الدار البيضاء-إيلاف

يستعد الكاتب محمد برادة لإصدار طبعة ثانية من روايته "امرأة النسيان"، وهي الرواية التي قيل فيها الكثير، واتهم فيها الروائي بأنه يصفي حسابات سياسية مع رفاق الأمس، للوقوف على بعض ما أثير عن هذه الرواية وبعض القضايا التي تطرقت لها واللبس الذي أثير بين شخصيات الرواية& وبين محمد برادة ثم طريقة تعامل المثقف مع التحولات التي يعرفها المغرب ورأيه في العلاقة بين السياسي والمثقف، التقت "إيلاف" الكاتب محمد برادة وكان هذا الحوار.
- اخترت استهلال راوية "امرأة النسيان" ببيت شعري لروني شار يقول فيه " أنت متعجل لأن تكتب كما لو كنت متخلفا عن إيقاع الحياة...عجل، عجل بأن تنقل للآخرين نصيبك من العجيب والعصيان والإحسان"، هل الرغبة من المثقف في الكتابة هي التي دفعتك لكتابة "امرأة النسيان"؟
&
- الاستشهاد بروني شار يأتي في سياق معين، إنه يقصد أن علاقة الشاعر والروائي والكاتب بصفة عامة بالكتابة علاقة معقدة، لأنه يمكن أن ينتظر إلى مالا نهاية، وأن الكاتب يبحث دائما عن الشكل الأكمل لكتابة نصه، ولذلك الكتابة احتمالات متعددة، كل نص يمكن أن يكتب في أشكال كثيرة، ولكن المقصود هنا أن الكتابة يجب أن تخرج من العدم إلى الوجود. "عجل" تفيد المغامرة، يجب أن تكتب وأن تغامر لأن الكتابة مهما اكتملت وتوافرات لها الشروط، التي يظن المبدع فهي دائما مهددة بالنسيان ومن تم نحن مطالبون بالكتابة باستمرار، لأن كل نص جديد يضيف إلى ما قبله ويجعل صاحبه يقول ليس هذا هو النص الذي كنت أتطلع لكتابته.
&
- رواية "امرأة" النسيان كانت من أجل الكتابة وليس في سياق التزام مثقف بالتعجيل بالكتابة؟
&
- موضوع "امرأة النسيان" كان يخامرني منذ سنوات.
&
- متى بدأت كتابة الرواية؟
&
- فكرتها، كبذرة أولى، تعود ربما إلى سنة 1987 وهي السنة التي أنهيت فيها "لعبة النسيان"، آنذاك أحسست أن شخصية (ف.ب) ظلت تنتظر إضافات تبلور أكثر، لأن الحيز الذي شغلته لا يتجاوز أربع أو خمس صفحات، فالعودة إليها كانت تخامرني منذ 1987، ثم إن الموضوع الروائي ينضج على نار هادئة، لكن طيف (ف .ب ) بما تحمله من رموز ودلالات ظل موجودا ومندرجا في السياق الاجتماعي والثقافي والسياسي للمجتمع المغربي. لما توافرت الشروط عدت إليها ووجدت أن من حق الكاتب أن يستخرج من إحدى شخصيات روايته الأولى ليعيدها إلى الحياة وليعطيها وجودا آخر ولينقلها من الهامش الذي توجد فيه في "لعبة النسيان" إلى المركز في "امرأة النسيان" كشخصية أساسية رفقة الكاتب المفترض.
&
- وماذا عن فترة كتابتها؟
&
- استغرقت كتابتها سنتين، من 1999 إلى 2001 .
&
- اللحظة البدئية للراوية تقول "صباح من شهر أكتوبر، منذ خمس سنوات. سماء يلفها غمام كثيف يحجب شمسا متكتمة"، هذا الزمن النفسي هل لتهييء القارئ للدخول في عوالم الرواية الحزينة؟
&
- في الحقيقة أحاول أ ن أهتم أحيانا بوصف الطبيعة على ما هي عليه، فمن خبر الرباط، خصوصا سنوات الجفاف، يلاحظ أن شهر أكتوبر يعرف شمسا حارة وأصباحا رمادية. اهتمامي بهذا الوصف نابع من اهتمامي بالوجود الفيزيقي للفضاء، أكيد هناك ما يمايز بين الفضاءات، وعلى الكاتب فينظري، أن تشعر القارئ بهذا التمايز. وصف الطبيع يخدم النص.
