&نبيل شـرف الدين
أبى عمرو خالد ألا يغادر مصر إلا رابحاً، ولكن وفق نفس قواعد اللعبة التي جعلت منه "نجم الموسم"، رغم أنه ـ حتى بنظر القطاع الأعرض من الإسلاميين ـ ليس أكثر من "داعية دايت" أي منزوع الدسم والقيمة، وفي نفس المناخ الذي أصبح فيه ممثل فج "بطلاً قومياً"، رغم ان غاية ما قدمه مؤخراً هو مسلسل تلفزيوني متواضع المستوى، مفكك وخطابي مترع بالنرجسية والأقنعة، وفي الحالتين ـ حالة "الداعية الدايت"، و"الممثل المناضل" ـ كان القاسم المشترك بينهما هو الرهان "مضمون الربح" على ذائقة التطرف لدى الغوغائية، وتكريس خطاب الجعجعة الانتحاري الذي اخترعه وبرع فيه الأعراب، وصدروه إلى كل مكان وطأته أقدامهم، فهو أحياناً يتمترس بالسماء، فيمنح صكوك غفران، وأخرى يزايد على الأرض فيصدر شهادات وطنية للأعلى صوتاً، والأدنى اكتراثاً لقيم العقل والمنطق والحكمة.
دعوة كليب
ولعل هؤلاء الذين صنعوا عمرو خالد، الرسميون منهم والمحظورون، ظنوا في البداية إنهم بهذا الاختراع العجيب سوف يسحبون البساط من تحت أقدام الجماعات الأصولية الجهادية، من خلال ترسيخ هذا النموذج "الروش طحن" من الإسلام، الذي يقدم ما يمكنني أن أصفه بمنتهى الدقة وارتياح الضمير بأنه "دعوة ـ كليب"، أي دعوة تقوم على مجموعة من المؤثرات المصطنعة مثل "الروشنة" والممثلين "الفوتوجيني" والسيناريو المفكك المثير في نفس الوقت، وسط جمهور مصطنع ليس موجوداً في سياق طبيعي، لكن يمكن حشده ببساطة من خلال برنامج تليفزيوني تنتجه شبكات العرب وربما العجم، أو في ناد راق أو حتى مسجد صمم خصيصاً لهذا الغرض، ومزود بالكاميرات وسبل الإنتاج.
تصور صانعو "سي عمرو" انهم سيقومون بتفريغ حالة العنف من مخاطرها، من خلال ترسيخ هذا النموذج "الدايت" من الدعاة منزوعي الدسم والقيمة، ورغم ذلك فما حدث انه ترك تأثيراً واضحاً في مناطق أخرى غير تلك التي استهدفها الكهنة صناع ظاهرة "سي عمرو"، فراح يأتي على شرائح من المجتمع لم تكن يوماً موضع استهداف الجماعات الأصولية، رغم وجود بعض النماذج الاستثنائية من هذه الشرائح انخطرت بالفعل في صفوف الجماعات الجهادية، ومنهم أيمن الظواهري شخصياً، لكن يبقى انتشار هذا النموذج في الطبقة المتوسطة العليا محدوداً، فالظواهري استثناء لا يؤكد القاعدة بقدر ما ينفيها، فيما عمرو خالد يكاد أن يتحول بفعل "سحر الكهان" إلى قاعدة ربما يصبح الشاب العادي الذي عرفناه طيلة قرون هو الاستثناء من قاعدة الهوس السائد والمتنامي.
