أنور الغساني
&
في البداية، في الشعر الجاهلي، الشاعر صوت القبيلة. لكنه تدهور فيما بعد وانحط ليكون مدّاحا أو عاشق للشكل؛ ثم في العصر الحديث غدا خادما للآلة السياسية أو لايديولوجية ما. قلة من الشعراء أفلتت من هذه الأدوار.
ولكن يبدو أن الشاعر الآن، وبالأخص الشاعر العراقي، بدأ يكتشف دورا جديدا لنفسه: استرجاع استقلاليته، ثم اتخاذ قراره المستقل بأن يكون صوت ناسه وصوت العالم، الذي يريد أن يؤطد إنسانيته، أي حنوه على نفسه وعلى الآخرين وعلى الطبيعة، أي أن يكون صوت هذا المخلوق القادر على التفكير والشعور الذي يستطيع، إن شاء، أن يمتلك ضميرا يؤشر الى الخير. لا نعني الصوت الإحتفالي أو الدعائي أو الترويجيّ، بل الصوت الذي لا تستطيع أية قوة إسكاته لأنه حرٌ وهادئ وأكيد يستند الى اخلاقية تعريف الشعر بأنه خلق الجميل - أي الطيّب والخيّر اخلاقيا، الذي يساعدنا بدون قصد على ان نفهم. الشاعر في كل هذا لا يعفي الآخر من مسؤولية إتخاذ قراره بحرية. هو المُذكرُ ليس إلا، وهو الذي يهدي.
&
*
&
في الأزمنة الراهنة التي دفعوا بالعراق إليها، السياسة نفعية ولا إمكان لمعرفة الحقيقة من خلالها. فقط الشعر قادر على مساعدتنا على فهم هذه الأزمة المعقدة لأن الشعر يُوَبِّدُ الأشياء الجميلة، والجمال هو الخيّر ونصيره، أي هو الأخلاقي والايجابي وإلا فإنه لن يكون جمالا. ما سببه وسيسببه أشرار الماضي والحاضر والمقبل، من عراقيين منحرفين وغير عراقيين، من خراب في العراق لا تكفي السياسة لإدانته. فقط الشعر قادرٌ على وضع لوائح إدانة أبدية لهم، تجعل الناس يتذكرونهم ويلعنونهم عندما تكون السياسة قد صمتت أو تغيّرت وابتعد العذاب عن ذاكرة العراقيين؛ فقط الشعر سيقيمُ نُصبا تذكارية للأشرار، نُصبا تدعوا الى رجمهم على مدى الزمن. هذا ما فعله أسلافنا في سومر وبابل وآشور، والعرب من بعدهم، وهذا ما سنفعله نحن، لأن التذكير ضمان للاستمرار. فقط الشعر قادرا على أن يحيط بكل دقائق الأزمة الراهنة ويمنحنا القدرة للسيطرة عليها. إنه يحررنا إذ يجعلنا سادة الأزمة لا عبيدها؛ لأن الشعر سيُعلمنا بالحقيقة صادقا إذ يقدم لنا العراق كما هو، العراق الأساسي، الذي يعرفه العراقيون غريزيا لأنه حبهم وحياتهم.
هكذا يتحول الشاعر العراقي الى قوة روحية لناسه ولثقافته. هذا، اتصال الشاعر بالضمير الفردي والجماعي هو أمضى الأسلحة. هذا الموقف الحضاري للشاعر العراقي سيحيّد ويمسح الهمجية والوحشية مهما كانت قوتهما.
&
*
&
هذه العلاقة وهذا التأثير لا يتكونان خارج المكان والزمان. ولهذا فإن الشاعر العراقي لا يمكن أن يقوم بكل هذا بدون حبه (أي احترامه) لنفسه، هذا الذي يؤدي الى حب الآخرين والعالم. لن يقوم بكل هذا بدون معرفة عميقة ومتخصصة بأدواته وبلغته وثقافته (الوطنية الأضيق، والعالمية الأوسع)، وبدون ارتفاعه ثقافيا وإنسانيا وتقنيا إلى مستوى زمنه.
&
*
&
هل الشاعر قائدٌ؟ نعم. هو القائد الذي يرفض أن يكون قائدا خشية أن يرتكب إثم الاستعلاء. هو القائد الحقيقي والأفضل والأبقى، القائد الروحي والثقافي والجمالي.
ولكن ماذا عن القادة والزعماء والسياسيين؟ إنهم قادة الأوهام الزائلة، وهم في أفضل الأحوال، وإذا توفر لهم المنطق السليم والإخلاص، تقنيون لتنظيم شأن ثمين: حياتنا اليومية. تأريحيا، هذه مهمة جديدة للشعر العراقي وللشعر عامة، الشعر الذي كاد أن يُنسى وكادت السياسة أن تعلن وفاته واختفاءه.
&
*
&
الشعر اليوم هو المجابه الأول للشر، في هذا الزمن الذي يكاد يعم الاعتقاد فيه بأن الشر قد استيقظ والخير أصبح في سبات. هذه هي بُشرى الشعر العراقي للعراق وللعالم. هي التعبير عن حيوية العراق وقوة ناسه المستمدة من ثراء تأريخه وثقافته.
&
*
&
ولهذا إذا كنت تراني صامتا في السياسة فأنا ناطق في الصمت، ناطق بالشعر الذي هو مربي العراق الرقيق ودرعه.