دراسة- نبيل شرف الدين: بعد عام على الزلزال وتوابعه، وقبل وقوع زلزال جديد، يمكن للمرء أن ينتهز الفرصة لتأمل ظواهر جديدة أفرزتها قصة "القاعدة"، وأبرزها ظاهرة تعدد الأجيال التي أفرزتها تجربة الجهاد الأفغاني، فمن الجيل الأول للمجاهدين الذي ينتمي إليه أسامة بن لادن والظواهري ورفاعي |
طه ومحمد الإسلامبولي وغيرهم، مروراً بالجيل الثاني الذي يمكن أن نطلق عليه "القوارب الأصولية"، لأنهم الأمواج حملتهم إلى أكثر من ميناء، خلال الفترة الممتدة من خروج السوفيت حتى نهاية حرب الخليج الثانية عام 1992، والذين انتقلوا بين عدة بلدان أو عادوا إلى بلادهم الأصلية ليمارسوا فيها العنف بعد أن تلقوا دورة مجانية مكثفة على قواعده وفنونه.
نأتي بعد ذلك إلى الجيل الثالث ، وأرجو أن أكون موفقاً في تسميته بـ"جيل صدام"، وهذا لا يعني أن لصدام دوراً مباشراً في صناعته كما تزعم دوائر الأمن الأميركية، بل هو (مصطلح جيل صدام) مجرد رمز لمنطق العبث الشرير الذي أطلقه الدكتاتور العراقي في الشرق الأوسط، بل وفي العالم بأسره، ومن أبرز سمات هذا الجيل أنه يتمتع بخبرات أفضل كثيراً من تلك التي كان يتمتع بها الجيلان اللذان سبقاه، فهو يتدرب على الطيران، ويجيد التعامل مع الكمبيوتر والإنترنت، ويتقن عدة لغات أجنبية، ولا ينم مظهره بالضرورة عن انتماء محدد، فضلاً عن أن معظمهم لم يكونوا من المصريين أو السودانيين أو الجزائريين الفقراء كما كان الأمر من قبل، بل هم من الخليج العربي والسعودية.
ولعل الأهم من هذا كله ، إن الحكومات العربية فضلاً عن استرخائها حيال هذه القضية ظناً منها أنها تلاشت، كانت آخر من يعلم بولادة هذا الجيل الخطير ، ولعل انكفائها على الشأن المحلي فقط كان من بين الأسباب التي أدت إلى هذه الحالة من الغيبوبة تجاه "جيل صدام".
وكما أسلفنا فقد ساهمت خبرات هذا الجيل ، مع قدراته المالية الجيدة في تأسيس ما صار يطلق عليه بعد أحداث أيلول أميركا الأسود، بالخلايا النائمة التي يمكن أن تيقظها كلمة واحدة من أسامة أو غيره من قيادات الأممية الأصولية الجديدة ، كما انتشرت تلك الخلايا في أميركا وأوروبا فضلاً عن امتدادات محلية لها في الفيلبين وإندونيسيا وكل البلاد العربية تقريباً ، ولم تعد أحلامها تتوقف عند عملية اغتيال مسئول هنا ، أو تفجير منشأة هناك ، بل تجاوزت ذلك إلى محاولة فرض "شرعية العنف المقدس" التي ابتلعتها بعض الأقلام العربية، تحت مؤثرات تصفية حسابات مزمنة مع الأنظمة الشرق أوسطية ، أو مع الإدارة الأميركية ، فراحت تؤيد هذه الممارسات ليس حباً في عليّ ، بل بغضاً في معاوية ، ليصاب الواقع العربي بحالة من الارتباك حيال هذه الظاهرة ، تماماً كما حدث عندما غزت قوات صدام الكويت واحتلته.