&
- نعود إلى شخصية (ف.ب)، كثير من الشخصيات الروائية تمردت على كاتبها الواقعي، هل تمردت عليك هذه الشخصية؟
&
- من حقي عندما يبتدع الكاتب شخصية ما لا بد أن يراعي شخصيتها وحريتها كي تستقيم، كي تصبح مقنعة لها تطلعاتها وإرادتها ويمكنها أن تعارض الكاتب، فضلا على أن العنصر الأساسي في كل عمل روائي هو وجود عناصر وشخصيات متعارضة ومتناقضة مثلما هو شأن الحياة. فشخصية (ف.ب) تأخذ وجودا فيزيقيا وواقعيا، ولكن في نفس الوقت تأخد دلالات ورموزا يمكن على ضوئها أن نقرأ بعض مراحل التطور الاجتماعي والثقافي والسياسي في المغرب، ويمكن أن نتفهم المشاكل والصعوبات التي توجد عليها المرأة المغربية خاصة عندكما تكون مثقفة وثائرة على قيم المجتمع التقليدية.
&
- هل تمردت على برادة الكاتب الواقعي هذه الشخصية؟
&
- لا أعتبر نفسي كاتبا واقيعا بالمعنى التقليدي، لأنني ألجأ أحيانا إلى& الفانتاستيك وإلى تكسير والواقع، ولا أعتقد أن كاتبا معينا يزعم القدرة على استنساخ الواقع، الواقع هو موجود بقدر ما هو يخدم بلورة رؤية معينة للأشياء، ولذلك الواقع لا يوجد إلا من خلال التخييل، وهذا العنصر هو الذي يضيف للشخصيات، فالشخصية الروائية غالبا ما تتكون من عدة أشياء، من أشياء لاحظناها وعايناها، ومن أشياء نتصورها أونستعيرها من شخصيات أخرى لنقترب من نموذج معين.
&
- ما قصدته هو هل كانت فكرة موت (ف.ب) كنت تفكر فيها منذ البداية؟
&
- هذه النهاية جاءت لأنني كنت أتصور هذه الشخصية صوتا آتيا من عالم علوي، فهي شخصية موجودة في المجتمع -العالم، ولكن في نفس الآن بعيدة ومتباعدة عنه، تعيش في عزلة. وهذه المسافة تتيح لها أن تقول أشياء بوضوح وبعمق أكثر، بينما شخصية الكاتب المفترض الذي يحاورها ويحمل هموما معينة، يظل منغرسا في ظرفية الأحداث، ولكن في نفس الآن ينجذب شيئا فشيئا نحو هذا العالم الأخروي.
&
- في هذه الرواية اعتمدت على المفارقة، فالمثقف الذي يعيش الواقع مع مسافة مع هذا الواقع هو (ف.ب) أما الكاتب المفترض فينجذب مع ظرفية الأحداث، بمعنى أن المثقف كان هو (ف.ب)؟
&
- هذه الشخصية تمثل نموذجا لنوع من النساء المغربيات اللائي وجدن ويوجدن في المجتمع المغربي، البعض قال لي أن هذه الشخصية لا تتطابق مع المجتمع المغربي، هم يجهلون أن هناك فئة من الفتيات اللواتي درسن في الستينيات وعشن 1968 والتحرر النسوي، وعند عودتهن من رحلة الدراسة يحسسن&& بالغربة وبعدم الانسجام، فهذا مظهر من مظاهر التطور المتعثر في المغرب، فهي ليست خيالية وما كانت تقوله هذه الشخصية ممكن، ويندرج في سياق تحول معين من النساء المغربيات.
&
- لكنها كانت بعيدة عن هذا الواقع وهي تشبه المثقف المغربي؟
&
- من حقنا أن تكون لنا مثقفات، لكن لا يمكن أن نقول أنها لم تفهم الواقع، فهي فهمته لأنها عاشت تجربة لا تخلو من ألم وصدمات، ولكنها أدركت أنه مأخوذة في شرك، فهذا الذي تعيشه ربما لم يأت وقته بعد، وربما أن هناك شروطا سياسية واجتماعية لا تتيح للمرأة ممارسة حريتها وقدرتها على التعبير مثلما يعشها الرجل نسبيا. في النهاية هي مشكلة مجتمع يتطور، ولكن في نفس الآن يعود إلى الوراء، وهذه الحركة "أمام -وراء" من مشكلاتنا في المجتمع المغربي، فعندما نرصد الثلاثين سنة الماضية نجد أننا كنا على طريق التقدم، ثم نحس أن الأشياء تتراجع. فهذه الشخصية فيها من الواقع بعض الملامح من أفكار وتطلعات...، وهذه هي الرواية، إنها تستوحي ذاكرة فردية وجماعية.
