غاليليو: رأيت في عشر سنوات أكثر مما رأته البشرية طيلة خمسة آلاف وستمائة سنة!
على الرغم انه لا توجد حواجز قاطعة بين القرون، الا ان كل قرن يتميز بحصول بعض الاحداث المهمة سواء على الصعيد العلمي، او الفلسفي، او الاقتصادي، او السياسي..الخ.
كل قرن له انجازاته وتساؤلاته التي تختلف بالضرورة عن القرن السابق او اللاحق عليه. فما هي ميزة القرن السابع عشر يا ترى؟ على الرغم من انه امتداد للقرن السادس عشر بشكل ما، الا انه يتمايز عنه في الشيء التالي: ظهور العلم الحديث والفلسفة الديكارتية. صحيح ان كوبرنيكوس قال بدوران الارض حول الشمس ولكن غاليليو (1564-1642) هو الذي أسس العلم بالمعنى الحديث للكلمة.
والواقع ان النصف الاول من القرن السابع عشر شهد ولادة ثورة فكرية وعلمية هائلة، واما نصفه الثاني فشهد امتدادا وتعميما لهذه الثورة لكي تشمل مجالات معرفية جديدة. ففي نصفه الاول أسس غاليليو الفيزياء الحديثة التي قضت نهائيا على فيزياء ارسطو التي سيطرت على البشرية الاوروبية والعربية طيلة ألفي سنة. فغاليليو قال بان كتاب الطبيعة مكتوب بلغة الرياضيات. وبالتالي فلا يمكننا فهم ظواهر الطبيعة الا عن طريق الدوائر والمثلثات والارقام، والحسابات الكمية. وهكذا انتهت الفيزياء النوعية الارسطوطاليسية والتي كانت تهتم بروائح الظواهر، ولونها، وطعمها، ولمسها، وتعتقدانها قد درستها او فهمتها اذ وصفت كل ذلك.
ينبغي ان نشك بالحواس
غاليليو قال لا. غاليليو قال بان هذه الدراسة سطحية او ساذجة ولا تفهمنا حقيقة الظواهر. فالحواس تخدعنا، واكبر دليل على ذلك هو اننا نرى الشمس بأم أعيننا تدور حول الارض، ونحن نعلم ان العكس هو الصحيح. وبالتالي فلكي نفهم الظواهر بالفعل ينبغي ان نشك بالحواس، وان نختزل جميع ظواهر الطبيعة الى معادلات رياضية. فجميعها ذات ابعاد هندسية، واحجام يمكن قياسها بالمسطرة. وبالتالي فالمنهجية الرياضية هي الاكثر يقينية وصحة في دراسة الطبيعة. ثم جاء ديكارت (1596-1650) لكي يبلور التنظير الفلسفي لهذه الثورة العلمية ولكي يقوم باكبر انقلاب على المعلم الاول: ارسطو.
وهكذا قدم لنا ديكارت الرؤيا الجديدة للعالم عن طريق مفاهيم مننوع: العقل، المنهج، النظام، الكوجيتو، وكذلك مفهوم الله الذي وضعه على رأس نظامه الفكري لكي يضمن صحته.
واما الانكليزي فرانسيس بيكون (1561-1626) الذي سبق ديكارت وغاليليو من حيث الزمن فقد قدم للبشرية الاوروبية المنهج التجريبي، وكذلك المنطق الجديد الذي حل محل منطق ارسطو. هؤلاء هم الابطال الثلاثة الذين أسسوا المنهجية العلمية والعقلانية للغرب. وكان الهدف منها كما يقول ديكارت نفسه هو "ان نسيطر على الطبيعة ونصبح أسيادا لها".
هذا هو شعار الحداثة الاوروبية الذي لم يتحقق فعليا الا لاحقا، أي في القرن التاسع& عشر، عندما ظهرت الصناعة والالات التكنولوجية الجبارة القادرة على السيطرة على الطبيعة ووضعها في خدمة الانسان. ومن المعلوم ان الطبيعة في العصور السابقة كانت هي التي تسيطر على الانسان، بل وتخيفه من خلال ظواهرها العاتية: كالعواصف، والفيضانات، والحرائق، والبرق، والرعد، والأوبئة..الخ.
