&
عشية تحرك آلة جيوش الحلفاء الحربية باتجاه معاقل النازية والفاشية ومن كان يدور في فلكهما السياسي، جاء إدريس الخوري إلى الحياة، وبالضبط، حسب الذين نقلوا إليه بعض تفاصيل تلك الولادة البعيدة، في شهر اب (اغسطس) من سنة 1939، وكان ذلك بحي درب غلف بمدينة الدار البيضاء، وتحديدا بزنقة كانت تسمى آنذاك بزنقة "واطو"، هذا الإسم
الذي بقي الكاتب يجهل معناه أو إحالته الحقيقية، حتى بعدما صار خبيرا بأسرار وخبايا مدينة أخطبوطية وعارمة مثل مدينة الدار البيضاء الكبرى.

وبالعودة إلى الأصول الأسرية للكاتب، فإن هذا الأخير لم يصله منها إلا كون والده نزح في تاريخ باكر من القرن الماضي من منطقة " العَوْنات " التابعة لإقليم الجديدة إلى منطقة الشاوية، وبالضبط إلى منطقة تسمى "كيسر" أو "قيصر" ، حسب ما هو مثبت على العلامات الكيلوميترية الطرقية، التي تقود إلى المنطقة، هذه المنطقة التي لا يستبعد الكاتب، بغير قليل من السخرية المشككة، كونها عرفت نزوحا مبكرا لفلول الجيوش الرومانية، حين كان المغرب عرضة للتدخلات الأجنبية، التي شهدها مع مطلع القرنين الأول والثاني الميلاديين.

وبوصول "العَوْني "، كما يفضل الخوري ذكر إسم والده سَّي علال، إلى دوار أولاد السي بنداود، تعرف إلى عائشة الداودية التي ستصبح زوجته فيما بعد، ووالدة أبنائه الخمسة سي محمد وفاطنة وعبد القادر وصالح وصاحبنا إدريس، آخر السلالة.

ورغم أن الكاتب لا يعرف، حتى اليوم، الظروف والملابسات التي قادت والده سي علال لدوار أولاد السي بنداود وبعدها إلى حي درب غلف بمدينة الدار البيضاء، إلا أنه ما زال يتذكر - حسب ما روته له زوجة عمه، التي كان ينادي عليها في صغره ب" نانا "- هو أن والده كان " زهوانيا " ، رجل يعشق الطرب، وقد كان يجوب القرى والمداشر والأسواق، متأبطا آلته الموسيقية " الكمبري "، ويحط الرحال أينما دعاه الفرح وأجواء الطرب إلى ذلك. ولعله من المرجح أن طبيعته التجوالية هاته، هي التي قادته في بداية&& القرن الماضي، وهو الشاب اليافع آنذاك، إلى الاستقرار بمنطقة " كيسر " بجهة الشاوية.

لم يكتب له أن يرى والديه أحياء وليست لديه أية صورة تقريبية عنهما
كان الفضاء الذي فتح عليه الطفل إدريس عينيه بزنقة " واطُّو " بحي درب غلف الأربعينات، عبارة عن خلاء مفتوح، عارٍ وشاسع، هذا الخلاء الذي كانت تقام به، وقتها، مجموعة من " الحْلاقي " الشعبية، وفي الجهة المقابلة له كان يتواجد مرأب ( ديبو ) كبير خاص بعمال البلدية المكلفين بالتنظيف في كل من حي درب غلف والمعاريف. لكن المأساة الكبرى، التي ربما قد تكون طبعت حياة الكاتب كلها وأثرت بشكل كبير على كتاباته، هي كونه لم يكتب له أن يرى والديه أحياء، حيث توفيا، على التوالي، وهو لم يزل بعد في شهره الثالث. فوالدته كانت مصابة بداء الصرع، وهو الداء الذي أودى بحياتها، كما تحكي ذلك السيدة " نانا " زوجة عم الكاتب.

ولعل هذا الغياب العارم والقاسي لتلك الرعاية والحدب الأبويين، هو ما جعل إدريس لا يأتي كثيرا على ذكر سيرة والديه، بل حتى حينما يحدث أن يذكرهما في سياق ما، يتم ذلك بغير قليل من " البرود " العاطفي الصادق، مادام لم يرهما قط، وليست لديه أية صورة تقريبية عنهما، إلا ما كان من ملامح متخيلة ونائية، شكلها عن والدته انطلاقا مما حكته له إحدى الجارات التي كانت تقطن بجوارهم بدرب غلف، والتي كانت، فيما يبدو، صديقة لوالدته.