صناعة حكومية
وتشي بداية "ظاهرة عمرو" بحقيقة دور الكهنوت المستتر خلفه، فالرجل ليس افرازاً شعبياً خالصاً مثل الشيخ كشك، أو المطرب الشعبي أحمد عدوية، فهذان ناصبتهما وسائل الإعلام الرسمية وشبه الرسمية العداء، وقاطعتهما بصرامة حتى يومنا، في ما فتحت صفحات كبريات الصحف "شبه الحكومية" صفحاتها ـ التي تضن بها حتى على ابنائها ـ ووزعت كبرى المؤسسات الصحافية المصرية أشرطة كاسيت واسطوانات CD& لفضيلة "سي عمرو" مجاناً، لتضمن وصوله إلى كل ركن من أرض المحروسة، وتعبر الحدود والمحيطات أيضاً، ليصبح "سي عمرو" في غضون شهور ظاهرة، أشك ـ ومعي كثيرون ، في جدارته باستحقاق هذه الشهرة، لسبب بسيط وهو إنه لم يقدم جديداً، بل هو يشبه إعادة توزيع لحكايات عادية في إطار يناسب نموذج الشاب "الروش طحن" الذي يكره القراءة ويسفهها، ويقاطع الصحف، ويهيم بـ "الملتيميديا الجديدة"، ويجتاز الامتحانات بالغش والدروس الخصوصية، ويلتحقون ـ بفلوسهم ـ بالجامعات الخاصة، ويجد ـ بفضل دعوات طانط وبركات أونكل ـ أفضل فرص العمل الحكومي والخاص، بينما لا يجد القطاع الأكبر من الشباب المصري سوى وظائف قميئة من طراز "مندوب مبيعات"، أو "سكرتيرة كله على كله"، وهذا في أفضل الأحوال بالطبع، أو الانضمام لطابور العاطلين الممتد من الاسكندرية حتى النوبة المصرية.
ومن صفحات الصحف والمجلات "شبه الرسمية" إلى شاشات ومنابر الشيخ صالح كامل، وحتى الخيام التي رصدت لها ملايين الجنيهات، راح "سي عمرو" يكبر وتترسخ أقدامه منغرسة في عقول ووجدان القطاع النخبوي من شباب مصر، وكما يقول المثل الشعبي المصري "أول الرقص حنجله"، فقد كانت مهمة "سي عمرو" هي "الحنجلة"، المؤدية حتماً بعد ذلك إلى الرقص مع "الإخوان"، أو "الجهاد" أو "السلفية" أو "الدعوة والتبليغ"، بعد أن يكتشف الشباب، إن "سي عمرو" لا يقدم الجرعة الكافية، ولا يملك جواباً شافياً عن تساؤلات صعبة تتصدى لها نظريات "الحاكمية" وطروحات "الولاء والبراء"، وفي رمضان الماضي بدلاً من أن يسمع جمهور "سي عمرو" حكاياته، وصلهم خبر سفره إلى لندن لدراسة الدكتوراه، وهو ما قالته زوجته المدرسة بكلية "الفنون الجميلة" ـ التي لا أعرف إن كانت لدى عمرو حراماً أو مكروهة أو مباحة ـ.
ما علينا، ما حدث انها أكدت سفر زوجها إلى لندن عن طريق منحة دراسية كان قد حصل عليها لمدة أربع سنوات من جامعة ويلز وقد سافر هذه الأيام قبل أن تنتهي صلاحية تأشيرة بريطانيا، زوجة عمرو التي سافرت إليه هي وابنهما "على" لاحقاً نقل عنها قولها إن موضوع أطروحة الدكتوراة هو "أصول التربية في السيرة النبوية .. دراسة مقارنة مع منهج التربية في الغرب".
قصص الإنترنت
تقول إحدى الرسائل المتداولة عبر عشرات الرسائل الإليكترونية نقلاً عن مواقع أصولية إن جمهور "سي عمرو" لم يقتنع بحكاية سفره ولا بتبرير زوجته، فقد اعتبروا ما حدث لشيخهم الشاب إبعاداً وليس سفرا عاديا، فقد أجبر عمرو على ترك مصر بالقوة ، وحتى يدللوا على ما ذهبوا إليه، نشروا عبر الإنترنت شائعات عن قصة سفره، ومن بينها إن الصحافي الشهير مفيد فوزي قدم شكوى إلى جهات أمنية أرفق بها شريط كاسيت لعمرو خالد كان يدعو فيه إلى تمييز النساء والفتيات والمسلمات عن غيرهن في الملبس حتى يعرفن وتنسب القصة المتداولة عبر الشبكة لفوزي قوله : "إن عمرو خالد بذلك يسعى إلى التفرقة بين أبناء الشعب المصري ويميز بينهم على أساس الملابس"، ثم تخلص القصة التي يروج لها المتأسلمون ويتداولونها في ما بينهم إلى أنه نتيجة ذلك أخذت الجهات الأمنية قراراها بإبعاد عمرو عن مصر.