ديكارت والخوف من رجال الدين!

لكن ديكارت في تأسيسه للعقلانية الفلسفية تحاشى ان يدخل في صدام مباشر مع اللاهوت الديني (المسيحي). بل وتظاهر بان فلسفته لا تتعارض مع التعاليم الاساسية للكنيسة. والواقع انه كان يخشى سطوة رجال الدين وغضبهم، وان يحصل له ما حصل لغاليليو. ولهذا السبب تأخر في نشر كتابه الاول بعد ان سمع بمحاكمة غاليليو، ثم نشره بدون توقيع بعدئذ.. وهذا دليل على مدى خوف الفلاسفة والمثقفين انذاك من رجال الدين ومحاكم التفتيش. ولكن حذر ديكارت الذي ساد في النصف الاول من القرن السابع عشر، انتهى في النصف الثاني من القرن نفسه. فقد أخذ العقل يشعر بثقة اكبر بنفسه ويمد سلطته لكي تشمل مجالات كانت محرمة عليه سابقا: كالدين والعقائد الكنسية اللاهوتية.
الكتب المقدسة لا تستطيع ان تقدم لنا معنى الطبيعة
هكذا راح سبينوزا (1632-1677) يتبنى المنهجية الديكارتية ولكن لكي يطبقها على مجال لم يتجرأ ديكارت على الخوض فيه. وهذا هو الشيء الجديد الذي حصل بعد عام 1670 ومهّد للتنوير لاحقا. فكتاب سبينوزا الشهير "مقالة في اللاهوت السياسي" صدر عام 1670 بدون توقيع بالطبع خوفا من الملاحقة او التهديد بالقتل. وفيه يبين ان الكتب المقدسة (أي التوراة والأناجيل) يمكن ان ندرسها عن طريق المنهج التاريخي، مثلها في ذلك مثل أي كتاب اخر. بل ويمكن ان نكتشف فيها الكثير من الاخطاء التاريخية والجغرافية والطبيعية.. لانها ليست مؤلفة بحسب منهاج العلم والعقل، وانما من اجل التأثير على عاطفة البشر وخيالهم ووعظهم وارشادهم. فالكتب المقدسة لا تستطيع ان تقدم لنا معنى الطبيعة، لانها هي جزء لا يتجزأ من الطبيعة. وبالتالي فينطبق عليها نفس المنهج العقلاني الذي ينطبق على سائر ظواهر الطبيعة. هكذا نجد ان القراءة العقلانية حلت محل القراءة الخارقة للطبيعة التي لم تعد ضرورية في نظر سبينوزا.
وهكذا بتفكيكه لعلم اللاهوت راح سبينوزا يؤسس في آن معا معرفة جديدة بالتاريخ، ونظرية جديدة للسياسة. وراح يميز بين مجال الايمان الذي يقع داخل دائرة اختصاص اللاهوت، وبين مجال العقل الذي هو من اختصاص الفلسفة. وهذا التميز هو الذي اتاح له ان يفصل اللاهوت عن السياسة لكي يؤسس الدولة الحديثة القائمة على فكرة الديمقراطية والحرية الفكرية والمواطنية. فالعقل يهدف للتوصل الى الحقيقة، هذا في حين ان الايمان يهدف الى الخشوع والتقى عن طريق الطاعة والخضوع. وبالتالي فالدين يتطلب الطاعة قبل كل شيء، هذا في حين ان الفلسفة تتطلب المحاجة العقلانية، والاحتجاج، والشك، والمساءلة الخ.
