- الموسوعة البريطانية الجديدة:
- صلاح الدين الأيوبي كان أكثر أبطال المسلمين شهرة في الشرق والغرب
- قائد استرد القدس من الفرنجة عام1187
الي عهد قريب كان اسم صلاح الدين الأيوبي يقترن باستعادة فلسطين من الصليبيين، ولم يبتعد الباحثون العرب الي أكثر من هذا الاطار، غير انه بمرور السنوات تنبه الكثيرون الي ضرورة البحث في جوانب أخري من مآثر هذا القائد الاسلامي وفي ظلال أخري من شخصيته وأفكاره، وتعدّ لفتة الأديب والشاعر المعروف صلاح نيازي في ملاحقة مكانة صلاح الدين الأيوبي في المصادر الانكليزية مهمة بمعايير الامانة التاريخية والمعرفية، اذ نقب الكاتب في تلك المصادر واختار منها ما ينفع في تسليط الضوء علي الجوانب غير المعروفة للقائد الاسلامي الرائد.
هذا عنوان طموح ــ لا ريب ــ لا يليق إلا بكتاب متخصص. الموضوع قبل كل شيء طويل للغاية، لان ما من كتاب انكليزي بحث الحروب الصليبية إلا وأسهب في ذكر صلاح الدين الأيوبي.
وحتي أحصر هذا الكم الهائل، الزمت نفسي بأهم الكتب الانكليزية التي تناولت حياة هذا الرجل بالدرجة الأولي، وما أكثرها! كدت ــ وأنا أطالع ما صدر عن صلاح الدين الأيوبي بالانكليزية ــ أيأس من قابليتي الضعيفة علي الالمام بالموضوع. ولكن ما حثني علي المضي، سببان: الأول هو ما يتمتع به رئيس الوزراء الاسرائيلي، شارون من شرور أكيدة بالمقارنة إلي ما تميز به صلاح الدين من تسامح عزّ له نظير. السبب الثاني هو ما ألحق بعض المتطرفين بالعرب والمسلمين من ضرر بالسمعة مما جعل حياة كثير من المغتربين عرضة للاهانة.
ولكن كيف استهل الموضوع؟
يذكر الكاتب الانكليزي (هربرت ريد) في كتاب سيرته الذاتية: (العين البريئة) ان السنوات (السبع الأولي هي أساس شخصية الانسان. وكل ما تلاها من سنين ما هي إلا امتدادات لها). من هذا المنطلق، عنّ لي أن أبدأ من البداية. بكلمات أخري كيف يكتب المؤرخون عن الحروب الصليبية للأطفال؟ ما الانطباعات التي ستخلفها تلك الكتب في أذهان الأطفال عن العرب والمسلمين؟ وماذا تقول (موسوعة الاطفال) عن الصليبيين مثلاً؟ ولكن قبل ذلك لابد من التنويه، من ان الصور والتخطيطات التوضيحية أساسية في كتب الأطفال وقد تفوق أهميتها، الكلمة المطبوعة، سنحاول اذن اعطاء فكرة موجزة.
تذكر موسوعة الأطفال CHILDERNS BRITANNICA (ان صلاح الدين، انما يذكر في الوقت الحاضر بصورة رئيسة للدور الذي لعبة في الحروب الصليبية. وعلي الرغم من انه كان مسلماً وقاتل من أجل السيطرة علي فلسطين ضد المسيحيين، إلا ان الزعماء المسيحيين بمن فيهم ريتشارد الأول (قلب الأسد) ملك انكلترا اعجبوا به، لانه كان عدواً عادلاً وفروسياً.. بعث صلاح الدين أثناء الحرب بهدايا إلي ريتشارد و ــ كما قيل ــ بعث له طبيبه الخاص لمعالجته حينما كان مريضاً).
أما الموسوعة البريطانية الجديدة فتقول: (ربما كان صلاح الدين الأيوبي أكثر الابطال المسلمين شهرة في الشرق والغرب في كل العصور. ففي الشرق أصبح رمزاً للحاكم الحكيم، وقائداً عسكرياً من الطراز الأول. أما في الغرب فقد أحرز مكانة رفيعة اسطورية كعنوان للعدو المتمتع بالفروسية والشهامة، اثناء الحملة الصليبية الثالثة).
إلا ان الموسوعة تعود لتنبه علي (ان شهرة صلاح الدين تغلبت علي الحقائق الفعلية لحياته، ولو انها لم تكن مثيرة).
ثم تقارن الموسوعة بين سقوط القدس بأيدي المسلمين وصلاح الدين، وبين سقوطها قبل ذلك بأيدي المسيحيين، فتقول: (ان استيلاء المسلمين علي القدس هو بمثابة الضد الصارخ لما شهدته المدينة عندما استولي المسلمون حيث سفح الدم بلا توقف أثناء الذبح الوحشي لسكانها. لقد اتسم الفتح الاسلامي بالايمان الصادق المتحضر وبالسلوك الدمث لصلاح الدين وجنوده..).
وحتي تكتمل الصورة، لابد أن نري ما الذي قالته الموسوعة البريطانية عن ريتشارد قلب الأسد: (كان لا يشعر بمسؤولية، نزقاً، ويمتلك طاقة هائلة، وكان شريراً ذا قسوة عظيمة.. كان عسكرياً ذا قابلية تامة، وسياسياً بارعاً.. كان شاعراً غنائياً ذا تأثير معتبر.. كان علي خلاف أبيه، وأخيه جون شاذاً جنسياً وليس في ذلك شك).
