النهاية
التمعت الدموع في عينيك.. تجمدت بفعل البرد القارس (أو ليست أربعون درجة تحت الصفر بردا قارسا؟) .. قشعريرة غريبة اجتاحت جسدك كله وهزت كيانك. لدقيقتين كاملتين بقيت مسمرا فوق ذاك الكرسي الخشبي تحاول أن تفعل شيئا منطقيا .. أن يكون رد فعلك مناسبا للحدث. يداك لا زالتا في جيبي سروالك ورأسك مطأطأ كأنك تمثال قد من الشمع. وجنتك اليمنى ترتعش .. وهي عادة تلازمك منذ طفولتك عندما تواجه موقفا شاذا. رفعت رأسك ببطأ وتأملت المكان : لا أحد .. لا صوت .. لا شيء على الإطلاق..مجرد بياض و سكون رهيبين.
انهارت مقاومتك الخفية وتركت نفسك "تنهار". على ركبتيك جلست قرب تلك الكلمة. قرأتها من جديد .. للمرة الألف ربما. وللمرة الواحدة بعد الألف قرأتها بصوت مرتفع. صعقت من صدى صوتك. بدا لك و كأن كثيرين رددوا وراءك الكلمة. رفعت عينيك لتتأكد .. من جديد لا أحد. جلست القرفصاء (هكذا كنت تجلس على الحصير في بلدك). ضحكة خاطفة ووجيزة .. ضحكة أخرى طويلة .. قهقهة أطول وأصخب. تراجعت برأسك إلى الوراء وأنت تنفجر ضاحكا بملء فمك. تقهقه وتقهقه ..تتمرغ - كمجنون - فوق الثلج ودموعك تغادر مقلتيك فقط لتتجمد فوق وجنتيك.. والبياض المطلق هو الشاهد الوحيد على ما يحدث.
&
الحكاي
لماذا يغادر الواحد منا وطنه؟ لأنه لا يجد فيه كرامته بالطبع. وحيث وجدت الكرامة فثم الوطن. مشكلتك أنك لا زلت لم تعرف أين يمكن أن تجد كرامتك؟ الوجهات عديدة والتردد طبعك الأبدي. روسيا ؟ فنلندا ؟ النرويج ؟
كنت أمام ثلاث خيارات لا غير. وبسبب ترددك أعطيت الفرصة للكثيرين كي يظهروا لك كم هو حكماء. تعاطفهم ومشوراتهم المتذاكية كانت تشعرك بالغثيان.
"روسيا .. إخترت روسيا ". كم كنت سعيدا و أنت تستمع إلى تعليقاتهم وتتطلع إلى وجوههم الممتقعة ولسان حالهم يقول: "لقد كنا نعرف أنك أخرق، لكن ليس إلى هذه الدرجة". رغم أنك لا تملك سببا محددا لهذا الخيار إلى أنك فعلت ذلك عمدا لتشمت في آرائهم الذكية / الغبية.
أدركت - الآن - أن الحياة هنا قاسية جدا كقساوة المناخ. من عمل إلى عمل. من سكن إلى سكن. مجرد طير آخر يغدو خماصا ويعود بطانا. وأين أنا إذن ؟
لن يجديك البحث عن نفسك الآن. دع الأمر لوقت آخر. ربما فقدتَك. ربما هو مجرد هروب منك إليك. أو هو مزيج بين هذا و ذاك.
وها هي ذي هجرة جديدة تلوح لك في الأفق. هذه المرة لمسافة أقصر وبقرار فردي لا يحتمل أية أصوات أخرى. حتى لو قررت السفر إلى المحيط المتجمد فلن يتذاكَ عليك أحد.
أخيرا وصلت إليها بعد نصف يوم من السفر برا. قرية صغيرة هي. باردة جدا. إسمها غريب حتى أنك لا زلت تفشل في تذكره كلما حاولت ذلك.
جلست وحدك فوق ذاك الكرسي الخشبي .. فكرت أنك في هذه القرية ستحقق ما فشلت في تحقيقه في أي مكان آخر. ألا يكفي أنها مجهولة لدى أبناء بلدك على الأقل؟ ستعود لتحكي لهم عن وجوه و أماكن ووقائع لم يروها ولم يسمعوا بها يوما.
ستحكي لهم، كذلك، كيف نجحت في تحويل الثلج - لا التراب - إلى ذهب.
فكرت - و أنت تداعب الثلج بقدمك - أنك أول مغربي يصل إلى هذا المكان.من المستحيل أن يكون أحدهم قد جاء إلى هنا حيث لا نشاطات تجارية أو صناعية أو أي فرص عمل قد تغري البعض بالمجازفة والحضور إلى هنا. لكنك تعشق دائما كل ما هو جديد ومختلف. كنت تحب دائما أن تكون متميزا وألا تكون من "الآخرين".
الميم .. كان هذا هو أول حرف عربي رأيته محفورا فوق ذاك الرصيف الإسمنتي بعد أن أزحت الثلج وأنت تلهو بقدمك دون كبير مبالاة. بسرعة دفعت الثلج يمنة ويسرة لتتضح لك الكلمة كاملة ولتجحظ عيناك جحوظا مريعا. كانت الكلمة مكتوبة بخط أنيق وقد استغل من كتبها لحظة كان الإسمنت لا زال طريا ليخلّد ما كتب. كانت آخر كلمة يمكن لك أن تتوقعها و أنت تفكر فيما كنت تفكر فيه:
"مغربي ".
&
البـداية
هكذا قلت لأصدقائك بكل ثقة وكأنك خبير بواطن الأمور وبما يمكن أن يحدث:
"سأذهب إلى مدينة لم تطأها قدم مغربي من قبل وسترون أنني سأفاجئ الجميع بما سأحققه".
عبد الواحد استيتو - قاص مغربي
ملحوظة: هذه القصة حدثت فعلا.