&
- الشخصية الثانية الأساسية في الرواية هي شخصية "الكاتب المفترض" والذي أوكلت له مهمة العملية السردية، فما حدود العلاقة بين الكاتب الواقعي وهذا الكاتب الافتراضي؟
&
- هناك فرق مصدره عنصر التخييل، بمعنى أن الأشياء التي يكتبها أي كاتب لا يمكنها أن تنطبق حرفيا مع ما عاشه، ولكن في نفس الوقت هذا العنصر التخييلي يستوحي ويوظف بعض ما عاشه الكاتب. حتى الذين يقولون أنهم يكتبون رواية "موضوعية"، فهذا غير صحيح، نحس أن الفضاءات التي يعرفونها موجودة في النص ويستمدون منها فضاءات الرواية، بالنسبة لي لا أتوقف عند هذه الأشياء، المهم أن ذات الكاتب، كذات فاعلة تعبر وتتحمل مسؤوليتها، يجب أن تبحث عن شكل يعبر عن هذا النزوع، فالكاتب ليس فردا فقط، بل أيضا ذوات مضادة ومعاكسة، وهذا هو الذي يعطي معنى للتواجد الحياتي، مثلما يعطي معنى لمتعة الرواية في فضاءاتها، فنحن دائما نبتدع هذا الفضاء الذي ينتسب إلى الواقع وإلى أكون مقتصدا، ولو استطعت أن أكتبه في صفحات أقل لفعلت.
&
- لماذا هذا النزوع نحو الاختصار؟
&
- لأن بعض الموضوعات تتطلب ذلك، ثم أنني أريد أن أهرب من الثرثرة، فأحيانا تقرأ رواية في 400 صفحة ولكن تحس أنها قد تكون في 80 صفحة فقط. ثم هناك إحساس أن هذا الموضوع يجب أن يكون مكثفا بحيث يتوقف القارئ عند كل جملة ويمكن أن يبحث لها عن امتدادات وأن يترك لذاكرته أن تشتغل.
&
- هناك شخصيات أخرى وهي شخصية الضاوية التي تتحول إلى ضياء وشخصية بنعريش، فالسارد -الكاتب المفترض- ينبهر بوجود هذه الشخصيات؟
&
- حتى المثقف أو المثقفة الذي تحدثت عنه لا يوجد في فراغ، إنه يعيش، رغم أنه يحمل لقيم معينة، في مجتمع يتبدل ويتغير، فشخصية الضاوية وبنعريش مظهر من مظاهر العنف الذي يمارسه المجتمع على المرأة من خلال الضاوية وعلى الشباب من خلال بنعريش. وهذا إشارة رمزية إلى تعاظم وجود العنف في مجتمعنا كما في المجتمعات الأخرى. لا يمكن أن نخلو إلى مشاعرنا في نوع من التجريد، فهناك وعي عند الكاتب وعند (ف.ب) في كيفية ابتكار سعادتنا وسط هذا المجتمع الذي يعيش في عنف وصدامات مستمرة.
&
- الرواية مبينة على خطابين حكائيين، خطاب الشخصية النسوية التخييلي وخطاب الشخصية الروائية الواقعي، وربما الخطاب الثاني أضعف العمل وهناك من ذهب أن الرواية تصفية حسابات سياسية؟
&
- الرواية لا تتضمن إحالة إلى منظمة سياسية معينة.
&
- غير أن القارئ لن يجد صعوبة في فهم ما تتحدث عنه الرواية؟
&
- هذا من حقه، فالمقصود الإحالة على واقع ممارسة السياسة في المغرب، ومن حق كتابة الذاكرة كما أسميها أو كتابة التخييل الذاتي أن تستعين بعناصر راهنة وعناصر من الماضي، التي قد تكون لها دلالات ظرفية وقد تكون لها دلالات تتعدى سياقاتها وهذا ما قصدته.