يسرد جورج سيرل CYRILL في كتابه: (الصليبيون) قصة الحروب الصليبية وكيف بدأت حينما تسلم البابا أوربان الثاني أنباء مقلقة من الامبراطور البيزنطي الكسس كومنينوس، مفادها ان الاتراك جعلوا زيارة الأماكن المقدسة خطرة ان لم تكن مستحيلة، كما انهم يهددون الامبراطورية نفسها وهي لا تستطيع الصمود بوجههم طويلاً. عندها قرر البابا دعوة الاساقفة للاجتماع، وألقي فيهم خطاباً قال فيه: (ان الاتراك والعرب اخترقوا عمق الأراضي المسيحية وقتلوا الناس، ودمروا كنائسهم، وعلي هذا فيجب القيام بعمل ضدهم). أخذ رجال الدين علي عاتقهم نشر مناشدة البابا في الأماكن التي يعظون فيها: في الطرقات والأسواق والقري وأسواق المزارعين. وكان من بين أكثر الواعظين شهرة (بيتر) الناسك الذي قاد حملة صليبية قوامها (50 ألف) شخص.
يصف المؤلف هذا الواعظ: (كان نحيفاً وقبيحاً.. كان يقوم برحلاته علي حمار. كان الناس قد تأثروا ببيتر لدرجة انهم ينتفون شعرات من ذيل حماره والاحتفاظ بها (كآثار مقدسة)...).
يعد العدد الذي اتبع (بيتر) كبيراً اذا ما اخذ بعين الاعتبار ان مدناً كلندن وباريس وكولون لم يكن في كل منها إلا حوالي (20 ألف) شخص. ويذكر المؤلف (ان من بين هؤلاء الاتباع: قرويون، ومغامريون، وشحاذين ونساء وأطفال، ورجال مسنون)، ثم يروي المؤلف المصير الذي حاق بحملة (بيترك) الناسك، ويتبسط في ما تلا ذلك.
قال المؤلف عن دخول المسيحيين إلي القدس بعد سقوطاً بأيديهم: (طاردوا المسلمين وقتلوا عدداً كبيراً منهم حتي جرت الدماء جداول في الشوارع. اجتاح الجنود المنتصرون علي الفور المدينة واستولوا علي الذهب والفضة والخيول، ونهبوا بيوت المواطنين الاغنياء).
ومن طريف ما يذكره المؤلف ان الصليبيين حاولوا أن يتأقلموا مع البيئة الجديدة وسكانها، وان كانت العلاقة بينهما هي علاقة انسان فاتح بأناس مندحرين. وينقل عن أحد المؤرخين الفرنسيين قوله: (نحن الذين كنا غربيين، أصبحنا شرقيين.. إن أكثر اللغات اختلافاً أصبحت الآن شائعة لكلا الشعبين وقد ربطت الثقة المتبادلة الرجال الذين ينحدرون من سلالات مختلفة جداً).
أما عن صلاح الدين لدي اعادة استلائه علي القدس، عام 1187م، فيقول جورج سيرل: (دخل المدينة من دون سفح دماء أو نهب، وهذا بالضد تماماً لما قام به المسيحيون لدي احتلالهم القدس قبل ذلك بقرن تقريباً).
الغريب ما استنتجه الكاتب في نهاية الكتاب، يقول: (علي هذا فالحملات الصليبية بدلاً من أن تخلق هوة بين المسيحيين والمسلمين، قرّبت في النهاية في ما بينهم أكثر. لقد صعّدت الحملات الشعور بالمغامرة وحب العجائب وتركت ثروات معنوية ومادية عظيمة. كانت الحملات الصليبية من أكثر الحركات أهمية).
هكذا يترك جورج سيرل قرّاءه الصغار يفكرون بأهمية المغامرات البطولية لانها لا تجلب إلا الغني المادي والمعنوي، بكلمات أخري لم يلفت المؤلف نظر قرّائه إلي المآسي التي جرّتها الحروب الصليبية علي الاوروبيين والعرب، وكيف تدهورت الحضارة الاسلامية والعربية اقتصادياً مما جعلها لقمة سائغة بأفواه المغول. تلك الحروب التي نظر المؤلف إليها فقط من وجهة نظر غربية مشبعة بالأنانية، ما زلنا نعاني من آثارها لحد الآن.
قبل الدخول في هذا العالم الواسع، قد يكون من المفيد أن نذكر بعض المعلومات العامة:
1 ــ يذكر P. H. NEBY في كتابه الصادر عام 1983: (عندما زار القيصر WILHELM II دمشق عام 1898، أصلح قبر صلاح الدين، وكساه ببناء جديد، ولو أنه بشع، وعليه مصباح ذهبي معلّق. حمل هذا المصباح، الحروف الأولي من اسمه واسم سلطان تركيا الحاكم، كعلامة احترام للبطل المسلم المعروف الذي استردّ بيت المقدس من الفرنجة عام 1187م).
يعلّق (نيبي) علي ما قام به القيصر بالقول: (كان عمل القيصر ذلك متماشياً مع العادة الاوروبية التي يرجع عهدها إلي أيام صلاح الدين الأيوبي نفسه، لانه كان في الواقع مثالاً طيباً (للعدوّ النبيل))..
