لم تصل الأمور إلى حد وصف الرئيس الفرنسي جاك شيراك في جولته المغاربية الأخيرة بأنه سفير واشنطن المتجول كما وصف من قبله رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير في جولته الشرق أوسطية لكنه لم يستطع مع ذلك ان يتخلص بالكامل من أن تكون الصدارة في مباحثاته الأجواء الدولية الحالية الخاصة بالإرهاب والحرب في أفغانستان بالتوازي مع المسائل الثنائية في العلاقة مع كل من تونس والجزائر والمغرب وأحيانا قبلها.
ولعل أهم ما يؤرق شيراك في هذا الملف وما يميز وضع فرنسا عن غيرها زهاء الخمسة ملايين مسلم من أصول مغاربية يعيشون في بلاده يُخشي تعاطفهم مع حركات أصولية متطرفة أو انخراطهم فيها مما قد يهدد النسيج الإجتماعي في فرنسا واستقرارها الأمني، الشيء الذي جعله حريصا علي التأكيد مرارا علي ضرورة عدم الخلط بين الإرهاب والإسلام معتبرا ذلك خطأ وخطرا وإن كان مثل هذا الكلام الذي كرره قبله ومعه زعماء غربيون كثر لم يترجم بشكل عملي واضح في سياسات داخلية وخارجية تتجنب هذا اللبس بل غالبا ما كان العكس هو الأصح.
لم يبد شيراك في هذه الجولة المغاربية الأولي له منذ وصوله السلطة عام 1995 مروّجا سمجا للسياسة الأمريكية في التعامل مع الإرهاب أو في الشرق الأوسط غير أنه لم يستطع في المقابل أن يكون حاسما في توضيح الفروقات الأساسية التي تفصل مواقف باريس عنها حتي أنه لم يفلح في ان يظهر نفس الصرامة التي أبداها مثلا المستشار الألماني شرودر في معارضته لضرب العراق بعد أفغانستان قائلا بأن الأمر غير مطروح علي جدول الأعمال الآن علي حد علمه وأن الأمر وارد ضمنيا إذا ما برزت قرائن ثابتة وغير قابلة للدحض تثبت تورط هذه الدولة أو تلك مع تنظيم القاعدة مما يجعل التمايز الفرنسي التاريخي والتقليدي عن السياسات الأمريكية اليوم باهتا أكثر من أي وقت مضي وللمفارقة من قبل رئيس ديغولي.
أما علي صعيد علاقات باريس الثنائية مع عواصم المغرب العربي فقد بدت مختلفة من حالة إلي أخري من زاوية اختلاف المواقف والتقييمات بين الرئاسة اليمينية والحكومة الإشتراكية برئاسة ليونيل جوسبان وهو ما يتجلي بالخصوص في كيفية التعاطي مع كل من الجزائر وتونس فبقدر ما يمكن الحديث في الحالة الجزائرية عن شبه التقاء بين الأليزي وماتينيون علي الأقل في الخطوط العريضة الأساسية تبدو العلاقة مع تونس مسألة خلافية خاصة في ملف حقوق الإنسان حيث قرر مثلا الحزب الإشتراكي الفرنسي قطع علاقته مرة واحدة مع التجمع الدستوري الديمقراطي الحاكم في تونس كما أن شيراك، الحريص دائما علي علاقة حميمية مع الحكومة التونسية، ما زال إلي الآن يُعير من قبل أوساط اليسار الفرنسي المتعاطف مع المعارضة التونسية بما صرح به قبل سنوات من إشادة بـ المعجزة التونسية ولا يُعلم الآن كيف ستقيم نفس الأوساط ما دعا إليه شيراك هذه المرة من ضرورة تفادي المناظرات فيما يتعلق بحقوق الإنسان في تونس ... كما أن وضع الحريات في المغرب يبدو هو الآخر شائكا خاصة وأن ما يوصف بتعدد التجاوزات في الفترة الأخيرة يأتي من قبل حكومة التناوب المصنفة بأنها حكومة اشتراكية يسارية ذات علاقة جيدة مع نظيرتها الفرنسية إلا أن ذلك لن يكون محط الأنظار الأبرز ذلك أن ملف الصحراء الغربية هو الذي يكون دائما الأولي بالإهتمام رسميا وشعبيا علي من سواه.
وإجمالا فإن جولة شيراك المغاربية الأخيرة لم تحقق إختراقا نوعيا في علاقة باريس بدول الضفة الجنوبية للمتوسط اللهم ما حدث في الجزائر من استقبال شعبي حماسي للرئيس الفرنسي الذي دعا إلي التخلص من عبء التاريخ في علاقة الدولتين في وقت ما زال فيه الكل في المغرب العربي حريصا علي حسن التعاطي مع عبء الحاضر قبل أي شيء آخر.(القدس العربي اللندنية)