وهكذا تقودنا لعبة أجيال الأصولية إلى محاولة التعرف على أدواتهم ، وفي مقدمتها ملف تسلح وطرق تدريب هذه الحركات الأصولية المسلحة ، ونرصد النقلة النوعية الهائلة التي شهدتها إثر تحول أنشطتها من الصعيد المحلي إلى المسرح الدولي ، وما ارتبط بذلك من تغييرات في الاستراتيجية التي تحكم تلك المنظمات وقادتها ، فضلاً عن الخطاب السياسي الذي بدأ يتطور ليقفز على قضايا الأمم، ويختطف تاريخها ومستقبلها بأسره.
&
خلطة "آرامكو"
منذ السبعينات اعتمدت السياسة الأميركية "خلطة آرامكو" السعودية في أفغانستان ، لتصيب بها عدة عصافير بنفس "الخلطة السحرية" المكونة من النفط .. القبليات والأصولية، التي سبق لها أن حققت أهدافها من قبل في مشروعها الذي "آرامكو" الذي تحول من مجرد "شركة بترول" إلى "رمز سياسي".
وفي نهاية حقبة السبعينات من القرن الماضي، رصدت أقمار أميركا الصناعية وبحوث شركاتها، الغاز والنفط في بحر قزوين، وتزامن هذا مع ظهور أعراض الشيخوخة على الرجل المريض المسمى بالاتحاد السوفيتي، فانتهزت الإدارة الأميركية الفرصة حينئذ وقررت استنساخ "وصفة آرامكو" في أفغانستان، خاصة وأن كل الظروف هناك كانت مهيأة تماماً ، من قبليات متناحرة تاريخياً ، باشتون وأوزبك وطاجيك، إلى طبيعة جغرافية قاسية ، جعلت من هذه المنطقة الأكثر تخلفاً في العالم وسط جيران يتقدم بعضهم بسرعة الصاروخ ، وآخرون يسعون حثيثاً صوب الأفضل .. وأخيراً فهاهو النفط على وشك التفجر .. إذن لم يعد ناقصاً لهذه "الوجبة" سوى الأصولية .. وهذه مسألة بسيطة ، خاصة لو علمنا أن لهؤلاء الأفغان وجيرانهم من الباتان مفاهيم متشددة للدين والتدين، لكن وإمعاناً في دقة المخطط، تم استخدام آليات التشدد الديني والمذهبي والطائفي في عدد من الدول العربية.
وفوراً دارت ماكينة الإعلام العربي الموجهة حكومياً لتشعل نار الجهاد، والذود عن "حياض الإسلام"، وظهرت مئات المؤلفات التي تتحدث عن أرض أفغانستان ، ومجاهديها وكراماتهم ، وكيف أن الملائكة تهبط ليلاً من عليائها لتحارب معهم ، وكيف تمكن "أبو قتيبة" من اصطياد عشر دبابات روسية برصاصتين فقط لا غير ، وكيف أوقع "أبو القعقاع" بألف من الجنود الروس بينهم مائتان من الروسيات الفاتنات اللاتي صرن "إماء" في قصر "أمير المؤمنين"، ومن المعلوم أن استرقاق الأسيرات باعتبارهن "ملك اليمين" له ما يبرره في تفسيرات وأدبيات& الفقهاء المعتمدين لدى هذه الحركات الأصولية أمثال شيخ الإسلام، وشيخ الطائفة، وشيخ "المنسر".
&
الخروج على النص
انهار الاتحاد السوفيتي ، تفكك كأن لم يكن هناك حلف "وارسو" ذات يوم، واندلعت حروب عبثية بين ميليشيات المجاهدين السابقين ، وجرت مياه كثيرة هنا وهناك ، وكاد الزمام يفلت من يد الأميركيين .. فقرروا إدخال بعض التعديلات (غير الجوهرية) على "خلطة آرامكو" التاريخية ، حيث تم استبدال أمراء المجاهدين القدامى، بطلاب الشريعة الجدد الذين ربتهم المخابرات الباكستانية، وقدمت معهم "شهادة ضمان" بأن هؤلاء لن يخرجوا على النص .. وكادت الأمور تستتب ، خاصة بعد أن سارعت ثلاث دول مهمة بالاعتراف الفوري بهؤلاء "الطالبان" الجدد .. لكن حدث ما لم يكن في الحسبان ، واتضح أن "شهادة الضمان" الباكستانية زائفة .. فقد خرج هؤلاء على النص مبكراً ، ومعهم رمز من رموز الصلة بين "خلطة آرامكو" و"خلطة قندهار" وهو "السوبر مجاهد" أسامة بن لادن ، نبي قندهار الجديد الذي يقول عنه بعض بسطاء الأفغان، بأن من يلتقيه يحرم الله جسده على النار ! ، ويتم تداول صوره وسط صور نجمات السينما ، والآيات القرآنية الكريمة في عشرات المدن العربية والإسلامية.
