&
مع اقتراب عقد القمة العربية في بيروت بعد نحو أسبوع من الآن‏,‏ كثفت الولايات المتحدة الأمريكية‏,‏ هجومها السياسي والدبلوماسي والإعلامي علي منطقتنا العربية‏,‏ لهدف في نفس يعقوب‏!‏
فما إن بدأ ديك تشيني نائب الرئيس الأمريكي جولته الأوسع منذ انتخابه في نوفمبر الماضي‏,‏ لتشمل تسع دول عربية وإسرائيل وتركيا‏,‏ حتي بدأ الجنرال انطوني زيني المبعوث الأمريكي الرفيع جولته المكوكية بين اسرائيل ورام الله‏,‏ حيث لا يزال الرئيس الفلسطيني سجين الاحتلال الصهيوني‏,‏ وبالمناسبة هنا تبدو واحدة من المفارقات الغريبة في لعبة التفاوض‏.‏
إذ كيف يتم التفاوض المشروع والعادل لمسئول تحت الحصار والسجن‏,‏ مع سجانيه ومحاصريه‏,‏ وهل في هذه الحالة يمكن أن تكون قراراته شرعية بالمفهوم القانوني والإنساني‏,‏ وهو تحت الحصار والإقامة الجبرية‏,‏ حيث القاعدة تقول لا ولاية لسجين أو أسير‏,‏ اللهم إلا اذا كان اطلاق سراحه مقابل خضوعه وانصياعه‏,‏ وهذا ما نربز بالرئيس عرفات أن يقبله تحت أي ظروف وملابسات وضغوط من هنا أو هناك‏,‏ لأن مؤدي ذلك هو قبول شروط المحتل والتفريط في دم الشهداء‏!‏
ولقد كثر اللغط الإعلامي في الفترة الأخيرة‏,‏ مصاحبا جولات تشيني وزيارات زيني مدعيا أن الولايات المتحدة الأمريكية قد كثفت جهودها الدبلوماسية بهذا الشكل غير المسبوق‏,‏ بعد ما اكتشفت أن الجزار شارون قد ذبح حمامة السلام بسكين بارد‏,‏ واستغل الانشغال الأمريكي بالحرب ضد الإرهاب‏,‏ لكي يجهز بعنف علي السلطة الوطنية الفلسطينية‏,‏ بل كي يغلق نهائيا ملفات أوسلو واتفاقاتها التي كثيرا ما عارضها‏,‏ منذ توقيعها في عامي‏1993,‏ و‏1995.‏
يدعي هذا اللغط الإعلامي السياسي أيضا أن الرئيس بوش الابن‏,‏ الذي كان قد طرح قبل فترة رؤية حول الدولة الفلسطينية وقد كانت رؤية غائمة‏,‏ انشغل عن تنفيذها بسبب تركيز جهوده علي الحرب في افغانستان‏,‏ قد عاد مرة أخري الي العمل ــ عبر جولات تشيني وزيني ــ علي تنفيذها‏,‏ بعد ما حقق النصر المؤزر الذي ابتغاه علي قوات طالبان والقاعدة‏.‏
غير أن الحقيقة التي نراها واضحة‏,‏ هي غير ذلك في ضوء العناصر التالية‏:‏
‏*‏ أولا‏:‏ـ بعد أن كسبت أمريكا غطاء شرعيا عربيا وإسلاميا‏,‏ لحربها ضد الارهاب في أفغانستان وغيرها من المواقع المرشحة للعقاب الحربي‏,‏ أغمضت العين عمدا مع سبق الإصرار‏,‏ عما يجري في فلسطين‏,‏ ومن ثم تركت شارون ينفذ مخططه العسكري ــ الذي قيل إنه عرضه في زيارته الأخيرة لواشنطن وأخذ عليه الضوء الأخضر ــ وخلاصته الانقضاض السريع والداهم علي الفلسطينيين‏,‏ للقضاء التام علي قواهم المادية والبشرية‏,‏ بحيث يتفاوض فيما بعد مع من يقبل شروطه للاستسلام‏.‏
ونظن أنه أصبح واضحا أن شارون قد أخذ فترة سماح قصيرة وحاسمة من واشنطن‏,‏ لكي ينتهي من مهمته قبل أن يفيق النائمون من العرب خصوصا‏..‏
‏*‏ ثانيا ــ لذلك رأينا كيف أفرط شارون افراطا نازيا في ممارسة استخدام القوة المسلحة ضد شعب أعزل‏,‏ فهو يستخدم الطائرات والصواريخ والدبابات الأحدث في العالم‏,‏ ليدمر البنية الأساسية للشعب الفلسطيني‏,‏ خلال خطة المائة يوم التي سبق أن أعلنها‏.‏