لذلك، لا يتذكر إدريس إلا كونه تربى بين إخوته الأربعة، وأساسا تحت الرعاية الدائمة لأخيه الأكبر سي محمد، الذي حل محل والده المتوفى، باعتباره أكبر أبناء سي علال، حيث حرص على تربيته وتعليمه إلى أن اشتد بعض عوده، هذا على الرغم من أن هذا الأخ الأكبر لم يكن سوى مجرد عامل بسيط بميناء الدار البيضاء، الذي كان ملجأ كذلك للعديد من أفراد أسرته طلبا للقمة العيش الشاقة والقاسية.

في هذه الفترة، كان إخوة الكاتب قد انتقلوا من الإقامة بالبيت الأول الواقع بزنقة "واطو" إلى آخر لا يبعد عنه كثيرا، والذي كان عبارة عن غرفة واحدة مكتراة مع الجيران. ذلك أن ما كان سائدا بمدينة الدار البيضاء الأربعينات، هو أن كل المهاجرين الذين كانوا يلجأون إلى الاستقرار بها، قادمين إليها من الشاوية والنواحي، كانوا مضطرين إما لكراء غرفة مع الجيران أو اختيار دور الصفيح مكانا لاستقرارهم الرث البائس. لذلك، وحسب ما قيل للكاتب، فإن زوجة عمه "نانا"، هي التي كانت قد توسطت لأخوته من أجل كراء تلك الغرفة غير البعيدة عن زنقة "واطو "، التي سيتعلم فيها أولى طفولته.
القراءة والكتابة عند الكتّاب

وكغيره من أقرانه، سيلتحق الطفل إدريس بالكتّاب القرآني (الجامع)، مدفوعا إلى ذلك بتلك الرغبة الكبيرة، التي كانت تحذو شقيقه الأكبر سي محمد، الذي كان يطمح، إضافة إلى اضطلاعه بدور الأب المتوفى، في إن يكون حظ شقيقه الأصغر في التعلم أفضل من باقي أشقائه الآخرين، على الأقل، حتى لا يكون جميع أفراد الأسرة غير متعلمين.
لذلك، يحكي إدريس بعض تفاصيل هذا الأمر موضحا ذلك بقوله، " ليس غريبا أن أكون، آنذاك، الوحيد داخل الأسرة الذي كان يتقن القراءة والكتابة. فبالإضافة إلى أخي سي محمد، الذي توسط له عمي قدور كي يشتغل حمالا بمرسى الدار البيضاء، كانت أختي فاطنة تشتغل منظفة " Femme de ménage " عند الفرنسيين، أما المرحوم صالح، فقد كان قد تعلم مهنة النجارة الفنية على أيدي الطاليانيين بحي المعاريف. لقد كان نجارا فنانا وبارعا. أما عبد القادر، فقد كان هو الآخر يشتغل بالمرسى. بمعنى أنني كنت الوحيد المتعلم من بين إخوتي جميعهم، حيث أتذكر أنهم كانوا يشترون لي جريدة "العلم" لكي أقرأ لهم ما تحمله من أخبار متنوعة ".

عندما انهال عليه الفقيه ضربا بالعصا
وبجامع المرحوم الفقيه سي عبد القادر، ذلك " الحريزي " (نسبة إلى منطقة أولاد حريز التابعة لإقليم برشيد ) القصير، القموع، الذي كانت له ملامح شبيهة بملامح الألمانيين، سيواظب إدريس على التعلم والتحصيل حتى سن الثانية عشرة، ليغادر الكتَّاب هذا بإعاقة عضوية قاسٍية طبعت حياته حتى اليوم. ذلك أن الطفل إدريس، وعلى غرار كل أقرانه في تلك السن المبكرة، لم يفلت هو الآخر من مس الشغب والشيطنة والتخلف عن دروس الجامع، كلما رقصت رغبة الغياب والتسكع في رأسه الصغير.
ادريس الخوري او با ادريس كما يناديه اصحابه (تصوير صموئيل شمعون)
لذلك، حدث مرة، بعد إحدى غياباته، أن قرر الفقيه السي عبد القادر معاقبته، حيث انهال عليه ضربا بعصاه، وما أدراك ما عصا الفقيه!، أصيبت على إثره ساقه اليسرى بإحدى الضربات الزائغة والقوية. وعلى غرار باقي الأسر الشعبية المغربية المعدمة، التي غالبا ما يكون ذووها منشغلين بقوت عيشهم اليومي أكثر من تعقب أخبار أطفالهم لمعرفة تفاصيل أيامهم العادية والدقيقة، سواء تعلق الأمر بالمدرسة أو بالشارع، فإنه لم يتم الانتباه، في حينه، إلى خطورة إصابة الطفل إدريس إلا بعدما أخذت ساقه المصابة في الانتفاخ. ليحمله، بعدها شقيقه الأكبر سي محمد إلى مستشفى الصوفي القريب من بناية المعرض الدولي، وتجرى له عملية جراحية بدون أدنى مخدر بل وعلى مرآه، تم على إثرها إزالة بقعة من الدم الذي كان قد تخثر، من جراء ضربة سي عبد القادر الفقيه، في ساق الطفل. ومباشرة بعد مغادرة مستشفى الصوفي، أصبح إدريس يمشي على مقدمة قدمه المعطوبة، خوفا من أي تمزق قد يصيب الجرح الذي تسببت فيه تلك العملية الجراحية التي جرت أطوارها "على الهواء ".

