الدكتور توفيق آلتونجي
&
كان استاذ اللغة يشرح تاريخ المدينة للطلاب المهاجرين الملتفين حوله وفجأة بدأ الحزن يطغي على تقاطيع وجهه فتبدلت سحنته البيضاء الى لون غمامة رمادية. كان يتحدث بألم شديد عن ما قام به أبناء جلدته قبل مئات السنين من هدم لقلعة المدينة وحصنها لصد هجوم الغزاة الدنماركيين في حين وضع يده فوق مدفع قديم& وهو يقول بفخر.
- لله الشكر , أنقذوا هذا المدفع.
مدفع صغير قارئي الكريم لا& يربو طوله المتر موضوع على منصة مرمرية في وسط جنينة من الزهور كذاك المدفع الذي& يزين أحد ميادين بغداد القريبة من وزارة الدفاع وسط المدينة والمسماه " طوب ابو خزامة" من آثار ذلك الحداد العراقي الكردي البارع " مامه يارة" وقد تجد العديد من أثاره في استنبول وأنت تتجول في متاحفها وقد وقع هذا الصنائعي البارع باسمه على أحد زوايا المدفع.
أقول هذا وأنا أتذكر العديد من أثار الاجداد وقد حولت الى أرض مستوية وقد يكون الكثيرون ممن باعوا& طابوق خرائب مدينة "بابل" الاثرية للانكليز ابان إنشائهم لـ"سدة الهندية", أقول قد يكونون غير ملومين بحكم عدم بلوغهم في درجة وعيهم الثقافى لقيمة الموروث الى ما وصل اليه الناس في عصر المعلوماتية.
يتردد في ذاكرتي صدى حديث مدرسي لمادة "التأريخ" قبل أكثر من أربع وثلاثين عاما,& وهو يروي& لنا حادثة التقى فيها باحد السياح الاجانب الذين قدموا من الغرب لمشاهدة "الجنائن المعلقة" عند خرائب مدينة بابل وهو يخبئ بحذر"طوبة" من الاجر بين ملابسه كي يأخذه معه وربما ليفتخر بتملكه اياها لاحقا لدى أصحابه وليقول لهم:
- أنا أملك طابوقة من بابل القديمة.
هنا في العالم الغربي قارئ الكريم نجد الاحياء القديمة تفوح منها عبق الماضي وتتردد من بين ازقتها وجدرانها صدى اصوات دقات افئدة أناس عاشوا في ظهرانيها وأضافوا اليها من روحهم الشيء الكثير، رافعين بذلك أعداد ما تركوه من ميراث ثقافي من بيوت ومتاجر ما سيفتخر به لاحقا أحفادهم مدى الدهر ..
ليس غريبا ان تتجول في العاصمة البريطانية مثلا في حي سكني كان قديما أسطبلا للجياد والعربات فتحولت بقدرة معماري فذ الى حي من أرقى احياء لندن يسكنها المتنفذون والميسرون من الناس.
&تكاد تلتقي بتلك اللوحة المعمارية البديعة من بيوت وبنايات قديمة "المحلة القديمة" وأنت تجوب أحياء فينا, ميلانو , باريس , مدريد , سانت بطرسبرك وأمستدردام ومئات الحواظر الاخرى كمدينة بلغراد التي حول أبنائها القلعة العثمانية القديمة الى منتجع سياحي& يزوره الناس حيث يفتخر اليوغسلاف لحد اليوم بالطريقة السلمية التي ترك فيها القوات العثمانية لمدينتهم في حين كان قبل زمن ليس بالقصيرمواطني مدينة "كراتز" النمساوية يجمعون الجواهر والذهب كي يفدوا به قلعة مدينتهم وحيث لم يستطيعوا من فداء كل القلعة فعادوا فرحين بنجاة ساعتها الشهيرة والتي لا تزال تدق كل يوم لتذكر أبناء المدينة بعظمة الاجداد في حين كان الغازي ليس ألا الجار "نابليون بونابارت" وجنوده. اليوم ومع شديد الاسف بدلا من حماية الموروث يقام الى تزييف رموزها أو امحائها كليا نتيجة لغياب الوعي الثقافي ...
تمنيت من أحد العائدين الى الوطن ان يجلب لي لوحة لـ" قلعة كركوك" قبل أن تمحى جدرانها وتدمر بيوتها من الوجود, للتتحول الى قلعة عصرية ليس فيها من عبق الماضي الا تلك التلة المباركة التي انشأت عليها القلعة بسواعد البنائين من ابناء العراق القديم من اشوريين وسومريين وبابلين وكوتيين وسلاجقة وعثمانيين وأرمن وكلدان وسريان ويهود فهناك بيوت وكنائس أديرة ومساجد ومعابد.
&ليس فقط لما لتلك القلعة ومحلتها العريقة من أهمية تاريخية لابناء مدينة كركوك ولعائلتي بالذات حيث سكنوا هناك لقرون عديدة مضت لا بل ليقف المرء امام اللوحة ويتذكر كل تلك الارواح الطيبة التي حمتها جدران تلك القلعة.
لذا طلبت من صاحبي راجيا أن يتصل بالرسام " رؤوف" الذي أحتفظ له بالعديد من اللوحات عن البيئة العراقية كي يقوم مشكورا باعادة بناء تلك القلعة ولو على قطعة قماش لاحتفظ بلوحة زيتية تذكرني بذلك الماضي السحيق بعد أن طال الانتظار في رؤية الوطن اكثر من ثلاث عقود ... وعمري ليس لي امنية الا& بالتجوال بين قبور الاعزاء التاركين لهذه الدنيا الفانية والتنعم بترديد آيات من الذكر الحكيم بجنب شواخصهم.
تلبية لرغبتي تلك جلب لي هذه اللوحة التي تتمكنون من مشاركتي في مشاهدتها وربما اقول لربما يوقظ فيكم كذلك ذكريات وشجون...تلك القشعريرة المباركة التي ترفرف على شغاف قلوب العراقيين.
سلاما الى أرواح البنائين الذين علو جدران قلاع الدنيا كي تكون مأمنا لارواح البشر حين تشتد بهم الايام ويجور الظالم....سلاما.
&