ولو اكتفت قصص الإنترنت باتهام مفيد فوزي لهان الأمر، لكنها امتدت لتطال شيخ الأزهر د. محمد سيد طنطاوي، فتقول قصة رسالة إليكترونية أخرى إن عدداً من علماء الأزهر الذين أغضبتهم وأحرجتهم شهرة "سي عمرو" ذهبوا إلى الشيخ طنطاوي، وقدموا له شكوى اعترضوا فيها على تصدي "سي عمرو" للدعوة دون علم وجرأته على نقل بعض الروايات المشكوك في صحتها، وهو ما يحدث بلبلة في عقول الشباب، الأمر الذي دفع شيخ الأزهر إلى أن يطلب من الجهات الأمنية منع عمرو من إلقاء الدروس الدينية إلا بموافقة السلطات.
إدريس والشعراوي
هي نفس القصة التي جرت قبل أكثر من ربع قرن بين يوسف إدريس وزكي نجيب محمود وغيرهما من جهة، وظاهرة الشعراوي من جهة أخرى، وانتهت بتراجع إدريس وفريقه أمام حالة الصخب والهوس الجماعي، التي جعلت من الشعراوي أحد أركان الدين ومعالمه، رغم ان الرجل لم يكن أكثر من مجتهد انحصرت قدراته في الجانب اللغوي، فضلاً عن تماهيه مع حالة "العائدين من النفط" التي أفرزتها في مصر ظاهرة النزوح الجماعي صوب بلاد تفجرت صحاريها نفطاً ودولارات، ومن ثم عودة هؤلاء مثقلين بطروحات هي في أبسط صفاتها تشكل "الدخول الثاني" لعمرو بن العاص إلى مصر، فعبر قرون لم نكن نعرف في "المحروسة" ذلك الزي الأفغاني الذي جلبه لنا "العائدون من النفط" وإخوانهم "العائدون من أفغانستان"، ولم نعرف في مصر ذلك الحجاب بصورته المنتشرة الآن، كان هناك "الملس" و"الملاية اللف" و"الطرحة" وحتى "اليشمك" التركي ظل مقصوراً على النخب التركية، وانتهى بنهايتها، ليبقى رداء الاحتشام المصري الذي كانت تشترك فيه أمي مع "أم مكرم" صديقي القبطي، فهو يؤدي نفس الغرض، الاحتشام في المظهر، واخفاء العورة، وهي مقاصد لا تختلف فيها الديانة المسيحية مع الإسلام ولا حتى اليهودية في شئ
صار الحجاب القادم من الصحراء "شعيرة دينية"، لم يجرؤ مخلوق في مناخ الهوس على التساؤل عما إذا كان "عادة" أم "عبادة"، ولم يكن هناك متسع من الوقت ولا الجهد لطرح مثل هذه التساؤلات وعصابات التأسلم تغرق الأرض دما وتنتهك الحرمات وتنكل بالأبرياء وتحرق الأخضر واليابس، وكان نفس الفصيل الانتهازي من جماعات الإخوان المتأسلمين، والسلفيين وغيرهم يبرر هذه الفظائع بمقولات من نوع "هؤلاء شباب متحمس"، "اجتهدوا واخطأوا، ولهم أجر"، أي ان القتلة والسفاحين ولصوص محلات المجوهرات مجتهدون ومأجورون رغم ذلك، وكانت المعركة شرسة، ولم تمنح فرصة لالتقاط الأنفاس والحوار حول مسائل من نوع الحجاب والجلباب، رغم ان هذه الأمور هي في نهاية المطاف من شؤون العادات بالبداهة، فليس من العقل مثلاً أن يلتزم مسلم يعيش في برد روسيا أو كندا بارتداء الجلباب الموسوم زوراً بأنه "إسلامي".