&
لعبة أمم
وهكذا يتضح أن تنامي ظاهرة بن لادن على هذا النحو، لا يمكن تناولها بمعزل عن نشوء حركة طالبان ، ولعبة الأمم الكبرى التي ساهمت في تدشينها ، بدءاً من الدور الأميركي إبان الحرب الباردة ، مروراً بالدور الباكستاني الذي أدمن التدخل في أفغانستان منذ عقود معتبراً إياها حديقته الخلفية ، فضلاً عن الأطراف الإقليمية الأخرى ، كالسعودية مثلاً التي تسعى لتطويق إيران لخلافات تاريخية تتعلق بالأيديولوجية (الشيعة والسنة) ، ومخاوف من "تصدير الثورة" ، التي تبنتها إيران كسياسة شبه معلنة بعد نجاح الثورة في إيران ، التي تقاوم بدورها ذلك الحصار السلفي الذي يسعى لتطويقها جيوسياسياً ، من السعودية غرباً إلى باكستان وأفغانستان شرقاً ، أما روسيا فقد تحولت أفغانستان إلى "عقدة تاريخية" لها ، وباتت تخشى من أن تمتد الأصوليات الآسيوية المسلحة إلى مناطق نفوذها في الجمهوريات المستقلة عن الاتحاد السوفيتي ، وهناك الهند التي تعمل بكل قوة على الحيلولة دون التقاء "مجاهدي كشمير" مع "مجاهدي أفغانستان" برعاية جارتها اللدود باكستان ، وأخيراً فهناك أدوار وأسواق جديدة في الجمهوريات السوفيتية السابقة التي سعت إليها منذ اللحظات الأولى الحركات الأصولية .
إذن نظر الجميع إلى حركة "طالبان" بعين الريبة، والخوف من تصدير هذا النموذج البائس إلى بلادهم خاصة وأنه يتكئ على منطلقات دينية باتت تلقى رواجاً بفضل أسباب كثيرة يتعرض لها الكتاب بالتفصيل ، وكيف التقى زيت الأصولية مع نار الحركات الانفصالية ليشعل المنطقة.
لهذا كان طبيعياً أن تتحول أفغانستان إلى مسرح دولي لأجهزة الاستخبارات الدولية والمنظمات الأصولية ، فضلاً عن كل القوى الإقليمية التي راحت تدعم هذا الفصيل ضد الآخر، في بلد يعاني بالأساس التشرذم ، ويتشكل من عرقيات يبدو أنه لا سبيل إلى التآلف بينها ، لاسيما في ظل تأجج النعرات الطائفية والعرقية في هذا الجحيم الأفغاني ، الذي يبدو أنه كان دائماً ، وربما يظل أبداً ، ضحية الجغرافيا والتاريخ .
