح للمسيحين أن يمارسوا عبادتهم فصار لديهم الكنائس الصغيرة التي قامت في الأماكن العامة ويعلوها أجراس من الخشب ولاحقًا من النحاس، ومع بداية القرن الخامس أي الفترة التي نزح فيها موارنة سورية الثانية الى جبال لبنان، كان لزامًا عليهم السكن مع مسيحيي لبنان في الجبال وبنوع خاص في جبّة بشري وجبّة المنيطرة، وقامت الكنائس والأديار المارونية منذ تلك الفترة وتوزعت في شمال لبنان وفي جبله وحتى على سواحله ونذكر منها دير مارت مورة إهدن ، دير قنوبين ، دير مار مارون كفرحي ، سيدة إيليج في ميفوق ، دير حوب ، دير كفيفان ، وحردين ، كما وتوزعت الأديار في مناطق شوفية وجنوبية مثل الجية و النبطية و مشموشة و البرامية بالقرب من مدينة صيدا.... وتحولت هذه الأديار إلى مستوطنات رهبانية مندفعين بقوة الأيمان حينًا و بوفاء النذورات والتماس الشفاءات حينًا آخر، وتهربًا من الضرائب المرهقة في أحيان كثيرة . وصارت أديار الرهبانيات المارونية منارات علم وتقوى وجد فيها الفلاح ضالته كالمدرسة وباب الرزق والملاذ وايضا مكانًا للتعبد والصلاة وتهافت السوريون الهاربون من الإضطهادات في سورية لينخرطوا في صفوف الرهبانيات اللبنانية ناذرين انفسهم رهبانًا ومنهم من جاء للعمل وللاحتماء في ربوعها.
أوقاف الأديرة
وفي الواقع ما وطئت قدم الموارنة أرضا إلا وتحولت الى بساتين غناء وحقول مليئة بالأشجار المثمرة، مثل أغراس الزيتون والتوت واللوز والعنب...كما وخصصوا مساحات شاسعة لزراعة الخضار والحبوب لا سيما القمح والبطاطا والذرة وصار المشايخ والحكام يغدقون على الأديرة اراض واملاك غير مستصلحة ، وجاء الفلاح ليساعد الرهبان الذين ما برحوا يشمرون عن سواعدهم ويستصلحون الأرض إلى جانب الفلاح لأنهم نذروا العفة والطاعة والفقر . وزادت أملاك الأديرة حتى أصبح لكل دير أملاكًا توازي خمس أو ستّ قرى مجاورة له وصارت وبحسب التقارير التي نشرت في هذا الصدد، أملاك الأديرة في جبل لبنان فقط " نصف أراضي الجبل".
دور الرهبانيات المارونية وانتشارها عبر القارات الخمس
لكن وعلى الرغم من ازدهار الرهبنة المارونية بيد أنها واجهت أعداءً من الخارج حيث كثرت أعمال النهب والحرق والتعدي والتنكيل بالرهبان، وواجهت انشقاقات داخلية كثيرة الى حين أخذت استقلاليتها المدعومة من قرارات الكرسي الرسولي ، وظلت الرهبنة آخذة بالتوسع والانتشار بل والازدهار متخطية مصاعب جمة ولا ننسى تلك الفتن التي وقعت بين الدروز والنصارى أبناء الوطن الواحد والتي ذهب ضحيتها الآلاف وذلك ما بين (1842-1860) وقد سقط شهداء الموارنة في سورية، وفي لبنان، وتحديدًا في حاصبيا وراشيا وجزين وجهات من صيدا والشوف، وكان أن ذبح على أثرها 50 راهبًا وتمّ حرق وتهجير الأديرة .
وخلال الحربين العالميتين فتحت الأديرة أبوابها لكل أبناء الوطن وبكافة طوائفهم، وكانت تعطي الخبز والطعام للمحتاجين ولما نفد مالها رهنت أملاكها للدولة الفرنسية ، وكوفئ رئيس عام الرهبانية وقلّده رئيس لبنان آنذاك وسامًا مذهّبًا . ولم تكتف الرهبنة فيما بعد بانشاء الجامعات والمدارس الراقية في لبنان مثل دير الكسليك وجامعته الشهيرة ومدرسة مشموشة وشكا وميفوق ودير كفيفان، بل اشاحت بنظرها الى بلاد الاغتراب تريد أن تسهر على جالياتها وترعاها، فأقامت الكنائس والاديرة أولًا في ابيدجان وساو باولووباماكو، ولاحقًا في الولايات المتحدة الأميركية وأميركا الجنوبية وكندا واوسترالياوأوروبا وإفريقيا.