روش طحن
وما أشبه الليلة بالبارحة، عادت ظاهرة "الداعية النجم" مجدداً من خلال شخص "سي عمرو"، الذي اعتمد "تكنيك السرد"، بدلاً من من "تكنيك اللغة" الذي كان يعتمده الشعراوي، والسرد هنا أسهل، ولا يتطلب مقومات وعناء العلم باللغة العربية، بل غاية ما في الأمر أن يطالع المرء قصة أحد الصحابة في أحد كتب السيرة، ثم يخرج على شاشة التلفزة ليرويها بأسلوب يجمع بين التشويق والبساطة وأحياناً الابتذال واستخدام المشهيات والمقبلات من النكات والقفشات والتعليقات، ولوازم الحوار بين الجيل الجديد من الشباب واليافعين "الروش طحن"، وبهذا يضمن "الداعية عمرو" جذب جمهوره بآليات التشويق الدرامي، وتكريس السوقية، وترسيخ ذائقة التطرف من خلال الإلحاح على أمور هي في المحصلة النهائية "سفاسف وترهات"، حتى أصبحنا بحاجة لمن يفتينا في كل صغيرة وصغيرة من شؤون الحياة اليومية، وعلى الفور استجابت آلة الإفتاء متعددة الاستخدامات، فخرجت علينا فتاوى تحرم عيادة المريض بالورود، لأن فيها تشبها بعادات الكفار، وأخرى اعتبرت "البوكيمون" بدعة وضلالة ونسبت إلى الشخصية الكرتونية اليابانية كل مصائب الكون، وتمت ترجمتها على نحو خبيث بشكل عمدي، ليصبح معناها "أكره الإسلام"، و"احتقر محمد"، وهذا هراء ما بعده هراء، وهو أيضاً كذب صريح وتأصيل لثقافة الكراهية، التي بات القطاع الأعرض من شبابنا يسعى إليها ويحرص عليها حتى لو كانت في اليابان، بفضل هؤلاء "الدعاة" ومن يصنعهم.
تملق الغوغاء
وسط هذا المناخ لم يجرؤ كاتب على التصدي لهذه الظواهر الخطيرة، لأنها فضلاً عن كونها مخاطرة غير مأمونة العواقب، فهي كفيلة بسد أبواب الرزق أمام من يتبناها، ففي الصحف الحكومية صار المتنفذون بها يتملقون المتطرفين، وفي محطات التلفزة الحكومية والفضائية بات القائمون عليها يخطبون ود الغوغاء والدهماء، ويؤثرون السلامة، وكما حدث واستبعد كاتب كبير مثل العفيف الأخضر من النشر على صفحات "الحياة" اللندنية، رغم انه واحد من أقلام قليلة تمثل تيار العقل والاستنارة، في الوقت الذي يكتب وينشر فيه ممثلون لكل الحركات الإسلاموية والأصولية المحظورة منها وشيه المحظورة، وضاق فضاؤنا العربي بأي إشارة للعقل والمنطق والموضوعية.
ضاقت أرضنا العربية أيضاً بهذا الصوت، وسارع القوميون والناصريون والبعثيون إلى ركوب الموجة، فصار هناك الأخ الرفيق المفتي، واستبدلت أدبيات ومفردات "النضال" بـ "الجهاد"، و"الوحدة العربية" بـ "الوحدة الإسلامية"، وتبنت صحف العروبة خطاباً راديكالياً أصولياً، يجمع بين الديماجوجية والإرهاب الفكري، ويعتمد مفردات التخويف والتخوين والتكفير، ويطلق كل خبرات الاستبداد في خدمة الهوس الكاسح، ويشن كتاب ناصريون حملات ضارية على رأي أبداه مفيد فوزي حول "سي عمرو" الذي الذي يبدو أنه أصبح أحد أركان الدين، ورموز الأمة، وحتى الصحف الحكومية التي ينخر فيها الفساد ويعتريها الترهل، ولو تخلت عنها الحكومات لسقطت في ساعات، صارت هي الأخرى تدافع وتنافح عن "سي عمر"، لدرجة أصبحت معها مجرد كتابة حرف واحد مخالف لهذا الهوس، مغامرة قد تأتي على مستقبل من يتصدى لذلك.