&
عبقرية الصحراء
كان هذا عن "طالبان"، وظاهرة "الأفغان العرب" ، ونأتي إلى أسامة بن لادن ، الذي أكتب عنه منذ مطلع التسعينات ، وأتابع أخباره أكثر مما أتابع أنباء أصدقائي، وحققت (ضابطاً وصحافياً) مع الكثيرين ممن عرفوه في أفغانستان أو السودان أو السعودية، وكنت من أوائل من نبهوا إلى تنامي دوره في عدد من المطبوعات المصرية قبل نحو 12 سنة مضت، أصبح بوسعي الآن الزعم بأن ثمة صورة شبه متكاملة قد باتت في مخيلتي لهذا الرجل الظاهرة، ولعل أول ملامح هذه الصورة أنه رجل بسيط للغاية، ما لم يكن متواضع القدرات الشخصية ، رجل عادي ، كان من الممكن أن يصبح رجل أعمال يستثمر في بورصات نيويورك ، بدلاً من أن يفكر في تفجيرها، ويسهر في حاناتها ويقامر في كازينوهاتها ، ويبحث عن مغامرة مع فاتناتها.
كان ابن لادن مرشحاً لهذه الطريق ، لولا عدة اعتبارات وأحداث ، صادفت استعداداً شخصياً داخله .. منها إفراطه في تقدير ذاته ، أو لنقل رغبته العارمة في القيادة، التي تبلورت مع الوقت وصارت تستند إلى أدبيات دينية ، وهو بهذا يستنسخ، بدرجة أو أخرى ، سيرة الذين سبقوه في نفس المنطقة التي أنبتته ، وهي الصحراء التي تكون مجدبة في العادة ، لكنها حينما تنبت .. تنبت أنبياء أو أشراراً لا يمكن مجاراتهم ، لأنهم باختصار يختزلون كل ما حولهم من ظروف وأشخاص وكاريزما ليتحول وجودهم إلى حضور كامل لكل هذه المعطيات تماماً كالنبي محمد (ص)، الذي اختزل كل معطيات زمانه، وظروف مكانه ليصبح رمزاً يغير وجه العالم، ويعيد صياغة تاريخ الإنسانية، ويظل أحد أهم الشخصيات الحية حتى يومنا هذا رغم مرور ألف وأربعمائة عاماً على انتقاله إلى الرفيق الأعلى، والقياس مع الفارق بالطبع، حتى لا يترك بعض المتنطعين الأمر برمته ويمسكون في هذا التشبيه.
والصحراء هي ذاتها التي أنجبت الإمام علي ابن أبي طالب ، الذي هلكت ولم تزل تهلك في محبته وبغضه أقوام وشعوب ودول وأمم ، وفرض حضوره وغيابه مذاهب ودولاً باقية لليوم.
وهي نفس الصحراء التي خرج منها الملك عبد العزيز، ذلك الرجل الأسطوري الذي لم يزل حضوره قادراً على الحيلولة دون الكتابة عنه بعيداً عن مؤثرات لم تزل حاضرة وقوية وقادرة على تغيير الكثير في العالم كله حتى اليوم.
&
قطب وجهيمان
لكن كل هذه النماذج لا تعبر بنفس الدقة عن ظاهرة ابن لادن كما عبرت عنها حالة قدر لها أن تستأصل في مهدها ، وإن لم تمت تماماً ، وهي حالة جهيمان العتيبي ، الذي احتل الحرم الشريف مع نفر من أتباعه في واقعة شهيرة هزت العالم الإسلامي كله بعنف حينئذ ، ودشنت لحركات "السوبر ـ جهاد" ، التي أصبحت لاحقاً بمثابة الأساس الفكري ، والمنطلق العقائدي للأصوليين الجدد الذين يمثلهم بن لادن.
ولم يكن جهيمان هو الرافد الوحيد في صياغة أسطورة ابن لادن، وما يمثله من رمزية في حالة "السوبر مجاهدين"، و"الأممية الأصولية" التي تمثلها شبكة "القاعدة"،فقد سبقه وزاحمه منظر الأصوليات الحديثة سيد قطب، الذي بدأ شيوعياً ثم ما لبث بعد بعثة دراسية لأميركا أن عاد إسلامياً ناقماً على الحضارة الغربية بأسرها، وكما هو معلوم فقد تأثر معظم الحركات والجماعات الاسلامية الاقصائية في العالم العربي، خصوصاً في مصر، بالخطاب القطبي المتشدد، وخصوصاً في مفاهيم "الجاهلية" و"الحاكمية" و"المفاصلة الشعورية" وغير ذلك من المصطلحات التي نحتها ببراعة سيد قطب، خاصة بعد تجربة السجن التي خاضها، ودفع العالم الإسلامي كله ثمنها كما نرى الآن.