أحداث 1975
خلال الأحداث الدامية التي عصفت بلبنان، سنة 1975، اعتبرت الرهبنة المارونية نفسها معنية في التدخل لحماية الموارنة، والدعوة الى وقف القتال بين الأخوة، هذا وقدمت الرهبنة كل دعم للمتضررين والمعاقين بسبب الحرب، إلى جانب المأوى والمساعدات العينية وما شابه من خدمات، وممن تميّز بمواقفه الجريئة في تلك الفترة الأب العام شربل قسيس والأباتي بولس نعمان والرئيس العام باسيل الهاشم.
قديسو الموارنة المشاهير
القديس شربل مخلوف : ولد في بقاعكفرا سنة 1828 ، وانخرط في سلك رهبنة دير ميفوق وانتقل الى دير عنايا ليمر بدير كفيفان حيث تتلمذ عل يد الأب نعمة الله الحرديني بدراسة الفلسفة واللاهوت ، أقام في دير عنايا 16 عامًا وبعدها انتقل الى محبسة الدير وعاش عيشة النساك والزهاد مدة 13 سنة، توفي في سنة 1898 وظل ينبعث من قبره نورًا مدة 45 ليلة متواصلة، وبعد فتح قبره وجد جسده سليمًا والدماء ظلت تقطر منه سنين طويلة، وبعد حصول العجائب والشفاءات قدمت دعوى تطويبه الى البابا بيوس الحادي عشر في 23/12/1925مع رفقا والحرديني و تم إعلانه مكرمًّا ثم طوباويًا ليعلنه البابا بولس السادس قديسًا في التاسع من تشرين الأول سنة 1977 م.
القديس نعمة الله الحرديني : ولد يوسف بن جرجس كساب في حردين من بلاد البترون وقدم نذوره الدينية في الرهبانية اللبنانية في 14 تشرين الثاني سنة 1830 باسم نعمة الله ، درس اللاهوت في دير كفيفان، وسيم كاهنًا سنة 1833كان يدرّس في الدير، ويعمل بتجليد الكتب، توفي في 14 كانون الأول (ديسمبر) سنة 1858 وأعلن مكرمًا في 17 أيلول (سمبتمبر)سنة1989 وتمّ تقديسه إلى جانب ستة قديسين في إيطاليا وإسبانيا في 16/5/2004.
القديسة رفقا الريس : ولدت رفقا في حملايا سنة 1882 ، والدها مراد الشبّق الريّس وأمها رفقا الجميّل إسمها الأصلي بطرسية، ولما انضمت الى رهبانية سيدة النجاة في بكفياّ اختارت إسم رفقا ، عملت في دير الآباء اليسوعيين في المطبخ، وفي سنة1860 نقلت الأخت رفقا الى دير القمر ، وكانت وظيفتها القيام بالرسالة الروحية بتعليم الأولاد الصغارالتعليم المسيحي ، وما طال الأمر حتى حصلت الحوادث المشؤومة بين دروز الجبل والنصارى وقدر لرفقاأن تسعف المصابين وتضمّد جراحهم كما وتعزّي الحزانى وفي 12 تموز (يوليو)1872 انضمت الى الرهبانية المارونية في دير مار سمعان القرن في أيطو وأصيبت رفقا بآلام وأمراض فككت عظام جسدها، وبعد فقدان نظرها وشللها التامَين وصلت الى دير مار يوسف جربتا القريب من دير كفيفان في وسط البترون، توفيت في 23 آذار (مارس) سنة 1914 أعلنت مكرمة سنة 1982 وطوّبت في 17 تشرين الثاني 1985،أعلنها البابا بولس الثاني قديسة في 10/6/2001 .
أديرة ومطارنة
من أديار الرهبانية اللبنانية الشهيرة: دير سيدة المعونات في جبيل 1770- دير مار مارون عنايا1826 – دير مار سمعان القرن أيطو 1863 – دير مار يوسف الضهر جربتا 1897 – دير القديسة تريزيا الطفل يسوع 1962 –
دير مار شربل الجية 1973 .....إضافة إلى الأديار الموجودة خارج لبنان . من أسماء المطارنة الموارنة في القرن العشرين، المطران يوحنا شديد والمطران يوسف سلامة والمطران إبراهيم الحلو والمطران بشارة الراعي والمطران طانيوس الخوري والمطران بطرس الجميلّ ،والمطران نصرالله صفير وهو من مواليد ريفون سنة 1920 ، كلّف بأمانة سرّ أبرشية دمشق سنة 1956 وسيم أسقف شرف على أبرشية طرطوس في 19 حزيران1961ونائبًا بطريركيًا على أبرشيتي جبيل والبترون . إنتخب بطريركًا في 19 نيسان (أبريل)سنة 1986 وعين كاردينالًا على يد البابا يوحنا بولس الثاني في 26 تشرين الثاني سنة 1994 فكان الكاردينال الثالث بعد المعوشي وخريش وهو البطريرك الحالي للموارنة في لبنان.
التعليقات