الناظر الى أحداث الشرق الأوسط، ومحورها فلسطين - ومحور فلسطين مصير عرفات - يتساءل عما اذا كانت الدول العربية وأنظمتها المتزايدة الاهتراء وحكامها المتزايدو الترهّل ، ولو على شباب...
يتساءل المراقب عما اذا كانت الدول العربية قد استقالت حتى من محاولة المشاركة في معالجة أزمتها، بل في انقاذ ما يمكن انقاذه من مصيرها ومصير العالم الاسلامي الذي تنتسب اليه، مكتفية، مع الرئيسين المصري والسوري، بالتوجه الى "المجتمع الدولي" داعية اياه الى تحمّل مسؤولياته!
فماذا اذا لم يستجب المجتمع الدولي، وترك الحرب على الفلسطينيين تتصاعد، ومعها خطر ما يصفونه بالحرب الأهلية الفلسطينية، بل الحرب المفتعلة من شارون على عرفات؟
لا شيء؟ نتفرج؟ ننتظر؟
* * *
يعزز هذا التساؤل، المؤلم في واقعيته، بل المؤرق في مترتباته، ان أقصى ما أقدم عليه العرب عملياً كان ايفاد وزير الخارجية المصري ليطلب "الامان" للرئيس عرفات من... شارون!
حتى اذ ما عاد "بخفّي حنين"، لم تتأخر القاهرة هذه المرة في المصارحة، فأعلنت فشل مهمة وزير خارجيتها!...
ظاهرة اليأس الكبرى التي تعزز الشعور بالاستقالة العربية هي اعلان الأمين العام للجامعة العربية، في الساعة الاخيرة، الغاء اجتماع وزراء الخارجية العرب والاكتفاء باجتماع تشاوري على هامش الاجتماع الوزاري لمنظمة المؤتمر الاسلامي، باعتبارهم اعضاء في المنظمة... كأن ذلك "المُكتَشَف" كان مجهولاً!!!
* * *
لماذا هذا "التخلّف" العربي (ولا نجد تسمية أفضل)؟
السبب الاساسي - وكثيرون سوانا أسهبوا في تحليله ونحن معهم في ذلك - هو تخلّف الأنظمة العربية والهوة الشاسعة بين مفاهيمها السياسية والمفاهيم التي تسوس عالم اليوم...
حقيقة يدرك مأسويتها المراقب الناظر من خارج الى العمارة العربية المتداعية. ويزداد المراقب اقتناعاً عندما يقارن ما يقال عن العرب وما عندهم في الصحافة والتلفزيونات الأوروبية مثلاً، باهتمامات عالم الألف الثالث ومطامحه وسياساته.
أبسط الرموز، من خارج السياسة، ان "حرب اميركا على الارهاب" لم تشغلها عن ارسال مركبة فضائية تنقل "ركاباً" ومؤناً ومعدّات الى المحطة الفضائية الدولية... ثم تطلق، مع اوروبا، قمراً اصطناعياً جديداً يدور حول الارض ليقرأ تقلبات مياه المحيط الاطلسي، بنوعٍ أخص، فيصير في وسع الدول المعنية ترقّب الآثار المناخية والبيئية والاقتصادية على شواطئها ومدنها الساحلية، وزراعاتها.
بينما العرب منشغلون، في جاهليتهم، بمناقشة طريقة مقاومة العولمة، بدل التخطيط للافادة منها، علوماً واقتصاداً والمشاركة الخلاقة في آفاقها!!!
أوَليس في ذلك، للمراقب من خارج، مدعاة احباطٍ عربي مذهل مخيف؟
* * *
لكن "التخلف" السياسي الأهم هو الفرق بين نظرة العرب والنظرة الاوروبية الى القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني وحقوق الانسان الفلسطيني، بل الى وزن ورصيد الرئيس الفلسطيني... وهي نظرة كلها معرفة في العمق ومصارحة وحدب وحرص على الانقاذ...
في حين اذا تعمقنا في "النظرة" العربية وجدناها كلها، حتى الآن، ولعلها تستمر - فنحصد ما زرعنا! - مجموعة مكائد وحسابات قصيرة النظر ومؤامرات أقصر نظراً.
* * *
نتصارح في "ساعة الحقيقة" هذه؟
فلنتصارح، ولا حاجة الى تسمية لأن الكل يعرف الكل، وليس عند احد منا مخبأات لا يعرفها الآخرون.
1 دولة عربية كبرى، لعلها الأعرق، كان ينتظر عرفات - وصرّح - موافقتها على اعلان "الدولة الفلسطينية"، فمضت تؤجل الموافقة المرة بعد المرة تلبية لضغوط الضاغطين، الى ان فات وقت الاعلان... وهي حتى اليوم حائرة بين سلام مع اسرائيل تخاف عليه، وفرض ثمنٍ للسلام تخاف الا يأذن لها آذن معلوم بفرضه.
مفهوم؟
2 ودولة اخرى، طموحها ان تكون هي الكبيرة، بل الكبرى، كان همها من عرفات و"فلسطينه"، من ربع قرن ولا يزال، الا يبتزّها فيفسد عليها ابتزازها اياه. تطوّقه باحتضان كل اخصامه حتى اذا ما تقرّب هو اليها، خشيت ان ينتزع من يدها، بالمصالحة، "الورقة الفلسطينية" فلا يبقى لها ما تؤثّر به على قضية فلسطين، ولا يعود في وسعها اذذاك توظيف هذا التأثير في نيل حصتها من "صفقات" السلام الموهومة...