سيف الطائفية
ثم يشهر أحدهم سيف الطائفية ليحسم به المسألة دفعة واحدة، فيزعم إنه ليس من حق مفيد فوزي المسيحي أن يخوض في شأن المسلمين، كالحجاب و"سي عمرو" الذي قلنا انه يبدو صار أحد أركان الدين، وبهذا يظن صاحبنا "القومجي" في صحيفة الحزب الناصري المصري انه حسم المعركة قبل بدايتها بالضربة القاضية "الفنية"، متناسياً إن أساس الحوار العام ليس الدين ولا الطائفة، بل "المواطنة"، ومتجاهلاً تاريخاً أسود من العلاقات الأسوأ بين الحقبة الناصرية والحركات الإسلامية، كما يغض الطرف عن عشرات الكتب التي نشرها هؤلاء ضد ناصر وعهده، ومع ذلك يزايد حتى على الإسلاميين أنفسهم ليعلن إن "سي عمرو" أمر لا يخص مفيد فوزي، وليس من حقه أن يخوض فيه، ويمسكه من يده "التي توجعه" في مزايدة فجة على "الوحدة الوطنية"، وحديث أخرق عن "الفتنة" ينطبق عليه القول "رمتني بدائها وانسلت"، وهذا في حقيقته جزء من سلوك عام لدى بقايا هذا الفصيل الانتهازي الذي لم نحصد من تجربته سوى النكبات والنكسات والقمع والدجل السياسي و"لا صوت يعلو فوق صوت المعركة".
أيامنا الحلوة
ولعل نعرة المسلم والمسيحي لم تكن موجودة في بلادنا قبل هذه الهجمة الصحراوية ودعني أقص عليكم حكاية شخصية أترك لكم تقدير مغزاها، فقد كان للمرحوم والدي صديق من أسيوط اسمه وجيه لورنس، وكان محامياً من أسرة قبطية تجمع بين الثراء والعراقة والثقافة، ولها دور سياسي معروف في صعيد مصر، وكثيراً ما كنت أزوره مع أبي، ولم تزل ذكريات تلك الأيام البعيدة محفورة في ذاكرتي، حية في وجداني ، لقد كنت أذهب وأنا ابن العاشرة من عمري صحبة عاطف ابن الأستاذ وجيه للسباحة في حمام سباحة شديد النظافة والجمال في نادي جمعية الشبان المسيحيين، ويصحبنا سائق مسلم أسمه عم فوزي، وخادم قبطي أسمه عم كمال، نعم لا زلت أذكر أسماءهم حتى اليوم. ووجوههم الطيبة السمحة التي حرقتها شمس الجنوب، وتجاعيدها التي خلفتها تجارب الحياة، وأرجو أن يتسع صدر القارئ لسماع بقية القصة.
كنا نقضي اليوم في السباحة في حمام مشترك، به سيدات وشباب وأطفال، وأين كل هذا؟، في قلب أسيوط جنوب مصر، التي زرتها بعد ذلك بربع قرن، كانت قد تبدلت كثيراً، بتعبير أدق لم تكن هي أسيوط التي عرفتها طفلاً في التاسعة أو العاشرة من عمري ، لم تكن هناك حمامات سباحة لا للرجال ولا للأطفال، لم يكن هناك ناد من أساسه، فما رأيته أصبح مقهى رديئاً، لم تعد دور السينما التي كنت أدمنها تعمل إلا في حراسة الشرطة، وتدهورت أحوالها حتى تحولت لأوكار للمدمنين والعاطلين واللصوص، ليس هذه كل& تفصيلات المأساة، بل كان قد وصل الأمر لحد أنه يستحيل على شاب أن يسير في الطريق، أو يجلس في مقاعد الجامعة بجوار فتاة، ولم تعد هناك واحدة سواء كانت مسلمة أو قبطية تجرؤ على السير بدون غطاء للرأس، فقد كان أصحاب الجلباب القصير واللحى البدوية يحملون الجنازير والكرابيج ليعترضوا طريق أي اثنين، وأي واحدة تخالف ما فرضوه قسراً على الجميع، وترهلت أجهزة الأمن بقصد أو بتعليمات حينئذ، وتواطأ محمود عثمان محافظ أسيوط وقتذاك، وظهرت أسماء جديدة أصبحت نجوم تلك الأيام:
اجح إبراهيم، كرم زهدي، عاصم عبد الماجد، عصام دربالة ..الخ، ولعل القارئ سمع بهذه الأسماء أو بعضاً منها، وحتى تكتمل فصول المأساة على المستوى الإنساني، فقد مات أبي وهو لم يكمل عامه الثاني والخمسين، ثم لحق به الأستاذ وجيه لورنس وهو على عتبة الستين، وأعقبه نجله الشاب صديق طفولتي وصباي عاطف بعد مرض قصير وخبيث& لم يمهله كثيراً، وهاجرت شقيقته مع زوجها إلى أميركا، ومات عم فوزي السائق، وأصيب عم كمال الخادم والحارس بالعمي والصمم فلم يعد يدرك شيئاً مما يجري حوله، وبات القصر مهجوراً تروى عنه حكايات خرافية، من أنه أصبح مسكوناً بالأشباح والأرواح القلقة الشريرة، ولم أستطع أن أمنع دمعة ما لبثت أن تحولت لبكاء حار وأنا صحبة& مرافق لي في أسيوط، ولا& يعرف سبباً لبكائي المفاجئ أمام منزل شهد "أيامنا الحلوة"، ولي في كل شبر فيه ذكرى وحكاية.
لم أشأ أن أروي كل هذه التفصيلات لمرافقي، وكانت علاقتنا شبه رسمية، فقد كنت في هذه الأثناء في مهمة عمل تتعلق بالأوضاع الأمنية المتردية التي كانت أسيوط تشهدها في تلك الأيام السوداء، لا أعادها الله، عدت للفندق الذي كنت أقيم به، ولم أنم ليلتها، ظلت وجوه الذين غابوا تراودني ، تشخص أمامي ، تنظر لي نظرات حية كلها حسرة وأسى، تلومني كأنني مسئول عما آلت إليه أحوال هذا البلد، وذلك المنزل، وهؤلاء الأحبة، لم أستطع شرب كوب الشاي بعد أن قدمه لي عامل الفندق بملابسه المتسخة القذرة، وفضوله المقزز والمزعج، ومرة أخرى تذكرت "جارسونات" نادي أسيوط في تلك الأيام الخوالي، قلت لذلك الشخص المنفر: خذ معك هذا الشاي واغرب عن وجهي. حضر صاحب الفندق ليعتذر، كان مظهره وأسلوبه في الحديث يؤكدان أنه من هؤلاء الأغنياء الجدد الذين توحشوا في مصر مؤخراً، يرتدي ملابس غالية الثمن ليست فيها لمسة أناقة واحدة، أسنانه قذرة ، يتحدث بصوت عال ويضحك كثيراً دون سبب، ولا يكف عن استعراض معارفه من كبار الضباط والمسئولين والمشاهير، سألته عما إذا كان لديه مشروبات أخرى غير الشاي، فاقترب& مني بتودد مصطنع وهمس في أذني متسائلاً إن كنت أرغب في تدخين "شيشة& مغمسة لعلها تهدئ أعصابي"، فابتسمت بمرارة لم أجد سواها في حلقي مؤكداً له أنني لا أتعاطى ما يرمي إليه مطلقاً& فانصرف مندهشاً من ردة فعلي.
وأخيراً ..
ألا يحق لنا ونحن نرثي أحلامنا التي اغتالها التطرف وأجهضها الهوس الديني، هذه الأحلام المتواضعة بوطن كالبستان يتسع لكافة الزهور، ولا يحاكم ابناءه على معتقداتهم، ولا يصنفهم وفق قناعاتهم الأيديولوجية، ولا يباهي بهذه البثور التي لم تبدأ بـ "شعبولا"، كما يبدو أنها لن تنتهي بـ "سي عمرو" ومريديه.
ألا يحق لنا أن نقول (لا) لهذه النموذج "الروش طحن"، أم أن هذا كثير، وقد يودي بنا إلى نفس نهاية العظيم فرج فودة وغيره من شهداء الحق والحرية؟
مجرد سؤال .. لا أتوقع سوى الشتائم والسخائم رداً عليه.