القذافي وحسين
كتب نصـر المجالي: غداة نشرها لتقرير اخباري وآخر تحليلي وهما موقعان باسم اثنين من صحافييها المرموقين حول مسألة دفع النظام العراقي مبالغ مالية باهظة الى ليبيا لتوفير ملاذ آمن لرجال الحكم وعائلة الرئيس العراقي صدام حسين في حال انهيار النظام بعد حرب محتملة، فإن صحيفة (التايمز) البريطانية تخضع مرة اخرى للتحليل والمناقشة في حالها المهني ومعلوماتها ومصادر الخبرية.
وصباح الأحد اذاعت هيئة الاذاعة البريطانية (بي بي سي) على قناتها الاولى محاورة شارك فيها مهتمون ومتخصصون في مسالة الدعاية (البروبغاندا) وتأثيرها في الرأي العام.
والحوار تناول دور الصحف القومية وهي الصحف الكبيرة كالتايمز والغارديان والفاينانشال تايمز والديلي تلغراف والانديبندانت ومثيلاتها من الصحف الشعبية مثل الديلي ميرور والصن والديلي ميل وتنافسها في قضايا الفضائح التي تعصف في الحال البريطاني ابتداء من عرش آل وندسور وصولا الى اضرابات موظفي الانقاذ والاطفائية.
ولاحظ محللون صحافيون في كلام مع "إيلاف" ان صحيفة (التايمز) وهي الأعرق مهنيا في بريطانيا دخلت على خط المنافسة مع (ديلي تلغراف) وكلاهما يمينيتا التوجه الى قبل خمس عشرة عاما خلت قبل تحكم الملياردير الاسترالي روبرت ميردوخ بمصير (التايمز) ورصيفاتها الأخريات بسياساتها المهنية.
فـ(التايمز) تخشى التراجع امام غريمتها (ديلي تلغراف) اليمينة التوجه والابعاد، ولذلك كما قال مراقبون فانها بدأت بما يمكن تسميته منافسة (الفبركة الخبرية).
شعار صحيفة الـ(تايمز) البريطانية
واذ تعودت (ديلي تلغراف) نشر تقارير غالبا ما يثبت عدم صدقيتها في آخر النهار، على الرغم من انها مصدرا لتسريب المعلومات من جهات قرار بريطانية مهمة، فان (التايمز) بدأت منافستها من دون مصادر معلومات مهمة.
وكانت (التايمز) الى وقت قريب تمثل الحياد ودقة المعلومات من مصادرها الأصل، وظلت على الدوام تحظى بالثقة المهنية والمعلوماتية، لكن على ما يبدو ان هذا كله تحول الى خانة الحرب التنافسية في سبيل جلب اكبر قطاع ممكن من القراء ولو "كانت المعلومات من المصادر الغلط".
وقال محلل اعلامي "السيد روبرت ميردوخ مالك التايمز ابتعد عن اضواء الحال السياسي في بريطانيا منذ سنوات، ولم تعد له تلك الهالة المرسومة على انه صاحب قرار صحافي مثير على الرغم من تأييده المستمر للحكومة العمالية برئاسة توني بلير".
والتقريران اللذان نشرتهما (التايمز) امس السبت حول مسالة لجوء صدام واركانه واسرته وكانا بقلمي محررها للشؤون الدفاعية مايكل ايفانز ومحررها الدبلوماسي ريتشارد بيتسون ، اثارا ردات فعل تشكك في مدى صدقية صحيفة (التايمز) التقليدية التي توزع ربع مليون نسخة يوميا.
القذافي وصدام حسين عام 1974
وقال محللون اعلاميون ان التقريرين اللذين اوردتهما الصحيفة غابت عنهما صفة تقصي البحث في المعلومات وخصوصا لجهة لجوء رئيس عربي مثل صدام حسين الى بلد مثل ليبيا.
وهؤلاء اشاروا الى مجموعة من النقاط المركزية التي غيبها التقريران اللذان بديا وكأنهما "مفبركان" لحال التنافس المهني مع آخرين وليس اعطاء المعلومات الصحيحة كما عودت (التايمز) قراءها على ذلك.