في الواقع ان كتاب سبينوزا موجه ضد تعصب اللاهوتيين الذي سكان سائدا في عصره ويقمع حرية التفكير. ومعلوم ان سبينوزا نفسه كان احد ضحاياه لأن الظلاميين من اليهود والمسيحيين حقدوا عليه ولاحقوه فاضطر للاختفاء اكثر من مرة والعيش بشكل سري تقريبا.& ان سبينوزا يعترف باهمية الدين وضرورته ولكن بشكل ان يبقى محصورا في مجاله الخاص فلا يتعداه (أي مجال الايمان،والغيبيات، والمعجزات). اما مجال تفسير الطبيعة والتاريخ والسياسة فينبغي ان يُحْكَم من قبل العقل. وهكذا كان فكر سبينوزا يشكل خطوة اولى باتجاه العلمنة، والديمقراطية والحرية الفكرية، والحداثة. ولكنه كان سابقا لأوانه بكثير، فلعنوه وشتموه مدة قرنين من الزمن على الاقل.. كان فكره يشكل "وجبة غذائية دسمة" اكثر مما ينبغي بالنسبة لابناء عصره فرفضوه..
الطبيعة هي الله، والله هو الطبيعة
في الواقع ان سبينوزا كان يتحدث عن الله اوالطبيعة وكأنهما شيء واحد. وهو بذلك خرج على التراث اليهودي-المسيحي القائل بوجود اله شخصي منفصل عن الطبيعة ومتعال عليها، بل وخالق لها. ولهذا السبب صدم ابناء عصره -بل والعصور اللاحقة- صدمة شديدة. ففي رأي سبينوزا انه لا يوجد شيء خارج الطبيعة وقوانينها الحتمية. فالطبيعة هي الكل، وكل شيء يعود في عناصره ومكوناته الى الطبيعة (الطبيعة هي الله، والله هو الطبيعة: وحدة الوجود)..
ولم يكن هذا موقف مالبرانش (1638-1715) الذي كان ديكارتيا مثل سبينوزا، ولكنه كان مؤمنا على الطريقة المسيحية، بل ورجل دين متعبد. وفي احد الايام كان يتجول في شوارع باريس فدخل الى احدى المكتبات ووقعت عينه على كتاب لديكارت. وعندما أخذ يتصفحه شعر بصدمة فكرية هائلة. وعرف عندئذ انه انتقل من اللاهوت الى الفلسفة. ولكنه لم يتخل عن ايمانه وانما راح يقلنه ويفسر الدين بطريقة عقلانية لا تقليدية. فاصبحت ارادة الله في هي عبارة عن قوانين الطبيعة. فاذا كان كل شيء يعتمد على الله، فان الله لم يخلق العالم عبثا وانما من خلال قوانين فيزيائية محسوبة بدقة. ولهذا السبب أخضع مالبرانش حتى المعجزات الواردة في الانجيل الى قوانين الطبيعة وحتمياتها التي لا تناقش ولا ترد. هكذا انضم الراهب المتدين الى صف العقلانيين الديكارتيين، فأنكره زملاؤه من رجال الدين الاخرين، وشعروا وكأنهم خسروه. فهم يعتقدون بان المعجزات الخارقة للطبيعة ضرورية للايمان بوجود الله وللبرهان على قدرته وعظمته. وهو يعتقد ان الله ليس بحاجة الى المعجزات لاثبات وجوده. ويكفيه ان يثبته من خلال قوانين الطبيعة: او من خلال الطبيعة المنظمة عقلانيا والتي تتحكم فيها قوانين سببية او حتمية لا مردَّ لها.
في الواقع ان سبينوزا ومالبرانش وبقية المفكرين الاخرين كانوا يرهصون بما سيجيء بعدهم: أي بعصر التنوير، وفولتير، وديدروا، وروسو، وكانط..الخ.
الرحالة واكتشاف الشعوب والاديان الاخرى
ينبغي ان نعلم ان الوعي الاوروبي كان قد دخل في حالة أزمة مع ذاته في الثلث الاخير من القرن السابع عشر. فالشعوب الاوروبية اخذت تنفتح على العالم في ذلك الوقت. والرحالة اخذوا يسافرون ويجوبون الكون طولا وعرضا، ويتعرفون على شعوب اخرى، وعادات اخرى، وأديان اخرى. وكانت الصين تسحرهم بشكل خاص. ولكنهم احتاروا في أمرها.