وعلى العكس من أسامة بن لادن الذي لم تعرف له آثار علمية أو كتابات ذات أهمية، فقد كتب قطب وجهيمان كتباً لا زالت هي الأكثر تأثيراً في أوساط التيار الأصولي المتشدد، والقياس مع الفارق بالطبع بين تأصيل قطب وبراعته، وتلك السذاجة التي وسمت آثار جهيمان الذي وصل الأمر به إلى حد الهوس عندما تحدث في رسالته الأولى عن ظهور المهدي المنتظر ، واستفاض في وصفه حين كتب في العام 1979 أن النبي محمد (ص) ظهر له في رؤيا ثم خاطبه الله وأمره أن يعلن نفسه مهدياً منظراً ، بعث ليطهر الأرض من الفساد ، وبدوره زعم القحطاني أنه رأى في منامه الرؤيا ذاتها ، وهكذا التقت الرؤى بين الرجلين حتى تزوج القحطاني شقيقة جهيمان.
لكن للإنصاف لم تكن كل أطروحات جهيمان من هذا النوع ، فقد عبر في رسائله الإحدى عشر التي عبر فيها عن موقفه من حكام الدول الإسلامية، كما تعرض لأمور محورية في الفقه الإسلامي كقضية الجهاد وأحكامه، فضلاً عن موقفه من الإمارة والبيعة والطاعة والخروج وغير ذلك من القضايا الخلافية.
ويتساءل جهيمان في رسالته :"هل يمكن إعلان الجهاد على دول الكفر ولنا عندهم سفراء ولهم عندنا سفراء وخبراء ، وكيف ندعو للإسلام والنصارى أساتذتنا هل ممكن أن نخالف أساتذتنا؟
وهل يمكن أن ندعو إلى رفع راية الجهاد وعلم النصرانية يرفرف بجوار علم التوحيد، فدعونا يا قوم من المهزلة ، ولا يجب أن نظل مخدوعين إلى هذا الحد، فلا بد أن يكون لدينا فرقاناً بين الحق والباطل ولا بد من التجرد والابتعاد عن مخالطة هؤلاء القوم بل ومحاربتهم" .
وهو نفسه المنطق الذي استخدمه بعد عشرين عاماً أسامة بن لادن في خطابه الذي قسّم فيه العالم فيه إلى "فسطاطين" ، على حد تعبيره ، فسطاط الإسلام وفسطاط الكفر، ووصف الأمر باعتباره حرباً "صليبية" ضد الإسلام والمسلمين ، وهو بهذه الخطاب يستدعي لغة سيد قطب وجهيمان من التاريخ القريب، ويجد في أدبيات أقدم، كتلك التي خطها الفقيه الشهير ابن تيمية وبعده المودودي وغيرهما ما يؤيدها ويبررها ويدعمها فقهياً.
&
روافد وخبرات
ومن "الإخوان" السلفيين إلى "الإخوان" المصريين، وهم رافد آخر استقت منه حركة أسامة خطابها الفكري وخبرتها الحركية ، فهناك ما يشبه الإجماع بين صفوف الباحثين غير المصنفين إسلاميين، أن جماعة الإخوان المسلمين المصرية في كثير من الوجوه كانت بمثابة العباءة التي خرجت منها كافة الحركات الأصولية المتطرفة في العالم الآن بمسمياتها المختلفة. فضلاً عن إنه من المعلوم إن أسامة تأثر كثيراً بكتابات سيد قطب، كما أوضحنا، بالإضافة لتأثره بأستاذه ومعلمه الأول عبد الله عزام وهو إخواني عتيد.