ولعل اول انتقاد وجه الى التقرير هو انه يتحدث عن صفقة سرية بـ 5ر3 مليار دولار تدفع الى بنوك ليبية من اجل سماح ليبيا لعدد من افراد عائلة الرئيس صدام واركان حكمه باللجوء السياسي.
وقال المحللون "وهنا اول غلط وقعت فيه التايمز، والسؤال هو "اية صفقات سرية تعقد مع بنوك ليبية، في الوقت الذي تجري فيه الرقابة على قدم وساق عالميا على تحويلات الاموال وغسيلها في اطار الحرب الراهنة ضد الارهاب؟ والبنوك الليبية ليست بعيدة عن تلك الرقابة الدولية، سيما وان ليبيا لا تزال تعتبر في عرف غربي انها داعمة للارهاب؟".
وتشير (التايمز) في تقريريها الى ان محادثات جرت في الشهور الأخيرة على مستويات عليا بين طرابلس وبغداد ودمشق من اجل توفير طريق آمن عبر بادية الشام لعائلة الرئيس صدام واركان حكمه وصولا الى ليبيا.
وقال المحللون "الرئيس صدام ليس غريبا عن بادية الشام وقبائلها واهلها، فبإمكانه اللجوء الى تلك المنطقة التي تشكل مثلثا بدويا حصينا له من دون الذهاب الى أي بلد او منطقة في العالم، فقبائل تلك المنطقة الشاسعة الواسعة الممتدة من منطقة الجزيرة في شمال سورية كرأس مثلث الى قاعدته في وادي السرحان في شمال السعودية يمكن
ان تشكل الملاذ الآمن، وساعتها يحس الرئيس صدام انه بين اهله وربعه الذين طالما انتخى بهم".
وهذا المثلث البدوي شكل ملاذا لصدام حسين حين فر في العام 1959 من بطش الرئيس العراقي الأسبق عبد الكريم قاسم الذي اطاح الحكم الملكي في انقلاب دموي العام 1958 ثم عرج لإنهاء لإنهاء دور القوميين العراقيين وعلى رأسهم حزب البعث وكان صدام في مقدمة المطلوبين".
ومن المثلث اياه استطاع صدام حسين بمساعدة من القبائل ان يصل الى دمشق ثم أخذ طريقه الى لجوء في مصر.
ويقول المحللون "والذي غاب عن كاتبي تقريري صحيفة التايمز البريطانية هو ان حزب البعث الحاكم في العراق ليس لديه الثقة الكاملة في ان حكم الزعيم الليبي معمر القذافي ليكون ملاذا آمنا لهم "فالعقيد القذافي له موقف حاسم من الاحزاب السياسية العربية كانت او خلافها وهو حرب عليها منذ توليه السلطة في العام 1969 وخصوصا حزب البعث المعادي لحركة القوميين العرب وللتيار الناصري سواء بسواء"، وكان الرئيس الليبي يمثل التيارين معا.
والأهم من هذا ، يقول المحللون، امام "إيلاف" ان تقرير الصحيفة البريطانية تناول مسالة ان الرئيس صدام عازم على توفير حماية لأركانه من امثال طارق عزيز نائب رئيس الوزراء وعزت الدوري نائبه ووزير الخارجية ناجي صبري الحديثي وبعض افراد عائلته.
وتساءلوا "معروف عن الرئيس العراقي ان الاشخاص باسمائهم وصفاتهم ومواقعهم لا تهمه بقدر ما يهمه بقاء السلطة في جملتها بيده وبيد حزب البعث، فالمسالة هنا تتجاوز الاشخاص او حتى الامور العائلية الضيقة ولن يغامر صدام بأمر من هذا القبيل، ولا تهمه سلامة هؤلاء بقدر ما يهمه سلامة حكمه مع الانصار الكثيرين من ابناء حزب البعث وخصوصا جيل الشباب".