(لقد عدّ نبيلاً للغاية وشهماً جداً لدرجة ان شاع الافتراض لدي الفرنسيين، ان أمّ صلاح الدين أو ان جدته فرنسية، وظن الانكليز انها انكليزية. لقد بات صلاح الدين، المسلم المفضل لدي العالم المسيحي.. وقد ترك مالاً للمؤسسات الوقفية المسيحية... وقد ذكره (دانتي) ذكراً حسناً في (الكوميديا الالهية)..).
2 ــ عندما صدر في العام الماضي كتاب (محاربون من اجل الله: ريتشارد قلب الأسد وصلاح الدين) للمؤرخ (جفري مورهاوس)، نشرت جريدة الغارديان مقالة استعراضية لهذا الكتاب بقلم جيمس ريستون، استهلها بالقول: (لقد جاء هذا الكتاب في الوقت المناسب وهو يذكرنا (ونأمل أن يذكرنا) بأن جورج بوش، لم يعرف ما كان يتحدث عنه حينما تلفظ لفظة (الصليبيين) بعد الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001، لأن الحملات الصليبية من بين أكثر المؤامرات شناعة في التاريخ الانساني المدوّن).
يصف (جفري مورهاوس)، صلاح الدين، بأنه (ألمعي، وكريم، وورع، ومتواضع ومحارب عظيم اذا ما اقتضي الأمر)، بينما يصف ريتشارد قلب الأسد بأنه: (شجاع بطيش، صخاب، وقاس).
يذكر (مورهاوس) ان ريتشارد قلب الأسد حينما سقطت عكّا بيده، قتل الأسري المسلمين وعددهم (700.2) بعد أن فشل صلاح الدين في جمع فلوس الفدية. إلا انه يذكر ان صلاح الدين بالمقابل (قتل من سقط بين يديه من الاوروبيين)، ولكن ليس هناك من مصدر تاريخي يؤكد ذلك. مع ذلك يبرّز الكاتب سجايا صلاح الدين الحضارية، منها: انه قاوم مشورة اتباعه بتدمير كنيسة قبر المسيح، كما انه أجّل هجوماً علي احدي القلاع إلي ان تنتهي مراسم عرس في الداخل..).
3 ــ يذكر المؤرخ P. M. HOLT في كتابه (عصر الحروب الصليبية) الصادر عام 1986: (إن سلوك صلاح الدين في العقد التالي لوفاة نور الدين جعله شخصية مثيرة للجدل في زمنه هو، وظهرت اختلافات في الرأي حول حوافزه وشخصيته في كتابات المؤرخين المعاصرين.
يعتقد (هولت): (ان صلاح الدين الايوبي، لم يكن منشغلاً بالجهاد قبل كل شيء، ولكن في اعادة توحيد المقاطعات الزن ية تحت سيادته بالذات. وربما كان قصده من ذلك مقدمة لحملة كبيرة ضد المملكة اللاتينية، ولكن من غير المبرر، الافتراض ان ذلك كان قصده الوحيد أو حتي قصده الأولي..).
علي الرغم من ان أحد المؤرخين العرب ذكر انه كان في نية صلاح الدين غزو الدول الاوروبية، إلا ان ما يهمنا هنا في ما ذهب إليه المؤرخ (هولت) من ان صلاح الدين الأيوبي، كان (منشغلاً في اعادة توحيد المقاطعات الزنكية تحت سيادته بالذات).
ان توحيد المقاطعات الزنكية تكشف بأسطع ضوء عن: أولاً ما كان يدور في خلد صلاح الدين الأيوبي من مخططات عسكرية وثانياً عن معتقده السياسي.
لقد أدرك صلاح الدين انه لا يمكن تحقيق أي انتصار علي الصليبيين، ما لم تتوحد مصر وسوريا أولاً، وهذا شدّ ما كان يخشاه الصليبيون.
يشير (بولدون) في كتابه (ريموند الثالث بطرابلس وسقوط القدس) الذي صدر عام 1936 إلي ان ابتداء حكم الايوبيين وانتهاء حكم الفاطميين، ما هو إلا (انتهاء العداء السني ــ الشيعي القديم مع بغداد، ذلك العداء الذي كان مهماً جداً للصليبيين. فطالما كانت القاهرة منعزلة عن بغداد ودمشق وسوريا، فان الدويلات المسيحية علي طول الساحل لم يكن يلزمها خوف من هجوم موحد) ويذكر المؤلف: (لقد تعلم الصليبيون ان يثيروا امارة اسلامية ضد منافستها. باختصار لقد أصبحوا محنكين في فن المحافظة علي توازن القوي في المشرق..).
من ناحية أخري فإن توحيد صلاح الدين لمصر والشام وبقية البلدان العربية المتاخمة، تمّ علي ما يبدو، علي أساس سياسي وليس علي أساس طائفي، وهو أمر فاق معظم المؤرخين المسلمين. بكلمات أخري كان همّ صلاح الدين من ذلك التوحيد سياسياً، ولم يكن مدفوعاً بأغراض طائفية (انظر المادة التالية).
