د. عبد العزيز المقالح
في يوم واحد حصلت العاصمة صنعاء علي شهادتين ايجابيتين تؤكدان انها في الطريق الصحيح الي تجاوز اختلالات النظافة والنظام. اولي هاتين الشهادتين جاءت علي لسان صديق صنعاني اصيل يقول فيها: انه وجد نفسه قبل ايام في احد الشوارع الجديدة في العاصمة فاعتقد انه ليس في صنعاء وانما في مدينة حديثة اخرى، الشارع نظيف جدا والاشجار علي جانبي الطريق والاضاءة الليلية متوفرة بشكل جيد. اما الشهادة الثانية فمن صديق عربي مقيم في العاصمة منذ اكثر من خمسة عشر عاما، قال لي: ان بعض شوارع صنعاء اصبحت في مستوي شوارع المدن الحديثة وان الجهد الذي يبذل حاليا لانعاش العاصمة وانقاذها من الاهمال التاريخي جدير بالتقدير والاشادة.
ولعل القارئ لما اكتبه هنا، نثرا او شعرا، وما اكتبه في اماكن مختلفة يدرك مدي محبتي لهذه العاصمة العريقة والفاتنة بمعمارها وخصوصيتها وان محبتي لها تجعلني مشدودا اليها طوال ايام العام حيث لا اطيق مبارحتها يوما واحدا، وفي الوقت ذاته فان هذه المحبة تجعلني اكثر احساسا بما ينقصها من نظافة ونظام وما تستحقه من رعاية الدولة والمواطنين. وقد تواضع الناس علي ان يرددوا في كل مناسبة يتم فيها الحديث عن العواصم بأنها وجه الوطن واول ما يراه الزائر وينطبع في مخيلته، لكن الشعور بالمسؤولية تجاه هذا (الوجه) لا يزال غائبا، واقصد الشعور الجمعي، شعور كل مواطن ينتمي الي هذا الوطن بعامة وساكن العاصمة علي وجه الخصوص. والخطأ الفادح الذي نمارسه يوميا يتجلي في الهروب من تحمل المسؤولية ووضعها باستمرار علي عاتق الاداريين سواء اولئك الذين في الامانة او البلدية او المجالس المحلية والهيئة العامة للمحافظة علي المدن التاريخية. والحقيقة ان المسؤولية مشتركة وتقع علي كاهل كل مواطن، صغيرا كان هذا المواطن ام كبيرا، طفلا ام عجوزا وان كان الجانب الاكبر منها والرسمي يقع علي الاجهزة الحكومية. ولو ان كل مواطن في هذه العاصمة الجميلة المهملة يشعر بمسؤوليته معها لكان المسؤولون عنها مباشرة اكثر استشعارا بواجباتهم ولتضاعف جهدهم وابتكاراتهم.
في منتصف الثمانينات كتبت مقالا مطولا عن صنعاء وجماليات معمارها وفرادة طقسها وهوائها النقي، ونشرته ـ يومئذ ـ مجلة (اليوم السابع) التي كانت تصدر في باريس وقرأ الشاعر الكبير عبد الوهاب البياتي المقال وبعث الي برسالة يتمني فيها زيارة صنعاء ليشهد بعينيه اجمل مدينة قديمة باقية علي وجه الارض وليعيش معها لحظات من الصفاء والسلام النفسي وجاء الشاعر الكبير الي صنعاء، وذهبت معه اكثر من مرة للطواف بصنعاء واحيائها القديمة والحديثة، وبقدر ما اثارت في نفسه من معاني الاعجاب فقد صدمته بعض المناظر النافرة والخادشة للجمال الفطري، ومنها علي سبيل المثال لا الحصر، اكوام القمامات ومخلفات الاسواق والمطبات التي هي ظاهرة يمانية خاصة، والاوساخ الناتجة عن المجاري، ثم داهية الدواهي وهي السيارات التي تسير بالديزل وما تنفثه من ادخنة كثيفة وتلوث يفوق التصور. وكنت كلما رأيته يرفع حاجبيه استنكارا لمنظر لا يجوز السكوت عن بقائه اكاد اتواري خجلا.
والان، صحــيح ان صنعـاء قد اختلــفت كثـــيرا عما كــــــانت عليه في منتصـف الثمــــــــانينات وان هناك توجـــــها صادقا لاصلاح ما افسـده الاهمال الطـــويل الا ان المدينـة بقسميها القديم والجديد لا تزال بحاجة الي اهتمام اكبر والي اموال اكثر فالاحلام والمخططات وحدها لا تكفي، وبمقدار حاجة صنعاء الي الامكانات المادية فهي بحاجة الي دعم اعلامي مخلص للتوعية عن طريق الصحافة والتلفزيون والاذاعة، وتكفي دقائق قليلة تتخلل برامج الشاشة الصغيرة لتقول للمشاهدين هذه عاصمتكم هذا وجهكم! مع تسليط اضواء سريعة علي اماكن الخلل وعلي دور بعض فئران البلدية الذين كانوا وراء التشوهات والعشوائية في تخطيط الشوارع وغياب الميادين والحدائق اولئك الذين يكرهون الشوارع المستقيمة والتوجهات المستقيمة ويجدون اعذارا ومبررات لكل الاعوجاجات والتشوهات التي يعاني منها التخطيط الناجز للعاصمة. (عن "القدس" اللندنية).

تأملات شعرية:
وعلي أبواب الوقت
تضيء،
وتجلس صامتة صنعاء.
تحتضن الناس،
ويعشوشب تحت نوافذها العطر
ويورق ماء التاريخ
ينادي ياقوت الأشياء.