والملاحظ ايضا ان صحيفة (التايمز) نفسها نشرت تقريرا قبل اربعة اسابيع قالت فيه ان مبعوثا هو الفريق علي حسن المجيد زار ليبيا وسورية في الأوان الأخير من اجل الحصول على تقنيات متقدمة في مجال تطوير منظومة الصواريخ العراقية، اضافة الى الطلب من ليبيا الاسهام معها في وضع خبراتها الاستخبارية في الخارج بتصرف العراق من اجل مطاردة المعارضين العراقيين في الخارج.
لكن الصحيفة عادت في تقريري يوم السبت الى القول ان زيارتي علي حسن المجدي الى كل من دمشق وطرابلس كانت بغرض التحادث حول صفقة لتوفير الطريق والمكان الآمنين لعائلة الرئيس واركانه اذا ما شنت حرب منتظرة لإسقاط نظامه.
وفي تقريرها قالت (التايمز) ان ليبيا من خلال الصفقة لن تمنح اللجوء السياسي للرئيس صدام او نجله عدي كونهما متورطين في جرائم حرب ويمكن ان يخشى العقيد القذافي تعرضه لضغوطات غربية بضرورة تسليمهما لتقديمهما الى محكمة دولية معنية بجرائم الحرب قد يصار الى انشائها قريبا.
وهنا تتجاهل الصحيفة دور قصي وهو النجل الثاني القوي في الحكم العراقي راهنا قائلة "انه قد يمنح حق اللجوء الى ليبيا مع افراد الاسرة واركان الحكم الآخرين".
وفي احد تقاريرها تشير (التايمز) الى ان ليبيا هي المكان المفضل للجوء العراقي المنتظر على اعتبار ان دول المغرب الاخرى ذات علاقة حميمة مع الغرب وهي لن تسمح لأركان الحكم العراقي باللجوء اليها.
ولكنها في التقرير الثاني تنسى موضوع الدول المغاربية وتتحدث عن الاردن وسورية كصديقتين الى الغرب وانهما لن تسمحا بلجوء صدام او اركان حكمه الى اراضيهما؟.
ويعتقد محللون انه اذا كان لابد في النهاية من سقوط الحكم العراقي واللجوء الى اماكن آمنة "فإن الرئيس صدام لن يختار سوى البادية العربية وهي بلاد الشام ملاذا وحصنا له، اما بالنسبة لعائلته واركان حكمه فليس غير القاهرة".
والمحللون يشيرون الى ان الرئيس صدام نفسه لجا الى القاهرة في الخمسينيات حتى مطلع الستينيات الفائتة حيث عاد بعد ان تولى حزب البعث السلطة في البلاد، وكانت القاهرة مكانا وملاذا آمنا له.
واذ ذاك، فان المصادر الليبية وعلى راسها سيف الاسلام القذافي نجل الزعيم الليبي وحسونة الشاوش المتحدث الرسمي باسم وزارة الاعلام والثقافة استهجنا تقرير صحيفة (التايمز) البريطانية، كما استنكرا "الفبركة المعلوماتية التي وردت في التقريرين".
وقال سيف الاسلام القذافي في تصريحات نقلتها عنه صحيفة (الشرق الاوسط) اللندنية "العلاقات مع اسرة الرئيس صدام حسين علاقات عائلية، وهي لاتحتاج الى صفقات سرية
مالية" واضاف "كلام صحيفة التايمز هراء وخرافة صحافية وهو مختلق بالكامل فنحن اسرتين صديقتين تربطنا اواصر الأخوة العربية ولا صفقات سرية بيننا".
يذكر ان الآنسة عائشة القذافي كريمة الزعيم الليبي زارت قبل اشهر بغداد والتقت الرئيس العراقي الذي وصفته بـ"العم صدام" وهي عادت الى ليبيا حاملة شعار الدعم المستمر لـ"النضال العراقي بقيادة العم المناضل صدام حسين ضد الامبريالية الاميركية والغربية ومخططاتها ضد المنطقة العربية والاسلامية".