العَـنْـعَـنـة
&&& عن أبي:
&&& إن أصلابنا تعود إلى آخر الزفرات في بطن جارية للحجاج حين أطبق ترسه على طين أضلاعها في فراش القيلولة حتى غفا في وفرة الدفء و الدبق و دسم فروج مشوي مازالت هشاشة لحمه تحرق تفاحة رقبتي. أنا حفيده بعد عشرات القرون أو بعد مائة ألف نفس تتبعني مطالبة بعودته، وهم يرحلون ويعودون كل ليلة، يستذكرون وجهه الأخفش من على ناصية خشبة الطاعة يستخير من بينهم أجودهم نسباً أو أوفرهم لحماً أو أقلهم حظاً ليطعمه مسامير الصلب.كل ليلة قبل نومه فأفكها مسماراً مسماراً قبل نومي، أو قبل غيبتي فهي أوضح.
يوقظني الصباح بعد أن يصفعني بلوح غليظ شددته برافعة من حبل كنت قد أوصلت عقدته بعقارب ساعة الفجر. كل فجر ـ ولا أعني الفجر ذاته ـ يصفقني اللوح على رأسي. قد يدمى أو يتورم فترتفع فقاعته اللحمية، وبدل أن أعالج جرحي، أمعن النظر به وأتركه حتى الفجر التالي..لا أشعر براحة. أغتسل بماء الثلج وأتشمم البَرَد والريح من نافذة ضيقة بحجم كف طمرت أغلبها ولم أدع للنور من منفذ. أواصل تقصي الكتاب فأجده يتحدث عن الحشر، فأضيقُ أركان منامي، وعدة مأكلي ووفرة أرديتي، حتى أنني لم أترك لحافاً واحداً يذكرني بالدفء. الدفء الذي لم ينج أعمامي من محنة لحية الجد المتطاولة كل يوم بمقدار شبر كطابوقة ذراعه وهي تصفقهم. لأن الجد يمارس لعبة عذابه كل مساء قرب مدفأة الخشب المتقد باحتراق شهي بدا لهم. لا يفرقون بعدها بين لعبة وأخرى، أقصد رفسة وأخرى، فتقترب منيتهم مع منيته. منية من خالط ظهر أمهم ـ جدتي ـ يصك عليهم جهات النار دون أن يقلد طارق بن زياد ولا يصرخ برطانته في الجزيرة الخضراء. ولكن أحدهم سيعيش، هو أبي، وهو بالطبع كذلك وإلا فلست بالذي يبقى كي يقص تمارينه الصباحية مع وقع اللوح وفقاعات اللحم الطازجة مع كل فجر.
& يقول أبي نقلاً عن أمه، وهو ما أسمعه عن شقيقي الأكبر قبل أن يسرح بعربته في متون الجبال التي بلا أسم ولا "ماوت"، يقول عن أبي عن أمه:" ... وما وجد منفذاً غير أنه طالعني بعينين خفاشيتين، ثم صك على خصيتيه بصلبوخين هائلين، ما تركتاه يطلق تنهيدة أو يتبرغث في جلسته ".
حرص جدي الأقرب أن يتحسس خصى أبنائه منذ ولادتهم، وقبل أن يتناوبوا النوم فيما بينهم، كان يصفق بقبضتيه كرتي اللحم لدى كل واحد منهم، ثم يتركهم يتلاطمون في فرشهم كدجاجات مذبوحة، فيخرج عند تربة الحديقة المسيجة بقصب بردي جاف، ويشير ـ يحادثهم برقة ـ إلى وجهة النجوم المضيئة في ليل كقطعة غراب أصيل.
أعمامي تهالكوا، وقضت صلابيخ هائلة على جدي، وبقي أبي في كل أيام محاججته النار، يتفرس بي وهو يشير إلى وجهة النجوم، كغراب؛ ولم أكن.. فالمسافات التي كانت تقرب أقدامي، خطفت جسده الهزيل من سلاسل القراءات المتكررة مع المغيب أو الفجر أو النهار. أية قراءات كانت تعتـنقه بلا صفير.
