عثمان العمير

أنا مدينٌ أبدي للعراق، ومدينٌ لصدام حسين.
أما دينُ العراق، فهو يبدأ منذ الطفولة وتباشير الحياة، فلقد كان ممكناً أن أكون عراقياً بالولادة، لو قرر والدي الخروج من مدينته الصغيرة «الزلفي» ولحق بإخوته الأربعة، الذين تركوا السعودية، وسافروا إلى هناك.
لم أولد حين كانوا يأتون إلى «البلاد» فلا يتلقاهم أبوهم (جدي)، ذلك الذي يذكرني بوالد «كافكا». لا يكلمهم، لا يصافحهم، ولا يسمح لهم بتقبيله، لأنهم في عرف ذاك الزمان يعيشون في بلادٍ يقطنها الكفار!!
أتذكر في صباحي الأشياء العراقية، والمفاجآت العراقية، وكانت بغداد أولَ مدينة عربية خارج الجزيرة أذهبُ إليها لأتعاطى خمرَ حضارتها، أتابعُ بإعجابٍ شارع أبو نواس، وأذهب إلى مكتبة المثنى في شارع المتنبي، وأمشي على الرصافة وألوم إمامنا أبا حنيفة، لأنه حلّل النبيذ.
ديون العراق عليّ كثيرةٌ، وكبيرة في الثقافة التي شربناها حتى الثمالة، والحبّ الرائع الوارف، الذي كان في لندن، لكنه بغدادي خالص المعنى والمبنى!
ثم في الأصدقاء والأساتذة الذين تعلمتُ منهم أكاسير الحياة، وتجاديف التجربة ومسالك المعرفة، وهذا دينٌ للعراق أو ديونٌ لا تعدُ ولا تردُ ولا يحتملها شخصي الضعيف.
أما دينُ الرئيس السابق، السيد صدام حسين، فهو يستحقُ الرواية، بعد أن هدأت العقول، وأنى لها أن تهدأ؟ وصَفَت النظرات، وكيف لها أن تصفو؟ فقد تفضل ودعاني إلى بغداد قبيل حرب الخليج الثانية بشهور، وكنتُ وقتها أشغلُ منصب رئيس تحرير «الشرق الأوسط»، واتخذتُ موقفاً مؤيداً للعراق في حربه ضد إيران، لأسبابٍ سعوديةٍ وخليجيةٍ بحتةٍ لا علاقة لها عرقياً أو طائفياً.
اُستقبلتُ في بغداد، وظللت أنتظرُ خمسة أيام كانت عليّ صعبة، لا لأن القلب والعقل لا يعشقان بغداد، بل لأنني لا أستطيعُ أن أبقى بعيداً عن مقر عملي، في وقت لا أعرفُ متى وأين سأقابل الرئيس؟
سكنتُ في فندق الرشيد، وفي ضيافة الحكومة العراقية، وبعد انتظارٍ ذهبتُ إليه في طائرة خاصة تقلني من مطار المثنى بعد تجريدي من أملاكي والحقيبة العملية، وكنتُ قبلها أتناول الغداء والعشاء على حساب العراق، ومن ثمّ زرته مرةً ثانية قبيل الحرب المشؤومة.
بعد نهاية اللقاء عدتُ إلى بغداد على ذات الطائرة، التي اصطحبني عليها المفكر البعثي الأستاذ سعدون حمادي.
هل انتهت القصة؟
لا!
اتصل بي شخصٌ ظهر ذلك اليوم، وقبل السفر، وقال لي ان معه هدية الرئيس يريد أن يسلمني إياها!. والحق أنني أصبتُ بارتباكٍ شديد، ولم يكن الارتباك ناتجاً عن نزاهة الصالحين وطهارة القديسين! فلا أبرئُ نفسي، والنفسُ أمارة بالسوء، ولكن قوانين الشركة التي أعمل فيها تمنع لمس الهدايا أو أخذها، ولأنني ابنُ صحراء الجزيرة التي أنتجت الضب والظباء.. جعلتُ أضربُ أخماساً بأسداسٍ، كيف أتصرف؟
هل أعتذر عن عدم قبول الهدية، أم أقبلها ثم أعيدها عندما أصل إلى لندن أو أسلمها إلى الشركة التي أعملُ فيها؟!
