داود البصري
&
ملفات التعامل السياسي لحكم البعث العراقي مع الجماعات والأحزاب والتوجهات السياسية الأخرى في العراق لاتحمل سوى كل معاني وصور العدوانية والإقصاء والاستئصال "إن استطاعوا إلى ذلك سبيلا"! وعداء البعث وهو الحزب القومي العلماني ضد الحركات القومية الأخرى في العراق لا يعادله شيء سوى العداء أيضا لجماعات اليسار والشيوعيين الذين كانت لهم معه صولات وجولات وصفحات دموية قاسية سودت وجه التاريخ السياسي العراقي الحديث، وعمدت بالدم كل سطوره وبياناته، وامتدت "بركة" الحزب القائد لتطال الإسلاميين الذين تعرضوا بمختلف أصنافهم ومسمياتهم من السنة والشيعة لحملات تصفية رهيبة وعبر مختلف الأطوار والتحولات التي شهدها نظام البعث العراقي منذ البواكير الأولى عبر مسالخ قصر النهاية ووصولا لعصر المقاصل الجماعية والاعدامات بالجملة وحملات "تنظيف السجون" والتي هي من "الإنجازات" الخالدة للحكم البعثي الحالي! مع مارافق تلكم الحملات من صور لانتهاكات رهيبة في سجون ومعتقلات سرية يعجز الوصف المجرد عن ذكرها وتناولها بشيء من التفصيل لاحتياج ذلك العمل التوثيقي لجهود بحث جبارة! كما كانت عمليات قطع رؤوس النساء تحت تبريرات تهمة "الدعارة" وتشويه الأعضاء وقطع اللسان والآذان للهاربين من الخدمة العسكرية ليست مجرد ادعاءات غير موثقة لجماعات المعارضة، بل أن هنالك قوانين ومراسيم حكومية تثبت هذه الأحكام وهنالك أسماء معروفة وضحايا حقيقيين مورست عليهم وعلى أبدانهم تلك الممارسات البربرية التي تذكرنا بأساليب المغول والتتار وفي القرن الحادي والعشرين! ومهما كانت التبريرات التي تبرر إصدار وتنفيذ مثل هذه الأحكام اللا إنسانية فإنها تظل وصمة عار في جبين وتاريخ من أصدرها ونفذها وتظل تبعاتها عرضة للمساءلات القانونية وهي غير خاضعة بأي شكل من الأشكال للسقوط بالتقادم لأنها جرائم بربرية موجهة ضد الجنس البشري فضلا عن تنافيها تنافيا تاما مع مبادئ الإسلام الحنيف التي كرمت الإنسان باعتباره خليفة الله تعالى في أرضه فضلا عن تعارض تلكم الأحكام مع الجهود الدولية الحالية لمتابعة من ارتكب الجرائم ضد الجنس البشري أيا كانت جنسيته ونوعه.
ولكن العجيب في ملفات السياسة العربية أن تحالفاتها المصلحية والآنية تتفوق على المبادئ والقيم التي ينبغي أن تكون العامل الأول في التحالفات السياسية، فالسياسة بدون أخلاق هي شيء فظيع،كما أن القفز على معاناة الشعوب والمتاجرة بآمالها وأحلامها هي جرائم معنوية كبرى؟
أقول هذا القول وأنا أتابع موجات التضامن القومية أو من الأحزاب التي يفترض أنها قومية مع النظام العراقي ودفاعهم العنيد عنه وعن "إنجازاته" المفترضة وتشويههم بموجب ذلك لكفاح المعارضة العراقية وصراعها ضد النظام الشمولي المرعب من أجل إقرار الديمقراطية ورفع الأذى والحيف والممارسات الإجرامية عن صدور العراقيين وهي مهمة إنسانية وطنية وقومية مقدسة تتضاءل أمامها حتى قضايا الأمة المركزية! فالتحرر من التبعية ومقاومة الصهيونية والحفاظ على النوع "العربي" لا يكون عبر "الفزعات العشائرية الجاهلية" بل عبر المواقف المسؤولة في حفظ كرامات الناس وخلق الإنسان الحر القوي المعتز بكرامته وانتمائه الحضاري.