4 ــ يذكر السير هاملتون GIBB في كتابه (حياة صلاح الدين الأيوبي) الصادر عام 1973، وهو مقتبس من كتابات عماد الدين الاصبهاني، وبهاء الدين بن شداد، أن كتابه معني أولاً وأخيراً بمراحل حياة صلاح الدين ويستثني الاوضاع الاقتصادية.
يقول GIBB: (إن المصدر الوحيد الذي يدوّن حياة صلاح الدين في سنيّه الأولي هو تاريخ ابن أبي الطيع. وهو مؤرخ شيعي من مدينة حلب. وعلي غير ما هو متوقع كان المؤلف ودّياً لصلاح الدين. لقد فقدت كل أعمال هذا المؤرخ ما عدا اقتباسات رواها مؤرخون آخرون).
إن العثور علي هذه المخطوطة وتحقيقها تحقيقاً علمياً سيحل معضلة كبيرة في ما نقع فيه من تناقض في تقييم شخصية صلاح الدين تقييماً منصفاً.
بالمقابل، فان عدداً من المصادر، لأغراض شتي، نالت من صلاح الدين الأيوبي، من أصله وشخصيته ومطامحه العسكرية.
يقول المؤرخ (نيبي) NEBY (صلاح الدين في عصره): (لم ينحدر صلاح الدين من عائلة أمراء، ولم يكن أحد أفراد الطبقة التركية الحاكمة. انهم يحتقرونه لانه محدث النعمة ويغارون من نجاحه. لم يكن حتي الأصل الذي انحدر منه عربياً أو فارسياً محترماً..).
كلام (نيبي) هذا ملقي علي عواهنه، وخالٍ من أي توثيق علمي لازم. لا يكتفي المؤلف بهذا القدر من التخرصات، بل زاد عليها قوله: (وحتي بعد أن ثبّت صلاح الدين نفسه كمقاتل عظيم مسلم، فقد كان في نزاع مع خليفة بغداد (ولو كان حاكماً بالاسم). لقد اعتقد الخليفة ان صلاح الدين طموح جداً، ومغامر وهو إلي ذلك دخيل.. لقد حشد صلاح الدين الجيش الاسلامي ضد الكفرة ولكن هذا لم يكن سوي قناع. ان غايته الحقيقية كما يقول أعداؤه هي تأسيس اسرة حاكمة وحتي لاطاحة الخليفة نفسه، كما يقترح بعض أعدائه..).
الغريب ان هذا المؤرخ يستقي معلوماته من أعداء صلاح الدين أولاً، ثم لا يذكر من هم هؤلاء الاعداء وما مؤلفاتهم، وهذا يبعد أقواله تلك عن أية قيمة علمية. بالاضافة الي ذلك فان المصادر المعاصرة لصلاح الدين الأيوبي لم تذكر عداءه لخليفة بغداد، انما العكس هو الصواب، فقد استمات صلاح الدين في أكثر من مناسبة في كسب ود الخليفة. ثم أليس هو الذي نادي بذكر اسم الخليفة العباسي في المساجد المصرية بدلاً من الخليفة الفاطمي؟!
أغرب من ذلك، ما ذكره المؤرخ انتوني BRIDGE في كتابه (الحملات الصليبية): كان مظهره الخارجي (أي صلاح الدين) غير مثير للاعجاب، ولم يعط أي دليل علي انه سيكون بارزاً ونادراً، كان قصيراً، محمر الوجه، وكريم العين. لقد ورث وضعاً في غاية الصعوبة كوزير بمصر بعد وفاة عمه، فالبلاط الفاطمي مستاء من حكمه، وتآمر سرّاً مع بلاط AMALRIC بالقدس لاطاحته، في حين ان بعضاً من ضباطه من الذين كانوا أعلي منه في الخدمة وحتي في الرتبة، كانوا مستائين بمرارة من صعوده في السلطة ورجعوا إلي بلدهم سوريا غاضبين).
حتي لو أحسنا الظن بهذا المؤرخ، إلا ان القارئ المهتم بالتاريخ لابد واجد في تلك الأقوال شططاً واختلاطاً.
يقول مالكولم كاميرون ليون LYON و D. E. P. JACKSON في كتابهما (صلاح الدين: سياسة الحرب المقدسة) الصادر عام 1982: (نظر المعجبون بصلاح الدين وهو علي فراش الموت بدمشق علي انه أحد ابطال الاسلام، ومحطم المملكة اللاتينية والمستعيد للمزارات المقدسة ببيت المقدس. لكن المدح يجب أن يستعد إلي الحقيقة التالي، وهي ان هذا الرأي لم يقبله أعداد من المسلمين المعاصرين له. وقد يصوّره الحاطون من قدره علي انه استغل الاسلام لكسب السلطة لنفسه ولعائلته، وعندئذ فقط قام بمغامرة كانت تركت المملكة الافرنجية علي استعداد للقيام بهجوم علي امبراطورية مسلمة مرهقة، لو كانت اوروبا راغبة في دعمها).
إلا ان المؤرخ ليون مع ذلك يعتقد (ان المدح والذم في تقييمات كهذه قد يكونان نافلة بالنسبة لدراسة تاريخية، مع ذلك فان هذه التقييمات نفسها توضح علاقة صلاح الدين بجذوره الاجتماعية والسياسية التي يمكن علي ضوئها تفسير شخصيته).