&
- لا علاقة للرواية بتصفية الحسابات السياسية؟
&
- لو&كنت أريد تصفية حسابات سياسية لكتبت كتابا سياسيا. وأشير في النص أنه من حق الكاتب أن يستخدم يوظف جميع العناصر السياسية والاجتماعية والجنسية على قدم المساواة، وأن يدخل ذلك في معادلة فنية تقنع القارئ. ثم لا أعرف لماذا هذا الفصل في كتابة موضوع سياسي فقط أو موضوع اجتماعي فقط أو عاطفي. الرواية جزء من ذاكرة تحاول أن تهتم بالسياسة والثقافة والمواضيع الاجتماعية، لتجد نفسها وسط سديم مختلط ومتضارب.
&
- يبدو أن الرسالة الأساسية لروايتك هو العلاقة القائمة بين السياسي والمثقف؟
&
- الاختلاف بين الثقافي والسياسي جزء من جدلية مجتمعية أساسية، ولذلك كل تصور سياسي يقوم على فهم ثقافي معين، وكل تصور ثقافي يجب له كذلك أن يكون له فهم سياسي عميق. فالاختلاف والتعارض وارد، لو استسلم عنصر لآخر لانتفت هذه الجدلية.
&
- كيف هي علاقة السياسي بالمثقف في المغرب الراهن؟
&
- هي علاقة لا تخلو من بعد نقدي، وهذا مطلوب. هناك بعض الكتاب المغاربة يبسطون الأمر، ويقولون أن هناك طغيان السياسي على الثقافي، هذا كلام غير دقيق لأن الأدب المغربي في الستينات، ورغم أن الكثير منا ينتمي إلى أحزاب، لم نجعل كتاباتنا استنساخا لإيديولوجية تابثة، لأن طبيعة النص الأدبي هو تجاوز هذا البعد الضيق، فالكاتب لا يكتب لقارئ حزبي بل يكتب ويراهن على كل القراء في المجتمع. هناك محاولة لاستمالة المثقفية، وهذا من حق السياسة أن تستميل هذه الفئة، وحتى للسياسة الرجعية مثقفوها، ولكن المطلوب من المثقف أن يحافظ على وعيه النقدي، لأن السلطة لا يوقفها إلا سلطة مضادة. هذه السلطة أظن موجود بدرجات متفاوتة، لكن البعض يحاول أن يرفع من درجة الثقافي إلى درجة إعطائه القدرة على الحلول السحرية وهذا غير صحيح، فالمثقف مطالب أيضا بممارسة سياسية لتدعيم ما نعتبره حدا أدنى وما نعتبره واجب الإنجاز، نحن لا نعيش في فراغ، يجب أن لا يتقمص المثقف زي مفتي الديار يصدر ما يجب وما لا يجب فعله.& نحن بحاجة لإحداث تغيير إلى تحليل نقدي وبحاجة إلى بلورة ممارسات على أرض الواقع وإلى تغيير الطروحات الثقافية.
&
- بلورة تغيير هذه الطروحات الثقافية، هل تمت خلال تجربة التناوب التي يعيشها المغرب، خاصة من خلال بعض الدعوات لاستقالية المثقف عن السياسي؟
أولا أنا لا أسمي هذه التجربة ب"التناوب"، إنها تجربة انتقالية نحو صيغة ديموقراطية، إنها انتقال من مرحلة الحكم الفردي والديموقراطية الشكلية إلى الاقتراب من صيغة تترجم واقع الحال في المغرب، في نظري هي نوع من الانتقال بما له وبما عليه.
&
- وكيف يرى المثقف هذا الانتقال؟
&
- المقياس ليس المثقف، لكن ما يستفيده المجتمع ككل . المثقف جزء من طبقة اجتماعية ومن صراع اجتماعي، من حقه أن يقول ما يقول، بالنسبة لي أنتظر ولا أصدر حكما، أعتبر أنها تجربة قد يختلف تقييمنا لها، لكن التقويم السليم بحاجة إلى زمن وإلى ممارسة ستتكشف بعض ملامحها في الانتخابات المقبلة ومن خلال نتائجها. بصفة عام الانتقال كان يفرض نفسه منذ الثمانينات، نحن نعيش دائما في الوقت الضائع.
حاوره أحمد نجيم