و اليوم أحادثكم علني أهتدي بخبر ليس بضيق، وبنفس دون التهابات أو أزمات خانقة. أقاربكم مني، أقاربكم منه، ذلك الذي حلف به البصري عندما قال: ما رأيته يتكلم يوماً، إلا ظننت أهل العراق يظلمونه. وما ظن الآخرون كذلك، فتهالكوا خطوة اثر أخرى، في مسير كقطعان جيش فار. أعاقب خطواتي بما مشوه، فأعاند الحجرة برسم كبير له على لوح بحجم 150 في 250 وأعلقه فوق جدار حجرتي متأملاً الوجه/وجهي في بطن الجارية جدتي، كل لحظات الإقامة بين أضلاع الطابوقات التي ينبني بها الفراغ. لم أكن أعرف هيئته حتى قرأت ما كتبه العلوي في كتاب فصول من تاريخ الإسلام السياسي وذكره بما يليـ(ني): " كان أخفش لا يقوى على فتح عينيه في الشمس. ساقاه نحيلتان مجرودتان وبدنه ضئيل. وكان دقيق الصوت غير مكتمل الرجولة في نطقه برغم ما تمتع به من الفصاحة والبلاغة.. هكذا وصفه المؤرخون" ولم يصفه لي أبي قبل مفارقته لثقل نعليه. ذلك أنه لم يكن أخفش ولم أكن أنا الآخر و سريرتي تنفتح مع الصيف ولهب شمسه إلا أن ساقي نحيلتان، مجرودتان لدرجة تصورتهما في لوحة هيئته التي تحتل جانباً كبيراً من حائط الطابوقات المصفوفة بلا حيز لضوء هارب..
.. و آه من الهرب،ولما أؤمن به من وقع؟ ومن خطوات شارِبة، ومن ذوبان منيع، فتستحيل العتبات في جسدي زاوية للاتكاء الذي يمليه توجسي،مخافة أن يسترق النظر أحد منهم فأعاقب يومي بالدوران بلا وجهة في الشوارع المحتملة لكيّ باطن القدمين؛ بالمقاهي التي تتزين قهوتها ببريق الفيروزات المضاءة بأعينهم قبل رفعها على الأعواد؛ بالهياج والصراخ اليومي عند زوايا الجادات، تحمل عواءهم المستديم من أقبية الأخفش قبل ليلة مواقعته الأخيرة كي تنجبني بعد أجيال لم تنقرض، فتركت لي أن أنقرض مثل حشرة طنانة. تحملني مع الفجر واللوح والبَرَد والتفرس بالظلام ومن أن أبتعد عن خطي فتنتابني الظنون، وتستفيق الأرواح(هي الأرواح) المائة وعشرون ألفاً أو الملايين لولا أن النسيان تميمتنا، فتتلقف هيئتي قربه. على اللوح المعلق فتنثره معي، تنثرني معه، فتتساقط الخشبات السائدة، ولون وجهي من دبق الجارية. يتأتئ بلسانه فلا أقربه. يستحثونني، فأحملهم عليه بلا رحمة. أريد أن أشاركهم لولا أنه صورة ماثلة في الجد والأعمام وأبي قبل أن ينقل عنه إلى شقيقي ولي بعد قرون، حكاية تلك القيلولة التي أنجبتني بعد زمن، وتركت هشاشة لحم الفروج الذي أكله في تفاحة بلعومي حرقة هائجة. أعاقبها مع الصباح بالضرب والبرد والعويل مثلهم، وأستحيل بلطم صلبوخات صارمة أو بحيل العائلة جميعاً بالاختفاء ـ الانتحار من أعلى بناية مثلاً، أو الصوم عن النظر في بيت الراحة، أو التعلق بخيال جامد لهيئة موريسكي متأجل، أو العبث بثقب دامس، أو دونها كلها ـ أو بالحديث المتتالي مع كل سطر كما أفعل أنا الآن. أحاول أن أبتعد عن مجال العين أو الفجر المصحوب باللطمات أو التلوين الذي يجرف عبق الغرفة ولكن... هل يجدي الحديث عن أرث كإرثي؟ أفكر بتضييق ثقب كوتي كي تحرقني العتمة وتخفش عيناه إلى الأبد.
&& أجتمع الآن مع أحياء الغرفة لمزاولة الرهان، هي غرفتي كأبد، فتنجرف الحروف عن لساني فتنبت وتساءلكم، هل ترغبون فعلاً بمحادثة كهذه تخبئ ما تجره من جيوش وما تبرقه من أعين وما تحمله من وعود و وعود.&
&
مهداة ... إلى هادي العلوي في المعرة.
&
التعليقات