وها هي هكذا، باحتضانها المعارضة الفلسطينية المتطرفة، تساهم في القضاء على عرفات، فتقضي هكذا على حظها في توسّله وتوظيف "ورقة" صارت كاسدة لا أثر لها ولا تأثير... وربما تسبب لها الامساك بها بمثل الحريق الذي تسببه الجمرة للاصابع التي تلعب بالنار.
مفهوم؟
3 ثم الدولة التي كان يمكن ان تكون كبرى حقاً، لولا اسلاسها قياد استدراجها الى فخ طموحٍ، شبّه لها انه منتهى وحدويتها... فأهدرت السلاح والمال في غير محله، واستدرجت بدورها عرفات، في خطيئة كادت أن تكون مميتة، الى توظيف ثورته في غير محلها: في حرب بديلة من التحرير، رتَّبت عليه اوزار احلام سواه.
مفهوم؟
4& وكذلك الدولة التي كانت شريكة الحلم المجنون، لأن فلسطينييها جعلوها فلسطين اخرى، حماها وارث ارث غني ولّى، فاذا بها اليوم مهيضة الجناحين، مشلولة الدور، تخاف ان تكون وارثة حطام الحلم الفلسطيني، فلا تساند البطل الرمز، ساعة يتحداه اخصامها هي بالذات، خشية ان تتهم بدهورته.
مفهوم؟
5& واخيراً، وليس آخراً، الدولة المفترض فيها ان تكون الاكبر والاقوى، وقد بدّلت ثروتها مرة من قبل ميزان القوى اقليمياً ودولياً، وها هي اليوم وحدها تحاول تقويم الميزان لمصلحة الحل الفلسطيني، فاذا بـ"الانتحارية الاصولية" تسربلها ولو كانت عنها غريبة، لمجرد كونها تنسب "جهادها" الى الارث الديني الذي تتورع الدولة هذه عن التصدي له!
مفهوم؟
* * *
في هذا "الغاب" العربي كان امام حكامنا المتهافتين ان يسلكوا احد طريقين:
المصارحة العقلانية والاقلاع عن "ديبلوماسية اللغتين"، وكلا اللغتين خشبية ولا تجدي... فيعتصمون بالصمت لانه اشرف!
أو محاولة "التوحّد" مرة واحدة اخيرة للدفاع وإنْ بالحرب عن شرف العرب، لأن سقوط عرفات هو هدر الشرف العربي، وتبخّر "حلم الفدائية"الذي هو العصارة التاريخية للحلم العربي الكبير!
أوَليس ثمة من يقدر ان يكرر، مرة اخرى بعد قرن، صرخة النهضة الاولى: "تنبَّهوا واستفيقوا ايها العرب"؟...
* * *
... لا، لم يقم منا من ينادي!
نذهب الى المؤتمر الاسلامي، وكأننا ننتظر منه ان يقدم لنا براءة ذمة... الا اذا كنا قد قررنا ان نترك دور الدفاع عن شرف العرب والاسلام لـ"اسطنبول" الحداثة المتعسكرة مع الغرب، غير المثقلة بتوقيع حلف عسكري مع اسرائيل... وهو حلف لم يمنع الرئيس أجاويد من التصدي بصراحة للسفاح شارون وفضحه امام اميركا والعالم معلناً انه قال له، نعم قال انه "ينوي تصفية عرفات!".
* * *
اليوم، في الاجتماع الوزاري لمنظمة المؤتمر الاسلامي، اذا استمر "التخلّف" العربي، سيجد تاريخ الشرق الاوسط نفسه امام ثلاثة مسالك لا رابع لها سوى "الاستعمار الاسرائيلي في أبشع وجوهه":
العودة الى دور عثماني في دنيا الاسلام، مع فتح الابواب مشرعة أمام "بلقنة" (عَهِدَها العثمانيون وخلّفوها...) انما اليوم في المشرق الأصيل، فأين منها بلقنة اوروبا "الشرقية" التي كانت عثمانية من قرنٍ ولم تزل تتعثر؟...
أو العودة الى امبراطورية فارسية جديدة، من باب دور طهران الافغاني "المتأمرك"... خلافةً عباسية يكون "أمويّو" العصر هم الذين مهّدوا لها السبيل عندما تركوا ايران الصراعات الخمينية "السرية" تستدرجنا الى حروب عبثية، نحصد نحن مآسيها!!!
أو أخيراً - وهذا أسوأ مصير للعرب - الهرب الى أمام، أي الى تضامنٍ، ينطلق كلامياً وينتهي مفجعاً: البكاء على اطلال افغانستان والتظاهر انتصاراً للمهزومين، فنشاركهم في الهزيمة مفاخرين، مكبّرين مهللين، بل مطبّلين مزمّرين!
* * *
في غمرة ذلك كله، مسكين لبنان الذي لا حول له ولا قوة من إله عظيم... ولا صوت يرتفع من منابره ليقول: كفانا جنوناً وتكاذباً، كفانا!
واذا لم يرتفع صوت لبنانٍ عربي - هل يدرك حكامه ذلك؟ - فأي مبررٍ يبقى لوجوده "وطن رسالة" لا رسول لها؟
واذا لم يطلب لبنان ذلك لنفسه، فلماذا يقوم في العالم مَنْ يطلب للبنان ما لا يتجرأ هو على المناداة به؟ (النهار اللبنانية)