وركز شارون أهداف حملته العسكرية علي تحقيق أربعة أهداف عسكرية‏,‏ في أسرع وقت ــ بعد احتجازه الرئيس الرمز عرفات في رام الله منذ ديسمبر الماضي ــ وهي اغتيال القيادات والكوادر الفلسطينية النشيطة التي يتهمها بالارهاب‏,‏ سواء من فتح أو حماس أو الجهاد أو من الجبهة الشعبية وغيرها من منظمات المقاومة الوطنية‏,‏ ثم تدمير مراكز القوة الأمنية الفلسطينية وخصوصا القوة‏17,‏ ثم اجتياح المخيمات الفلسطينية ــ بؤر المقاومة ومركز القوة الحقيقية والمخزون الاستراتيجي للشعب الفلسطيني ــ حتي قبل المدن الكبري ــ ليقتل ويعتقل كل من هو بين‏15‏ و‏45‏ سنة‏,‏ ويدمر مخازن السلاح المخبأ فيها‏,‏ مذكرا بحريمته في صبرا وشاتيلا عام‏1982.‏
‏***‏
‏*‏ ثالثا ــ فوجئ شارون كما فوجئ الأمريكيون بقوة المقاومة الفلسطينية بأطيافها الوطنية المختلفة‏,‏ الأمر الذي أفشل المخطط الشاروني الساحق‏,‏ مثلما أذهل العالم كله‏,‏ بحجم التضحيات اليومية‏,‏ تعبيرا عن الاصرار علي رفض الخضوع للاحتلال والذل والقتل العشوائي والتصفيات الدموية‏,‏ وصولا لتطوير تكتيكات القتال لدي المقاومة‏,‏ سواء بالعمليات الاستشهادية الباسلة‏,‏ أو بالتصدي للدبابات الاسرائيلية‏,‏ أو بنقل القتال الي عمق اسرائيل وقلب القدس وتل أبيب وغيرها من المدن التي كانت في منأي عن ذراع المقاومة‏,‏ الأمر الذي أثار فزعا في المجتمع الاسرائيلي الموعود من شارون بالأمن فإذا الأمن هباء‏!‏
‏*‏ رابعا ــ بقدر ما أثار ذلك كله ــ خصوصا وحشية القتل الاسرائيلي ــ قلقا في الدوائر العربية الرسمية‏,‏ وغضبا في الأوساط الشعبية‏,‏ بقدر ما أثار خوف أمريكا من أن ينقلب السحر علي الساحر‏,‏ وتندفع المنطقة في عنف شامل وربما في حرب مفتوحة‏,‏ تعرض المصالح الأمريكية الحيوية للخطر الداهم‏,‏ في وقت تركز فيه واشنطن جهدها السياسي العسكري علي الحرب ضد الارهاب في العالم‏,‏ وهي تريد العرب والمسلمين الي جوارها‏,‏ ومن ثم لا تريد أن تعكر عليها اسرائيل صفو علاقاتها معهم في هذا التوقيت الحساس‏,‏ الذي تريد فيه نقل الحرب من أفغانستان الي العراق تحديدا‏!‏
هنا فقط تدخلت أمريكا‏,‏ حماية لمصالحها الحيوية من ناحية‏,‏ وحماية اسرائيل من طيش حكومتها المتطرفة بقيادة شارون من ناحية أخري‏..‏ وهنا فقط بدأ التحرك لايفاد تشيني وزيني‏,‏ كل في اتجاه‏,‏ وان كان يجمعهما هدف واحد‏..‏
وبرغم أن واشنطن أعادت قراءة واقع الصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي المسلح‏,‏ في ضوء تطوراته الأخيرة والمفاجئة‏,‏ خصوصا بسبب صمود حركة المقاومة فإنها في الحقيقة أساءت قراءة الواقع العربي الرسمي‏,‏ حين تصورت ــ لا أدري علي أي أساس ــ أن القمة العربية الوشيكة‏,‏ يمكن أن تنحرف نحو التشدد في ضوء عدوان اسرائيل علي الفلسطينيين بهذا العنف الهمجي‏,‏ فاستبقت القمة‏,‏ كما استبقت انفلات الغضب الشعبي العربي‏,‏ بايفاد مبعوثيها الي تسع دول عربية والي فلسطين واسرائيل‏,‏ علي أمل تفويت فرصة التشدد من ناحية‏,‏ وتبريد وتسكين الصراع المسلح في فلسطين من ناحية أخري‏..‏
أما الهدف‏,‏ فليس وضع تسوية شاملة للصراع العربي ـ الاسرائيلي‏,‏ كما يتصور المتفائلون والمتأمركون العرب‏,‏ لكن الهدف هو تهيئة المناخ عبر هدنة أمنية قد ينجح زيني في انجازها‏,‏ للجولة الثانية من الحرب الأمريكية‏,‏ وهي ضد العراق‏.‏
ولم يعد سرا أن تشيني ترك زيني في فلسطين يهدئد ويخدر‏,‏ بينما حمل هو الي العواصم التي زارها‏,‏ رسالة أخري مفادها‏,‏ أن ضرب العراق هو الهدف القادم والمؤكد‏,‏ مالم يخضع ويقبل عودة غير مشروطة للمفتشين بحثا عن أسلحته‏,‏ ولم يعد سرا أن تشيني قال علنا زمام الصحفيين في بداية جو حين هبط لندن‏,‏ إنني لا أحمل رسائل ولا أسعي لحوار ولكني ذاهب لأقول لهم ما يجب عليهم أن يفعلوه‏..‏ هكذا بكل غطرسة‏!‏