عندما نزلت إلى صالة الاستقبال، كانت يد عقيد في الجيش تمتد لي من قامة فارعةٍ، وقال بأدبٍ عراقي مشهود: هاك هدية السيد الرئيس، حفظه الله، مع تحياته وسلامه لك. تناولتُ الظرفَ الكبيرَ، بيدٍ لا تخلو من الارتعاش، ومئات الأطياف تدور في بالي ودعوته للجلوس، وفتحتُ الظرف أمامه، ويا للمفاجأة الطيبة، كانت ألبوماً من الصور التي التقطت للرئيس أثناء المقابلة. تنفستُ الصعداء، وعدتُ إلى لندن وأنا أشعر بالاعتزاز، لأنني خرجتُ من بغداد بلا هدية عدا صوري مع الرئيس.
ومضت الأيام والسنوات وكنتُ في حديث مع الصحافي العراقي اللامع سعد البزاز، وتذاكرنا بعض الأمور، قال لي: تعال أتذكر هدية الألبوم؟ قلت وما هدية الألبوم؟
قال انه جرت العادة أن الصحافي الذي يقابل الرئيس يعطى مائة ألف دولار، أما في حالتك فكانت قصة! تداول المسؤولون في الكيفية التي تُكَرَّم فيها، فأصيبوا بحيرة لأن الصحافي رئيس تحرير جريدة «الشرق الأوسط».
قالوا: كيف نعطي صحافياً محسوباً على الملك فهد بن عبد العزيز مائة ألف دولار؟! قد لا يقبل وقد يعتبرها أقل، ثم هو في لندن ولا نستطيع أن نهدي له سيارة. وتداول الجميع الأمرَ، ثم رُفع إلى ولي الأمر، فجاء التوجيه بأن يكتفى بألبوم صورٍ لأنه سيقدرها أكثر!
لا أعلمُ لو أعطيت المائة ألف دولار في ذلك الحين أو بعد حين، كيف سأتصرف؟ فمن الصعب أن يدّعي الإنسان الطهارة والعفة.
لكن الحال يقتضي أن أسجل ما حدث لي، وما أنا مدين به للشعب العراقي ـ الذي يحكم نفسه خلفاً لصدام حسين ـ بما انفقه من خزينته علي... وهكذا فأنا مدين للحكومة الديمقراطية المنتخبة بما يلي:
تكلفة إقامة خمسة أيام في فندق الرشيد، ثمن تذكرة طائرة بغداد ـ البصرة/ البصرة ـ بغداد، بالاضافة الى المبالغ التي دفعها السيد لطيف نصيف جاسم، وزير الإعلام آنذاك، الذي تفضل مشكوراً بمرافقتي لأكثر من مطعم ودفع الحساب عني، وكذلك زرتُ الأستاذ المرحوم فاضل البراك، الذي قتله صدام وإخوته في ما بعد، وتناولت الطعام عنده.
وسوف أكونُ سعيداً أن أسددَ هذه المبالغ، عندما تنتخب الحكومة العراقية الشرعية، وربما كنتُ أكثر سعادة لو رأيت الزملاء والأصدقاء ممن لديهم التزامات سابقة مثلي أن يبادروا إلى سداد المبالغ التي حصلوا عليها أو أنفقت عليهم من أموال الشعب العراقي!
دعوني أحلم أن نفعل ذلك، كرجال إعلام... نتصرف بفروسية، أو نعترف على الأقل، حتى ننجز قدراً من الشفافية في تعاملنا مع ذواتنا، ومع شعب العراق.
ولنترجم حماستنا مع شعب العراق، وتصدينا للنيابة عنه في العمل والتفكير والوطنية إلى ما يعتبر مبادرة مشكورة، لإعادة أمواله التي هو في أمس الحاجة إليها.