اختلاف الآراء حول شخصية تاريخية شيء طبيعي، ولا يشذ عنها صلاح الدين الأيوبي. ولكنها مع ذلك تنفرد وتصبح لها أهمية استثنائية لان الآراء بصلاح الدين الأيوبي هي إلي حد كبير آراء بمعتقداته الاسلامية، وببيئته العربية، لان صلاح الدين نفسه كان قد وضع قيمه الاسلامية في المعارك والحروب عملياً.
ونظراً لهذه الأهمية الاستثنائية، يمكن متابعة ما كتب عن صلاح الدين الأيوبي، أي كيف صوّره المؤرخون للأطفال أولاً، ثم نحاول بعد ذلك أن نتلمس شخصيته في المؤلفات التاريخية المهمة.
وحتي أحصر هذا الكم الهائل، الزمت نفسي بأهم الكتب الانكليزية التي تناولت حياة هذا الرجل بالدرجة الأولي، وما أكثرها! كدت ــ وأنا أطالع ما صدر عن صلاح الدين الأيوبي بالانكليزية ــ أيأس من قابليتي الضعيفة علي الالمام بالموضوع. ولكن ما حثني علي المضي، سببان: الأول هو ما يتمتع به رئيس الوزراء الاسرائيلي، شارون من شرور أكيدة بالمقارنة إلي ما تميز به صلاح الدين من تسامح عزّ له نظير. السبب الثاني هو ما ألحق بعض المتطرفين بالعرب والمسلمين من ضرر بالسمعة مما جعل حياة كثير من المغتربين عرضة للاهانة.
ولكن كيف استهل الموضوع؟
يذكر الكاتب الانكليزي (هربرت ريد) في كتاب سيرته الذاتية: (العين البريئة) ان السنوات (السبع الأولي هي أساس شخصية الانسان. وكل ما تلاها من سنين ما هي إلا امتدادات لها). من هذا المنطلق، عنّ لي أن أبدأ من البداية. بكلمات أخري كيف يكتب المؤرخون عن الحروب الصليبية للأطفال؟ ما الانطباعات التي ستخلفها تلك الكتب في أذهان الأطفال عن العرب والمسلمين؟ وماذا تقول (موسوعة الاطفال) عن الصليبيين مثلاً؟ ولكن قبل ذلك لابد من التنويه، من ان الصور والتخطيطات التوضيحية أساسية في كتب الأطفال وقد تفوق أهميتها، الكلمة المطبوعة، سنحاول اذن اعطاء فكرة موجزة.
تذكر موسوعة الأطفال CHILDERNS BRITANNICA (ان صلاح الدين، انما يذكر في الوقت الحاضر بصورة رئيسة للدور الذي لعبة في الحروب الصليبية. وعلي الرغم من انه كان مسلماً وقاتل من أجل السيطرة علي فلسطين ضد المسيحيين، إلا ان الزعماء المسيحيين بمن فيهم ريتشارد الأول (قلب الأسد) ملك انكلترا اعجبوا به، لانه كان عدواً عادلاً وفروسياً.. بعث صلاح الدين أثناء الحرب بهدايا إلي ريتشارد و ــ كما قيل ــ بعث له طبيبه الخاص لمعالجته حينما كان مريضاً).
أما الموسوعة البريطانية الجديدة فتقول: (ربما كان صلاح الدين الأيوبي أكثر الابطال المسلمين شهرة في الشرق والغرب في كل العصور. ففي الشرق أصبح رمزاً للحاكم الحكيم، وقائداً عسكرياً من الطراز الأول. أما في الغرب فقد أحرز مكانة رفيعة اسطورية كعنوان للعدو المتمتع بالفروسية والشهامة، اثناء الحملة الصليبية الثالثة).
إلا ان الموسوعة تعود لتنبه علي (ان شهرة صلاح الدين تغلبت علي الحقائق الفعلية لحياته، ولو انها لم تكن مثيرة).
ثم تقارن الموسوعة بين سقوط القدس بأيدي المسلمين وصلاح الدين، وبين سقوطها قبل ذلك بأيدي المسيحيين، فتقول: (ان استيلاء المسلمين علي القدس هو بمثابة الضد الصارخ لما شهدته المدينة عندما استولي المسلمون حيث سفح الدم بلا توقف أثناء الذبح الوحشي لسكانها. لقد اتسم الفتح الاسلامي بالايمان الصادق المتحضر وبالسلوك الدمث لصلاح الدين وجنوده..).
وحتي تكتمل الصورة، لابد أن نري ما الذي قالته الموسوعة البريطانية عن ريتشارد قلب الأسد: (كان لا يشعر بمسؤولية، نزقاً، ويمتلك طاقة هائلة، وكان شريراً ذا قسوة عظيمة.. كان عسكرياً ذا قابلية تامة، وسياسياً بارعاً.. كان شاعراً غنائياً ذا تأثير معتبر.. كان علي خلاف أبيه، وأخيه جون شاذاً جنسياً وليس في ذلك شك).
