تونس - آمال موسى: يبدو الشاعر التونسي باسط بن حسن في مجمل تجربته الشعرية معنيا بقبح العالم وبغربة الذات الانسانية ووحشتها ازاء الوجود الذي لا يعد في نظرته الخاصة الا مرايا عاكسة لنفس القبح ومدونة لدفاتر انكسارات تلك الذات الغريبة. وطبعا ليس المقصود بهذا الكلام بأن باسط بن حسن يكرر القصيدة نفسها او انه يجتر نفس اللغة ويحافظ على ذات الزوايا من التبصر بل هو صاحب تيمة واحدة محددة يحاول من ديوان الى اخر ان يقطع فيها مسافة اخرى نحو المعنى وفي متاهة اللغة.
الشاعر باسط بن حسن
والذي اطلع على الديوان الاول "عطر واحد للموتى" والثاني "الصبح لا يبادلنا جواهره" سيلاحظ ان باسط بن حسن بدأ يتخلى قليلا عن مادية العالم ويغادر منطقة في اتجاه مناطق اخرى دون ان يغادر نفس البلاد!
في العملين الاولين كان حواره مع الاشياء ومع الموجودات ومع البرد والصقيع والذباب والدم ومع كل عناوين القساوة المنتشرة في كافة خريطة الحياة. أما في هذا الديوان الجديد "أبعد من الحضيض" وان كان قريبا من منطقة الحضيض الا انه يستنجد بالجزء الروحي والعاطفي ويحاول ان يواجه ظاهرة التشيىْ بقليل من المناجاة الروحية عله يصبح اخف من قطرة ماء كما يطمح.

والذات في هذا الديوان تعاني من الخصاء واليتم والانكسار وهي مظاهر يمعن الشاعر في تعريتها وابرازها كي يقدم اكثر ما يمكن من البراهين والادلة على ان الذات غريبة في عالم لا يكترث بها ويذكي وحشتها.
هذا بالاضافة الى عمق احساس هذه الذات بالوحدة بالرغم من ان العالم يعج بالناس لذلك فقصيدة باسط بن حسن لا تقدم الا ذات واحدة وهو اختزال واختصار يقوم به الشاعر كي يرمز من خلاله الى وحدة المصير واشراك الانسانية في نفس الحيرة والقلق، الشيء الذي
من رسوم الفنان السوري يوسف عبدلكي
يجعل الشاعر يكتفي بالسفر في داخله وبالانصات الى تأوهات ذاته وصراخه حتى لكأن هذا السفر يمر بكل الذوات دون ان يتجاوز جسد الذات الواحدة او يكسر قضبان الروح الواحدة وهو ما يعني ان الشاعر مهووس بتلك الذات المتناثرة والمنتشرة، غير عابئ بالاشخاص بالمعنى المتعارف عليه:
ايها الخصاء الجليل
اتأمل عرائي.أفتح يدي. ألملم الاصابع
المهمشة. أمططها.أتلذذ بقرقعة الغضاريف
المستفيقة. أرفع أصابعي نحو السماء. أمتلك
السماء. أتلمس وجهي. أعيد تشكيل صورته
غشاوات العمى أزيحها عن العنين. أكسِّر زجاجة
أنوارك ,امدّ للفراغ مداه. أصابعي النهمة،