ولم يكن من قبيل المصادفة أن تنشأ الحركة الإسلامية المعاصرة في حقبة كانت الدول العربية والإسلامية ترزح فيها تحت نير الاستعمار الغربي، ففي مصر التي كانت تخضع للاستعمار البريطاني تصدت لمقاومته ثلاثة توجهات ، هي الحركات الوطنية والشيوعية والإسلامية ، لكن كانت المنطلقات التي اعتمدها الإسلاميون تختلف عن حركات التحرر الأخرى برفض فكرة الدولة العصرية ، وكتب حينئذ حسن البنا مؤسس الإخوان المسلمين قائلاً: "كما إن الإسلام معتقد ودين ، فهو دولة وانتماء" ، وشدد على ضرورة "أن يكون ولاء المسلمين لتراثهم وليس لتراث الدول الاستعمارية التي تحكمهم" ، لكن وعلى الرغم من تحالف الإخوان المسلمين مع جمال عبد الناصر في بداية الثورة ، إلا أنها تعرضت للقمع على يديه لاحقاً ، لكنها ما لبثت أن عاودت الانتشار مجدداً في عهد أنور السادات الذي استعان بهم في صفقة تاريخية شهيرة لضرب خصومه السياسيين من القوميين واليساريين على النحو المعروف .
&
صحوة وأفول
وهكذا نشطت الحركات الإسلامية خلال عقد الثمانينات ، وكونت شبكات كبيرة في عدة دول عربية ، ثم حدث في العام 1989 أن تمكن فصيل إخواني من الوصول إلى السلطة في السودان بانقلاب عسكري قاده الرئيس البشير الذي تحالف مع حسن الترابي ، وهو بالطبع أحد رموز الأممية الأصولية ومنظريها ، وفي تلك الأثناء تحول السودان إلى ملاذ آمن للعديد من الحركات الأصولية، بما فيهم منظمة "القاعدة" ذاتها وقائدها أسامة بن لادن عدة سنوات.
ومن "الإنقاذ" السودانية ، إلى "الإنقاذ" الجزائرية ، ففي مطلع التسعينات كان المشهد السياسي الجزائري يغلي ، حينما أوشك الإخوان المسلمون في& الجزائر ممثلين في "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" أن يفوزوا في الانتخابات العامة التي جرت في البلاد حينئذ ، لكن الجيش الجزائري تدخل في اللحظة الأخيرة ، وألغى الانتخابات وقرر حظر أنشطة جبهة الإنقاذ ، وفي المقابل ينبغي التأكيد على أنه لو قدر للجبهة الإسلامية أن تفوز في تلك الانتخابات ، لكان تأثير ذلك على العالم الإسلامي أمراً بالغ الخطورة ، إذ كان سيصبح ذلك الفوز نموذجاً إضافياً يحرض الأصوليين في كل مكان على تبنيه ، لكن ما جرى أن تجربة الحركة الإسلامية في الجزائر أصبحت خبرة تاريخية قاسية للإسلاميين عموماً ، مفادها أن الأنظمة العسكرية وشبه العسكرية الحاكمة في العالم العربي لن تتردد في اللجوء لأي وسيلة للحيلولة دون وصولهم إلى مقاعد السلطة مهما كان الثمن، كما تأكدوا أن الغرب مشغول بمصالحه فحسب، وقد خذلهم بمساندته لجنرالات الجزائر حينئذ ، أما الأنظمة العربية الحاكمة فقد وجدت فيما حدث مبرراً قوياً لإرجاء، أو حتى استبعاد النموذج الديمقراطي من مخططاتها السياسية المستقبلية خشية أن تقفز الحركات الأصولية على السلطة ، كما أمعنت الأنظمة في محاصرتها حركياً ، ففي الجزائر وتونس ومصر وتركيا والعربية السعودية وغيرها ، تم قمع أنشطة تلك الحركات المسلحة ، وبشر الخبراء الغربيون في نهاية القرن بانحسار"المد الأصولي" كما عبر عن ذلك الباحث الفرنسي اوليفيه روي ، لكن في الوقت الذي كانت فيه حركات الإسلام السياسي تشهد حالة كمون ، كانت هناك حركات مسلحة لا تسمح منطلقاتها بأي مساحة للالتقاء أو الاحتواء.