يسرد جورج سيرل CYRILL في كتابه: (الصليبيون) قصة الحروب الصليبية وكيف بدأت حينما تسلم البابا أوربان الثاني أنباء مقلقة من الامبراطور البيزنطي الكسس كومنينوس، مفادها ان الاتراك جعلوا زيارة الأماكن المقدسة خطرة ان لم تكن مستحيلة، كما انهم يهددون الامبراطورية نفسها وهي لا تستطيع الصمود بوجههم طويلاً. عندها قرر البابا دعوة الاساقفة للاجتماع، وألقي فيهم خطاباً قال فيه: (ان الاتراك والعرب اخترقوا عمق الأراضي المسيحية وقتلوا الناس، ودمروا كنائسهم، وعلي هذا فيجب القيام بعمل ضدهم). أخذ رجال الدين علي عاتقهم نشر مناشدة البابا في الأماكن التي يعظون فيها: في الطرقات والأسواق والقري وأسواق المزارعين. وكان من بين أكثر الواعظين شهرة (بيتر) الناسك الذي قاد حملة صليبية قوامها (50 ألف) شخص.
يصف المؤلف هذا الواعظ: (كان نحيفاً وقبيحاً.. كان يقوم برحلاته علي حمار. كان الناس قد تأثروا ببيتر لدرجة انهم ينتفون شعرات من ذيل حماره والاحتفاظ بها (كآثار مقدسة)...).
يعد العدد الذي اتبع (بيتر) كبيراً اذا ما اخذ بعين الاعتبار ان مدناً كلندن وباريس وكولون لم يكن في كل منها إلا حوالي (20 ألف) شخص. ويذكر المؤلف (ان من بين هؤلاء الاتباع: قرويون، ومغامريون، وشحاذين ونساء وأطفال، ورجال مسنون)، ثم يروي المؤلف المصير الذي حاق بحملة (بيترك) الناسك، ويتبسط في ما تلا ذلك.
قال المؤلف عن دخول المسيحيين إلي القدس بعد سقوطاً بأيديهم: (طاردوا المسلمين وقتلوا عدداً كبيراً منهم حتي جرت الدماء جداول في الشوارع. اجتاح الجنود المنتصرون علي الفور المدينة واستولوا علي الذهب والفضة والخيول، ونهبوا بيوت المواطنين الاغنياء).
ومن طريف ما يذكره المؤلف ان الصليبيين حاولوا أن يتأقلموا مع البيئة الجديدة وسكانها، وان كانت العلاقة بينهما هي علاقة انسان فاتح بأناس مندحرين. وينقل عن أحد المؤرخين الفرنسيين قوله: (نحن الذين كنا غربيين، أصبحنا شرقيين.. إن أكثر اللغات اختلافاً أصبحت الآن شائعة لكلا الشعبين وقد ربطت الثقة المتبادلة الرجال الذين ينحدرون من سلالات مختلفة جداً).
أما عن صلاح الدين لدي اعادة استلائه علي القدس، عام 1187م، فيقول جورج سيرل: (دخل المدينة من دون سفح دماء أو نهب، وهذا بالضد تماماً لما قام به المسيحيون لدي احتلالهم القدس قبل ذلك بقرن تقريباً).
الغريب ما استنتجه الكاتب في نهاية الكتاب، يقول: (علي هذا فالحملات الصليبية بدلاً من أن تخلق هوة بين المسيحيين والمسلمين، قرّبت في النهاية في ما بينهم أكثر. لقد صعّدت الحملات الشعور بالمغامرة وحب العجائب وتركت ثروات معنوية ومادية عظيمة. كانت الحملات الصليبية من أكثر الحركات أهمية).
هكذا يترك جورج سيرل قرّاءه الصغار يفكرون بأهمية المغامرات البطولية لانها لا تجلب إلا الغني المادي والمعنوي، بكلمات أخري لم يلفت المؤلف نظر قرّائه إلي المآسي التي جرّتها الحروب الصليبية علي الاوروبيين والعرب، وكيف تدهورت الحضارة الاسلامية والعربية اقتصادياً مما جعلها لقمة سائغة بأفواه المغول. تلك الحروب التي نظر المؤلف إليها فقط من وجهة نظر غربية مشبعة بالأنانية، ما زلنا نعاني من آثارها لحد الآن.
قبل الدخول في هذا العالم الواسع، قد يكون من المفيد أن نذكر بعض المعلومات العامة:
1 ــ يذكر P. H. NEBY في كتابه الصادر عام 1983: (عندما زار القيصر WILHELM II دمشق عام 1898، أصلح قبر صلاح الدين، وكساه ببناء جديد، ولو أنه بشع، وعليه مصباح ذهبي معلّق. حمل هذا المصباح، الحروف الأولي من اسمه واسم سلطان تركيا الحاكم، كعلامة احترام للبطل المسلم المعروف الذي استردّ بيت المقدس من الفرنجة عام 1187م).
يعلّق (نيبي) علي ما قام به القيصر بالقول: (كان عمل القيصر ذلك متماشياً مع العادة الاوروبية التي يرجع عهدها إلي أيام صلاح الدين الأيوبي نفسه، لانه كان في الواقع مثالاً طيباً (للعدوّ النبيل))..
(لقد عدّ نبيلاً للغاية وشهماً جداً لدرجة ان شاع الافتراض لدي الفرنسيين، ان أمّ صلاح الدين أو ان جدته فرنسية، وظن الانكليز انها انكليزية. لقد بات صلاح الدين، المسلم المفضل لدي العالم المسيحي.. وقد ترك مالاً للمؤسسات الوقفية المسيحية... وقد ذكره (دانتي) ذكراً حسناً في (الكوميديا الالهية)..).