وقد دأبت القوى الناصرية العربية خصوصا على التعريض بمواقف المعارضة العراقية متجنية في اتهاماتها ومكرسة دعايات النظام العراقي، وقد فات هذه الجماعات أن تذكر المصير الأسود والمعاناة الرهيبة التي لاقاها أصحاب التوجه الناصري من الحكم العراقي الحالي بدءا من التجنيات والاتهامات الإعلامية وليس انتهاء بحملات التصفية الجسدية! فعلى صعيد النمط الأول وهو التشهير الأدبي والسياسي فالجميع يعلم بأن السيد طارق عزيز باعتباره كان مسؤولا عن العلاقات القومية في حزب البعث كان يتهكم على الدوام على سياسات الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وكان يعتبر المرحلة الناصرية من المراحل الفاشلة في تاريخ السياسة العربية! لدرجة أن التجني امتد حتى لساحة الطرب والغناء ليتهم طارق عزيز المطرب الراحل عبد الحليم حافط بإنه "مطرب خايس"!! أي عفن!! وهذه المعلومات أكدها الكاتب المصري الساخر محمود السعدني في أكثر من مقال والسعدني من الخبراء في أساليب السلطة العراقية لخبرته الطويلة ومعايشته الميدانية لسياساتهم!، المهم إنني وعبر شهادة شخصية بسيطة أطرح اليوم نموذجا مصغرا للتعامل البعثي العراقي مع الناصريين مبينا الكيفية الإذلالية التي يتعامل بها النظام مع من يتصور مجرد تصور إنهم خصومه وللقارئ الحكم على التطورات فيما بعد؟
في أوائل السبعينيات كان في سوق البصرة القديمة والمنطقة المجاورة "لمجزرة البصرة" ومحلات بيع اللحوم محل لتصليح الساعات يملكه موظف عراقي بسيط ومحترم يدعى السيد جواد الموسوي ولا أدري أين هو الآن كان هذا الشخص صديقا لوالدي رحمه الله وكنت وأنا صغير السن أستمع لحواراتهم وتعليقاتهم السياسية، وكان الموسوي ويكنى أيضا بأبي صباح "ناصريا" حتى العظم! أي من المؤيدين والمعجبين بالرئيس الراحل جمال عبد الناصر ولدرجة أنه كان يعلق في محله صورة زيتية ملونة لعبد الناصر وهو بزي "البكباشي"! ولم يكن أبو صباح منضم حزبيا للأحزاب القومية بل كان إعجابه شخصيا وإنسانيا فقط، المهم أن أبي صباح كان يشكو لوالدي يوميا ويفتح قميصه ليظهر ظهره وهو مصاب بالجروح والكدمات نتيجة لسع السياط التي يأكلها أسبوعيا من ضابط أمن المنطقة ويدعى "المعاون جاسم" لأنه يرفض إنزال صورة جمال عبد الناصر ومقترحين عليه تعليق صورة المرحوم الموسيقار فريد الأطرش بدلها؟& ربما تبدو الصورة كوميدية ولكنها حقيقية على كل حال؟ والطريف أنهم وبعد أن ملوا منه إتبعوا معه أسلوب تحقيقي غريب وظريف فكانوا يستدعونه أسبوعيا للتحقيق الأمني سائلين إياه وباهتمام كارثي عن السبب في أن "خشمه" أي أنفه يشابه تماما أنف عبد الناصر الطويل والمميز وكان يتعرض للضرب والإهانة بسبب ذلك الأنف "الخشم" الكارثة! لدرجة أن خشم أبو صباح قد أضحى ماركة مسجلة ومعروفة في البصرة القديمة ودليل على لانتماء الناصري! يفعلون ذلك مع أصحاب "الأنوف" الناصرية والتي خلقها الله! فما بالكم بالأفكار والتوجهات؟
إنه مثال إنساني بسيط أهديه للمدافعين عن النظام العراقي من الجماعات القومية لتصرفات نظام قد قطع شوط اللا عودة في التخريب والخراب، وباتت مهمة تغييره ليست حتمية فقط بل مقدسة! إن لم يكن لشيء فإنما من أجل "خشم" أبو صباح الموسوي؟