ولم يعد سرا أن تشيني قد سمع في معظم العواصم العربية التي زارها‏,‏ رفضا صريحا‏,‏ أو علي الأقل عدم حماس‏,‏ لضرب العراق في هذا التوقيت الحساس ــ حيث تمارس اسرائيل ذروة العنف ــ وبسبب اتهامات للعراق بامتلاك وتطوير أسلحة الدمار الشامل‏,‏ لا يقوم عليها دليل عملي ثابت‏,‏ لكن هل خرج تشيني مقتنعا بما سمعه‏,‏ أو هو خرج أكثر تصميما علي تنفيذ ضرب العراق‏,‏ باعتباره من صقور الادارة الأمريكية‏,‏ ومن أصحاب الثأر القديم مع العراق‏,‏ منذ أن كان وزيرا للدفاع في حرب عاصفة الصحراء‏!‏
‏***‏
وفي مواجهة هدنة زيني الأمنية‏,‏ وحملة تشيني الحربية‏,‏ ظهرت في الساحة عدة مؤشرات ايجابية‏,‏ يجدر بنا استثمارها جيدا‏,‏ خصوصا في مداولات القمة العربية الوشيكة‏,‏ وأهمها بالطبع هذا الصمود البطولي للانتفاضة والمقاومة الفلسطينية‏,‏ ثم حالة الغضب العارم التي تسود العالم العربي‏,‏ ليس فقط ضد وحشية العدوان الاسرائيلي‏,‏ بل أيضا ضد الصمت والتواطؤ الأمريكي وسعيه لنقل الحرب الي الجبهة العراقية‏,‏ مما يزيد الغضب اشتعالا ويهدد المصالح الأمريكية كلها‏.‏
وفي المجال نفسه‏,‏ لاحظنا تحولا وئيدا في المواقف الأوروبية خصوصا عبر اعلان برشلونة الاسبوع الماضي‏,‏ يدين المجازر الاسرائيلية‏,‏ ويساند الحقوق الفلسطينية وفي مقدمتها اقامة الدولة المستقلة‏,‏ وهو تحول يجدر استغلاله وتشجيعه‏,‏ لكيلا يعود فينتكس أمام الضغوط الأمريكية والابتزازات الصهيونية‏,‏ وأمام التراخي العربي أيضا‏!‏
أما قرار الأمم المتحدة الأخير الصادر قبل أيام رقم‏1397,‏ فقد أضاف رؤية جديدة وإن كانت مبهمة وهلامية الي الرؤي الأمريكية والمبادرات العربية‏,‏ حين نص علي رؤية لمنطقة تشمل دولتين هما اسرائيل وفلسطين جنبا الي جنب‏,‏ داخل حدود آمنة معترف بها‏.‏ وحسنته الوحيدة أنه ذكر لأول مرة دولة لفلسطين‏,‏ لكنه يجب ألا يسمح لاسرائيل بأن تتهرب من التزام تطبيق القرارين السابقين لمجلس الأمن رقمي‏242‏ و‏338,‏ اللذين ينصان علي الانسحاب من الأراضي العربية التي احتلتها في عدوان‏1967,‏ بما فيها القدس الشرقية والجولان وجنوب لبنان‏,‏ وعلي أساسهما انسحبت اسرائيل من سيناء في مفاوضات كامب ديفيد‏..‏
ولأن أمريكا هي التي أوعزت لمجلس الأمن بهذا القرار ولم تستخدم ضده حق النقض ــ الفيتو ــ كما تعودت دائما‏,‏ ولأن اسرائيل سارعت بالترحيب به‏,‏ فإننا نخشي أن يكون وراءه ما وراءه من أهداف مخبوءة لم تظهر بعد‏,‏ مثل تمييع القرارات الدولية السابقة الخاصة بعدم جواز احتلال الأراضي بالقوة‏,‏ ومثل ضرورة إنهاء الاحتلال الاسرائيلي‏,‏ ومثل حق عودة اللاجئين الفلسطينيين الي ديارهم التي طردوا منها قسرا‏..‏
ولعل هذا كله‏,‏ جنبا الي جنب مع المبادرة السعودية التي يجري إعادة صياغتها وتطويرها‏,‏ يكون قاعدة أساسية للحوار في مؤتمر القمة العربية الوشيك‏,‏ بحيث تقدم للعالم رؤية عربية متكاملة في مواجهة الرؤي الأخري‏,‏ خصوصا الاسرائيلية القائمة علي العنف والدم‏,‏ والأمريكية القائمة علي المناورة وتهدئة جبهة فلسطين‏,‏ للتركيز علي جبهة العراق‏!‏
هذا ما ننتظره من القمة‏,‏ حتي لا يقال عنها إنها قمة تشييع الانتفاضة ودفن المقاومة مع الكرامة واغماض العين عن تدمير دولة عربية عضو في القمة‏!‏(الأهرام المصرية)