2 ــ عندما صدر في العام الماضي كتاب (محاربون من اجل الله: ريتشارد قلب الأسد وصلاح الدين) للمؤرخ (جفري مورهاوس)، نشرت جريدة الغارديان مقالة استعراضية لهذا الكتاب بقلم جيمس ريستون، استهلها بالقول: (لقد جاء هذا الكتاب في الوقت المناسب وهو يذكرنا (ونأمل أن يذكرنا) بأن جورج بوش، لم يعرف ما كان يتحدث عنه حينما تلفظ لفظة (الصليبيين) بعد الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001، لأن الحملات الصليبية من بين أكثر المؤامرات شناعة في التاريخ الانساني المدوّن).
يصف (جفري مورهاوس)، صلاح الدين، بأنه (ألمعي، وكريم، وورع، ومتواضع ومحارب عظيم اذا ما اقتضي الأمر)، بينما يصف ريتشارد قلب الأسد بأنه: (شجاع بطيش، صخاب، وقاس).
يذكر (مورهاوس) ان ريتشارد قلب الأسد حينما سقطت عكّا بيده، قتل الأسري المسلمين وعددهم (700.2) بعد أن فشل صلاح الدين في جمع فلوس الفدية. إلا انه يذكر ان صلاح الدين بالمقابل (قتل من سقط بين يديه من الاوروبيين)، ولكن ليس هناك من مصدر تاريخي يؤكد ذلك. مع ذلك يبرّز الكاتب سجايا صلاح الدين الحضارية، منها: انه قاوم مشورة اتباعه بتدمير كنيسة قبر المسيح، كما انه أجّل هجوماً علي احدي القلاع إلي ان تنتهي مراسم عرس في الداخل..).
3 ــ يذكر المؤرخ P. M. HOLT في كتابه (عصر الحروب الصليبية) الصادر عام 1986: (إن سلوك صلاح الدين في العقد التالي لوفاة نور الدين جعله شخصية مثيرة للجدل في زمنه هو، وظهرت اختلافات في الرأي حول حوافزه وشخصيته في كتابات المؤرخين المعاصرين.
يعتقد (هولت): (ان صلاح الدين الايوبي، لم يكن منشغلاً بالجهاد قبل كل شيء، ولكن في اعادة توحيد المقاطعات الزن ية تحت سيادته بالذات. وربما كان قصده من ذلك مقدمة لحملة كبيرة ضد المملكة اللاتينية، ولكن من غير المبرر، الافتراض ان ذلك كان قصده الوحيد أو حتي قصده الأولي..).
علي الرغم من ان أحد المؤرخين العرب ذكر انه كان في نية صلاح الدين غزو الدول الاوروبية، إلا ان ما يهمنا هنا في ما ذهب إليه المؤرخ (هولت) من ان صلاح الدين الأيوبي، كان (منشغلاً في اعادة توحيد المقاطعات الزنكية تحت سيادته بالذات).
ان توحيد المقاطعات الزنكية تكشف بأسطع ضوء عن: أولاً ما كان يدور في خلد صلاح الدين الأيوبي من مخططات عسكرية وثانياً عن معتقده السياسي.
لقد أدرك صلاح الدين انه لا يمكن تحقيق أي انتصار علي الصليبيين، ما لم تتوحد مصر وسوريا أولاً، وهذا شدّ ما كان يخشاه الصليبيون.
يشير (بولدون) في كتابه (ريموند الثالث بطرابلس وسقوط القدس) الذي صدر عام 1936 إلي ان ابتداء حكم الايوبيين وانتهاء حكم الفاطميين، ما هو إلا (انتهاء العداء السني ــ الشيعي القديم مع بغداد، ذلك العداء الذي كان مهماً جداً للصليبيين. فطالما كانت القاهرة منعزلة عن بغداد ودمشق وسوريا، فان الدويلات المسيحية علي طول الساحل لم يكن يلزمها خوف من هجوم موحد) ويذكر المؤلف: (لقد تعلم الصليبيون ان يثيروا امارة اسلامية ضد منافستها. باختصار لقد أصبحوا محنكين في فن المحافظة علي توازن القوي في المشرق..).
من ناحية أخري فإن توحيد صلاح الدين لمصر والشام وبقية البلدان العربية المتاخمة، تمّ علي ما يبدو، علي أساس سياسي وليس علي أساس طائفي، وهو أمر فاق معظم المؤرخين المسلمين. بكلمات أخري كان همّ صلاح الدين من ذلك التوحيد سياسياً، ولم يكن مدفوعاً بأغراض طائفية (انظر المادة التالية).
4 ــ يذكر السير هاملتون GIBB في كتابه (حياة صلاح الدين الأيوبي) الصادر عام 1973، وهو مقتبس من كتابات عماد الدين الاصبهاني، وبهاء الدين بن شداد، أن كتابه معني أولاً وأخيراً بمراحل حياة صلاح الدين ويستثني الاوضاع الاقتصادية.
يقول GIBB: (إن المصدر الوحيد الذي يدوّن حياة صلاح الدين في سنيّه الأولي هو تاريخ ابن أبي الطيع. وهو مؤرخ شيعي من مدينة حلب. وعلي غير ما هو متوقع كان المؤلف ودّياً لصلاح الدين. لقد فقدت كل أعمال هذا المؤرخ ما عدا اقتباسات رواها مؤرخون آخرون).