&
عولمة الجهاد
وهكذا في ظل هذه التطورات، وبعد تجربة فاشلة في السودان ، وإثر ضغوط دولية هائلة على الحكومة السودانية، عاد أسامة بن لادن إلى أفغانستان عام 1996 ، موقناً أن الظرف الأفغاني هو الوحيد الصالح لأن يكون مقرا لمنظمته التي أطلق عليها اسم "القاعدة"، وضمت في صفوفها متطوعين عرب وشيشان وأوزبك وباتان وغيرهم ، وأعلنت أهدافها صراحة بالحرب ضد من أطلقت عليهم الصليبيين واليهود، أو بعبارة أخرى الغرب وإسرائيل، وفي المحصلة النهائية فإن منظمة القاعدة من منظور القراءة التاريخية، هي المنتج غير النهائي والأكثر فجاجة ونقاء للحركة الإسلامية التي نشأت في مصر في العشرينات، وقد استفادت من كل معطيات العصر وأدواته، لذلك فقد تميزت حركة ابن لادن عن بقية الفصائل الأصولية السابقة لها بأمرين هما :
الأول هو تبني فكرة "عولمة الجهاد" والخروج من الأطر المحلية.
الثاني هو استهداف المدنيين الغربيين، حتى أتت أكبر عمليات "القاعدة" في الهجمات التي نفذتها في مدينتي نيويورك وواشنطن في سبتمبر 2001& لتعبر عن طبيعة نوايا هذه الحركة ومقاصدها، وخيالها الحركي وقدراتها التنظيمية.
&
خبرة إيرانية
وأخيراً فلا يمكن تجاهل أثر الثورة الإيرانية فرغم أنها تخص المذهب الشيعي، إلا أنها كانت من أهم العوامل التي أدت إلى انتشار الأصولية الإسلامية ورواجها، إذ ساهمت التجربة في حد ذاتها على رفع سقف أحلام الحركات الأصولية إلى إمكانية استنساخ تجربة مماثلة على& الصعيد السني السلفي، وهو الأكثر انتشاراً والأغنى ، كما كان الفكر الذي طرحه الإمام الخميني في كتاباته العديدة ، وخاصة "الحكومة الإسلامية" الذي نادى فيه بحتمية الثورة السياسية وضرورة المقاومة على المدى الطويل، والعمل على تدمير الحكومات ، وقد تأثر بهذه الأفكار أعضاء التنظيمات الأصولية المصرية وتحديداً "الجهاد" ، الذي تبنى الأمر حتى دون مناقشة مذهبية وفكرية ، ولعل ذلك يرجع بشكل أو آخر إلى دراما "الثورة الإيرانية" التي أثرت في نفوسهم كثيراً وبشكل عميق ، وتتبلور هذه الأفكار حول ثلاثة محاور أساسية هي :
* إسقاط الحكومات القائمة.
* إقامة الحكومة الإسلامية .
* عدم التعاون مع كافة مؤسسات الطاغوت .
(ويقصد بها هنا مؤسسات الحكم القائمة في البلاد العربية والإسلامية الآن) ..
* إقامة الحكومة الإسلامية .
* عدم التعاون مع كافة مؤسسات الطاغوت .
(ويقصد بها هنا مؤسسات الحكم القائمة في البلاد العربية والإسلامية الآن) ..
لذلك كله ـ ولغير ذلك ـ من الأسباب لم يكن مستغرباً أبداً أن يظهر الآن تحديداً .. هذا النموذج الدموي الهادئ .. البسيط الصارم .. صاحب الكاريزما الطاغية .. والحضور الأليف .. والبندقية اليقظة .. والأحلام المستحيلة .. أسامة بن لادن ، والذين معه.
&
يتبع
التعليقات