فالصينيون لا يعرفون الوحي ولا الانجيل ولم يسمعوا ابدا بيسوع المسيح. ومع ذلك فهم اناس منظمون ويحبون الحكمة والفضيلة. عندئذ، ولأول مرة، راح الوعي الاوروبي يتساءل:كيف يمكن لأناس لا يعرفون الدين الالهي الصحيح (أي المسيحية في نظرهم) ان يكونوا بشرا، بل وفضلاء وعلماء!! ألا يشكل ذلك تناقضا خطيرا؟ وهل من حل لهذه المعضلة.
على هذا النحو دخل الوعي الاوروبي في أزمة حادة مع نفسه، ولم تنحل هذه الازمة الا بعدان اعترف بنسبية العقائد والاديان، بما فيها دينه الخاص، وهذا أمر صعب جدا ولا يستطيع ان يتحمله للوهلة الاولى. فالمسيحي الاوروبي ولد وترعرع على اساس ان المسيحية هي الدين الوحيد الموجود في العالم. وهي الدين الوحيد الصحيح او المرضي عند الله. فاذا به يسافر ويكتشف شعوبا اخرى لها اديان غير المسيحية. وهي لا تحب اديانها وتعتنقها وتتمسك بها مثلما يعتنق هو دينه ويحبه. فكيف يستقيم الأمر. ألم يقل له الاهوتيون بان دينه هو وحده الصحيح؟
نعم كانت الحقيقة مرة، والاستيقاظ أشدمرارة. فليس من السهل علينا ان نتخلى عن مفهوم الحقيقة المطلقة الذي تربينا عليه منذ نعومة أظفارنا والذي نعتقد انه يتجسد في عقيدتنا او ديننا فقط. ليس من السهل ان يشاركنا الاخرون في مفهوم الحقيقة، او ان نقرّ بان أديانهم وعقائدهم قد يكون فيها شيء من الحقيقة، هي الاخرى ايضا.. يضاف الى ذلك ان الكتب المقدسة تقدم تفسيرا لظواهر الطبيعة لا يتوافق مع تفسير العلم الحديث الذي كان صاعدا في ذلك الزمان؟ فأيهما نصدق؟
للدين مجاله، وللعلم مجاله، وهما متكاملان
هنا ايضا وقع الوعي الاوروبي في أزمة رهيبة مع نفسه وراح يتخبط ولا يعرف كيف خرج منها. والواقع ان الأزمة لم تنحل الا بعد تقديم تفسير جديد للدين/ تفسير لا يتناقض مع نتائج العلم الطبيعي وقوانينه الحتمية. أو قل انه تفسير يعطي لكل ذي حقه حقه: فللدين مجاله، وللعلم مجاله، وهما متكاملان.
مهما يكن من أمر فان القرن السابع عشر هو قرن العقل الكلاسيكي.انه عقل ديكارت والفلسفة الديكارتية. وهو عقل يريد ان يشك في كل شيء، ان يتفحص كل شيء، ان ينتقد كل شيء.
في السابق كان يكفي ان يستشهد احدهم بأقوال القدماء لكي نصدقه ولكي تفرض اقوالهم نفسها عن طريق الهيبة التي تحيط بكل ما هوقديم.وانما بعد ديكارت فان جميع الاقوال والاراء اصبحت خاضعة لمنهجية الشك والنقد. وحتى اقوال ارسطو -المعلم الاول- لم تعد تفرض نفسها بدون امتحان وغربلة. فديكارت علّمنا ان العقل هو اكثر الاشياء قسمة بين البشر. ولكن المشكلة هي انه ليس جميع البشر قادرين على استخدام العقل بشكل صحيح. من هنا ضرورة الاستعانة بالمنهج. ولهذا السبب ألّف ديكارت كتابه الشهير "مقال في المنهج". ولكن القرن السابع عشر هو ايضا قرن غاليليو الذي قال هذه العبارة الرائعة: رأيت في عشر سنوات أكثر مما رأته البشرية طيلة خمسة آلاف وستمائة سنة!.. كما انه عصر فرانسيس بيكون الذي علّمنا المذهب التجريبي ودعانا للتخلي عن أحكامنا المسبقة وافكارنا الخاطئة قبل ان نشرع في قراءة كتاب الطبيعة.
اقرأ الحلقات السابقة:
الحلقة المقبلة: الحداثة في القرن الثامن عشر