ويتضح من خلال هذا المقطع الشعري ان الشرارة الاولى للغربة تتقد في الجسد، عندها تعمي الذات عجزه وضعفه وحدوده الضيقة فالذات تحمل بذرة غربتها وتحتكم الى اسباب وحشتها وديمومة انكساراتها وسقوطها الذي لا يسلمها سوى الى سقوط اخر أعمق هوة.
وفي أكثر من مقطع شعري يتراءى لنا ان الصدف المقصود من هذا السفر في غربة الذات الانسانية هوالبحث عن عيب لهذه الذات وعن سبل تتذوق عبرها طينها لذلك فهو سفر يرمي الى المحو وتتخلله اشراقات من الأمل تجعل للغربة ضدا على يديه تنتشل الذات وتستعيد الاحلام ما اقتطع من اصابعها!
ان هذه الذات التي تعيش استفاقة آلية تتمثل في وعيها الحاد بالغربة وبعدمية المصير، سعى الشاعر الى استنطاقها في هذا الديوان فجعلها في حالة كشف وبوح بحيث تنسج علاقة مع العالم مباشرة وواضحة ومختزلة، تصف نا تعيشه وما تراه وما تسمعه دون تورية وهي حالة قصوى من الصدق خلقها الشاعر كي تتماهى الذات في غربتها وتُصيّرها الى معطى حسي بالامكان تعنيفف والقبض عليه وتعريته واستخراج كنهه:
أفتحُ كتابك/ أرى أبيض الكتاب/ حروف الوجع تفتحُ عيني/ بمساميرها/ وتنشّ جفني على صلبانها/ أرى مزق الليل/ عناصري التي أخنقها/ وأقدمها قرابين/ لاستفاقتي الأليمة.
ولكن هل تستطيع الذات ان تكتفي بغربتها وان تطيل معها المواجهة أم انها سرعان ما ستفقد قدرتها على الصمود وتفر هاربة الى رموز منها تستمد بعض الدفء؟
في الحقيقة في هذا الديوان وبخلاف المجموعة السابقة يعيد باسط بن حسن الاعتبار للجانب الروحي ويستنجد بالله ويحول وجهة اسئلته الى هذه القوة.
يا الله/ أخرج من مملكتك/ هاربا من عدمك المتوهج/ في رماد الايمان/ أمزق وشم ذاكرتك/ في جسدي/ ببراعة حرٍ أسلخ جلدي/ وألقي ديدان احتضارك فيّ/ على عرشك الجليل/ هاربا من نورك/ أرطن بلغاتي الجديدة/ اسمك على لساني/ أرسله الى الحلق/ ألفظه/ فتنبت في العمى/ جنّات غوايتي.
ولا يفوت الشاعر ان يستنجد بالأب كرمز للتاريخ وللذاكرة من خلاله يتحاور مع سلالته وفي هذا الحوار يتخلص الشاعر من ثقله ومن نواح الأبد ويستعيد احساسه بشهد أيامه تاركا موكبه يتقدم رائعا في نقصانه متألقا في عزلة قبحه.

أبي/ حين أصيحُ/ يا أبي/ تخرج من غاباتك/ ضباع وغيلان/ وكائنات أخرى مشوهة/ لا أعرفها.
الأدب في ديوان "أبعد من الحضيض" يستحضره الشاعر كي يحوله الى متهم وبالتالي تغرق الذات اكثر في احساسها بكونها الضحية في هذا الوجود. الأب هنا هو الأصل وهو هذا النسل المتعدد والمفرد.

ان كل هذا الحفر في غربة الذات واكبته لغة الشاعر بكم هائل من الافعال في محاولة يائسة لتبديد غربة تشبه القدر في حتميتها. وغرف باسط بن حسن من نفس القاموس الذي تعوّد النهل منه في اعماله السابقة حيث لا مؤنس لهذه الذات غير الذباب والديدان. ويبدو الشاعر مصرا على احكام عالمه بمفردات وعطور تزيد في حزن هذه الذات دون ان تفرز حالة اخرى تليق بوعيها الصارخ.
ولكن السؤال الذي يبقى مطروحا هو
لوحة اخرى للفنان السوري يوسف عبدلكي
الى متى سيواصل باسط بن حسن الحفر في نفس البقعة واستعمال نفس المعاول خاصة وان هذه البقعة على حدتها وحقيقتها الا انها ضيقة واللغة غير سخية معها.
اقول هذا الكلام لأن المسافة التي قطعها الشاعر في أرض اللغة في هذه المجموعة الجديدة عندما نقارنها بالمجموعة السابقة سنرى انها دون طموح الشاعر نفسه بالرغم من اقتداره في كتابة قصيدة نثر بشروطها الصارمة.
الحقيقة
لا
تعمر
طويلا
يكفي ان تُطل الخديعة
بأقنعتها
ينكمش الابطال في ترددهم
ويهملون اساطيرهم
في المتاحف

وحده الكذب
يعانق الأبد
يوزع على العالم
أدواره
الكذب الغازي
الزاحف في عراء الأرواح
الكذب المنتصر
يشيّد جنّاته.

الداخلون الى القرن الجديد
على عربات اليقين
يُنكّس الحزن راياتهم
آمالهم تجتر الضباب
والفراغ ينهش رئاتهم
الذين يسحبون التاريخ
بلغاتهم العرجاء
ويطلعون من الخراب
بلا حياة
تتبعثر حكاياتهم في طلسمات
الجذور.

أبعد من الحضيض، دار " تبرالزمان" التونسية. والكتاب مزين بالعديد من رسوم الفنان السوري يوسف عبدلكي، الذي صمم غلاف المجموعة ايضا.
&