إن العثور علي هذه المخطوطة وتحقيقها تحقيقاً علمياً سيحل معضلة كبيرة في ما نقع فيه من تناقض في تقييم شخصية صلاح الدين تقييماً منصفاً.
بالمقابل، فان عدداً من المصادر، لأغراض شتي، نالت من صلاح الدين الأيوبي، من أصله وشخصيته ومطامحه العسكرية.
يقول المؤرخ (نيبي) NEBY (صلاح الدين في عصره): (لم ينحدر صلاح الدين من عائلة أمراء، ولم يكن أحد أفراد الطبقة التركية الحاكمة. انهم يحتقرونه لانه محدث النعمة ويغارون من نجاحه. لم يكن حتي الأصل الذي انحدر منه عربياً أو فارسياً محترماً..).
كلام (نيبي) هذا ملقي علي عواهنه، وخالٍ من أي توثيق علمي لازم. لا يكتفي المؤلف بهذا القدر من التخرصات، بل زاد عليها قوله: (وحتي بعد أن ثبّت صلاح الدين نفسه كمقاتل عظيم مسلم، فقد كان في نزاع مع خليفة بغداد (ولو كان حاكماً بالاسم). لقد اعتقد الخليفة ان صلاح الدين طموح جداً، ومغامر وهو إلي ذلك دخيل.. لقد حشد صلاح الدين الجيش الاسلامي ضد الكفرة ولكن هذا لم يكن سوي قناع. ان غايته الحقيقية كما يقول أعداؤه هي تأسيس اسرة حاكمة وحتي لاطاحة الخليفة نفسه، كما يقترح بعض أعدائه..).
الغريب ان هذا المؤرخ يستقي معلوماته من أعداء صلاح الدين أولاً، ثم لا يذكر من هم هؤلاء الاعداء وما مؤلفاتهم، وهذا يبعد أقواله تلك عن أية قيمة علمية. بالاضافة الي ذلك فان المصادر المعاصرة لصلاح الدين الأيوبي لم تذكر عداءه لخليفة بغداد، انما العكس هو الصواب، فقد استمات صلاح الدين في أكثر من مناسبة في كسب ود الخليفة. ثم أليس هو الذي نادي بذكر اسم الخليفة العباسي في المساجد المصرية بدلاً من الخليفة الفاطمي؟!
أغرب من ذلك، ما ذكره المؤرخ انتوني BRIDGE في كتابه (الحملات الصليبية): كان مظهره الخارجي (أي صلاح الدين) غير مثير للاعجاب، ولم يعط أي دليل علي انه سيكون بارزاً ونادراً، كان قصيراً، محمر الوجه، وكريم العين. لقد ورث وضعاً في غاية الصعوبة كوزير بمصر بعد وفاة عمه، فالبلاط الفاطمي مستاء من حكمه، وتآمر سرّاً مع بلاط AMALRIC بالقدس لاطاحته، في حين ان بعضاً من ضباطه من الذين كانوا أعلي منه في الخدمة وحتي في الرتبة، كانوا مستائين بمرارة من صعوده في السلطة ورجعوا إلي بلدهم سوريا غاضبين).
حتي لو أحسنا الظن بهذا المؤرخ، إلا ان القارئ المهتم بالتاريخ لابد واجد في تلك الأقوال شططاً واختلاطاً.
يقول مالكولم كاميرون ليون LYON و D. E. P. JACKSON في كتابهما (صلاح الدين: سياسة الحرب المقدسة) الصادر عام 1982: (نظر المعجبون بصلاح الدين وهو علي فراش الموت بدمشق علي انه أحد ابطال الاسلام، ومحطم المملكة اللاتينية والمستعيد للمزارات المقدسة ببيت المقدس. لكن المدح يجب أن يستعد إلي الحقيقة التالي، وهي ان هذا الرأي لم يقبله أعداد من المسلمين المعاصرين له. وقد يصوّره الحاطون من قدره علي انه استغل الاسلام لكسب السلطة لنفسه ولعائلته، وعندئذ فقط قام بمغامرة كانت تركت المملكة الافرنجية علي استعداد للقيام بهجوم علي امبراطورية مسلمة مرهقة، لو كانت اوروبا راغبة في دعمها).
إلا ان المؤرخ ليون مع ذلك يعتقد (ان المدح والذم في تقييمات كهذه قد يكونان نافلة بالنسبة لدراسة تاريخية، مع ذلك فان هذه التقييمات نفسها توضح علاقة صلاح الدين بجذوره الاجتماعية والسياسية التي يمكن علي ضوئها تفسير شخصيته).
اختلاف الآراء حول شخصية تاريخية شيء طبيعي، ولا يشذ عنها صلاح الدين الأيوبي. ولكنها مع ذلك تنفرد وتصبح لها أهمية استثنائية لان الآراء بصلاح الدين الأيوبي هي إلي حد كبير آراء بمعتقداته الاسلامية، وببيئته العربية، لان صلاح الدين نفسه كان قد وضع قيمه الاسلامية في المعارك والحروب عملياً.
ونظراً لهذه الأهمية الاستثنائية، يمكن متابعة ما كتب عن صلاح الدين الأيوبي، أي كيف صوّره المؤرخون للأطفال أولاً، ثم نحاول بعد ذلك أن نتلمس شخصيته في المؤلفات التاريخية المهمة.













التعليقات