درءا للعين الحاسدة، تضع لي أختي الكحل في عيني
وربما، بسبب ذلك الخوف المبكر، أصيب صاحبنا بتلك الإعاقة التي بقيت ملازمة له حتى اليوم. وفي هذا السياق، يرى إدريس أن ما أصابه كان نتيجة لعين خبيثة،حيث يقول بهذا الصدد: "على ذكر العطب، هناك أمر يجب أن تعرفه، هو أنني حينما ولدت كنت أشقر الشعر، أبيض البشرة "بوكوس"، مثل إبني الأصغر "مروان "& تماما. إنه صورة طبق الأصل من إدريس الذي تعرفه الآن. لذلك، كانت أختي فاطنة، درءا للعين الحاسدة، تضع لي الكحل في عيني. وقد قيل لي فيما بعد، إن الإعاقة التي أصبت بها كانت نتيجة للعين الخبيثة، فقط لا غير ".

ورغم الآثار النفسية البليغة والسيئة التي ترتبت عن هذا الحادث المبكر القاسي، فإن إدريس لم يكن منغلقا على نفسه، بل، على العكس من ذلك، كان مقبلا بشكل كبير على المحيط الذي ولد فيه وترعرع في أزقته، حيث مازال يتذكر، حتى الآن، من خلال مشاهداته وتسكعاته اليومية، تلك العينة من السكان الذين هاجروا في بداية القرن الماضي إلى درب غلف، والذين كان أغلبهم يشتغل إما في بعض الحرف الصغيرة أو فقط مجرد حمالين في مرسى المدينة أو عمال صغار في المعامل والشركات أو في مياومين أوراش البناء وما إلى غير ذلك. وإلى جانب هؤلاء، كانت هناك فئة أخرى من قاطني درب غلف ممن كانوا يُعْتَبرون من طرف جيرانهم من البسطاء، لسوء فهم أو تقدير، من الأعيان، على الأقل بالنسبة للحي الذي يقطنونه، وذلك بالنظر إلى طبيعة وظائفهم، التي لم تكن في حقيقة الأمر والواقع لترقى بأصحابها من طبقة كسيحة أو معوزة إلى أخرى مرقعة نسبيا. ومن تلك الوظائف الحكومية مثلا مهنة الأعوان (أو الشواش) في البلديات، أو سائقي الحافلات العمومية والجباة وما شابه ذلك. هذا إضافة إلى أصحاب الدكاكين والمحلات التجارية الصغيرة المختلفة، خاصة من ذوي الأصول السوسية (أمازيغ جنوب المغرب ). فدرب غلف، كما يشرح ذلك الكاتب:" حي شعبي بامتياز. حي امتاز برجالاته من الوطنيين. وأتذكر أنه كانت به مدرسة حرة مهمة هي مدرسة " الأطلس "، التي تحولت اليوم إلى محل لبيع السمك " الميرنة ". وهذا أمر مؤسف جدا ".
كان لتلك الصداقات الأولى التي عقدها الطفل إدريس مع أبناء الحي أثرها الواضح في اكتشاف هوامش وأحياء أخرى، غير حي درب غلف، الذي فتح عينيه على أناسه البسطاء الطيبين وعاداتهم الخاصة.& (&يتبع)
&
حلقات يكتبها:& الشاعر عزيز ازغاي
&
&الحلقة الاولى
الحلقة الثانية
لست أدري بالضبط ماذا تعني كلمة "جاهلية"!
&
&