عبد الناصر فيصل نهار
&
&

عدت من الشام مطلع الشهر الحالي بعد زيارة قصيرة جاوزت الأسبوعين بقليل، ورغم ذلك، فقد أيقنت ومنذ أن وطأت قدماي مطار العاصمة السورية، وعلى الرغم مما كتبه ويكتبه المتشائمون والحاقدون، أيقنت أن ربيع دمشق قد أينعت بعض ثماره وحان قطافها هذا الصيف، أما بقية الثمار فلكل منها موعدها الذي لن يطول بكل تأكيد.
فبعد ثلاثة أعوام من تولي الدكتور بشار الأسد الرئاسة في سوريا، تتضاعف يومياً دعوات الإصلاح والصلاح، وتشهد البلاد أفكاراً تؤخذ بالحسبان وأعمالاً يجري تنفيذها على قدم وساق بالتشاور مع أهل الخبرة والاختصاص. وينظر القطاع الأوسع من المواطنين السوريين إلى التغييرات الإصلاحية على أنها خبز المستقبل، ويصحون كل صباح على أمل صدور مزيد من القرارات التي تساعدهم على تحسين أوضاعهم المعيشية ورفع مستوى التحصيل العلمي لأبنائهم وإيجاد فرص عمل كريمة لهم، وتحقيق مزيد من التقدم لبلادهم التي لم يتخلوا عنها في أيام الشدة وصمدوا معها تجاه كل المتغيرات الإقليمية الدولية بفضل سياسة دبلوماسية حكيمة قل نظيرها وغيرة وطنية نادرة، في وقت توقع فيه كثيرون أن تنهار البلاد فور انهيار دول إقليمية وعالمية عظمى، فسقط الاتحاد السوفييتي ولم تسقط سوريا، وانهار العراق ولن تنهار سوريا.
كان لصدور العديد من المراسيم والقرارات والتشريعات التي تهدف لخدمة الوطن ومواطنيه، والبدء بتنفيذ الخطط التنموية والخدمية رغم العديد من المعوّقات التي تعترضها، الدور الأساسي الذي مهّد لرعاية الربيع الدمشقي خلال السنوات الثلاث الماضية، وساهم في بقاءه حياً على عكس ما أورده بعض من كان لهم أغراض خاصة أو ممن ليس لهم أي أغراض واضحة.
ولعل أولى ثمار الربيع الدمشقي هذا الصيف ما أعلنه أخيراً الرئيس السوري الدكتور بشار الأسد من أن عملية الإصلاح في البلاد ستكون في مقدمة المهام المنوطة بالحكومة المرتقب تشكيلها خلال الفترة المقبلة. حيث وجه الرئيس الأسد بضرورة توخي الدقة والموضوعية واعتماد معايير علمية للتقييم والترشيح للحقائب الوزارية بما يلبي تطلعات الشعب. وأكد الرئيس السوري ضرورة وضع الآليات المناسبة لإنجاز الإصـلاح الإداري باعتباره المدخل الأساسي للإصلاح في المجالات الأخرى كافة.
وقد تعززت القناعات الشعبية بحصول تغيير حكومي بعد الانتقادات التي وجهها أعضاء مجلس الشعب أخيراً إلى البيان الحكومي، وإشاراتهم الواضحة لوجود مشاكل في أداء عدد من الوزراء الحاليين.
وسيكون لقرار القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي الأخير الأثر الكبير في التشكيلة السياسية للحكومة المقبلة، وذلك على أساس تنفيذ مبدأ اختيار الأكفأ بصرف النظر عن الانتماء السياسي، إذ أن دور الحزب القائد كما ورد، هو التخطيط والإشراف والتوجيه والمراقبة والمحاسبة، وليس التدخل اليومي في عمل مؤسسات ومديريات ودوائر الدولة.
وصحيح أن ما بادر إليه حزب البعث هو خطوة أولى غير كافية، إلا أن القرار المتخذ ليس بالقرار السهل، بل هو قرار كبير بكل معنى الكلمة وستكشف الأيام مدى أهميته، خاصة في ظل الوضع الإقليمي والدولي الذي يجعل من تسريع الإصلاحات وتوسيعها ضرورة وأساساً.
الصحافة السورية، الرسمية وغيرها، تتحدث باستمرار عن ضرورة تطبيق إصلاحات سياسية تتوازى مع الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية، ولن يوقف إغلاق الدومري وإقالة دياب مسيرة الحرية الصحافية القادمة. ولعل التصريحات التي أدلى بها فهد دياب المدير العام السابق لصحيفة الثورة بعد إقالته، والخطابات النارية التي أطلقها علي فرزات بعد إغلاق ساخرته " الدومري "، هي أبلغ مثال على حرية وديمقراطية تشهدها البلاد، وهي تصريحات قد تسبب الكثير من المصاعب لأصحابها في كثير من الدول التي تتشدق بالديمقراطية وتفرد مساحات واسعة في صحفها لانتقاد أي همسة خاطئة في سورية. وهذا بالطبع لا ينفي حقيقة ما تحمله تلك القرارات من احتمالية كبيرة للخطأ، حتى وإن توقفت الدومري عن الصدور لمدة ثلاثة أشهر.
وليس صحيحاً ما قالته المنظمة العربية لحرية الصحافة، من أن حرية الصحافة مهمة مستحيلة في سورية، هناك مصاعب ومتاعب ومعوقات ورؤية غير صحيحة تتمثل خصوصاً في منع دخول بعض الصحف والكتاب وإغلاق بعض مواقع الأخبار والرأي على شبكة الإنترنت، لكن كل ذلك لا يعني ضرورة التحول الفجائي إلى الحرية الكاملة والديمقراطية الكاملة التي لا توجد حتى في مدينة أفلاطون.
المجتمع السوري كما تؤكد "النور" الناطقة باسم الحزب الشيوعي السوري، يعيش هذه الأيام حالة مخاض استثنائية لم تشهد لها البلاد مثيلاً منذ أمد بعيد، وتتميز برغبة مخلصة في مراجعة موضوعية للتجربة السابقة في ضوء المتغيرات، ونقد جريء للذات، وبحوارات واسعة تنخرط فيها أوسع القوى الاجتماعية والسياسية والمؤسسات الإعلامية، وتستهدف تسليط الأضواء على ما تراكم من نواقص وأخطاء وخلل، وما اتسع من ثغرات من أجل إزالتها أو سدّها. كما تستهدف إبراز عوامل القوة في المجتمع من أجل تعزيزها والاستناد إليها في تحصين البلد، وتمتين وحدته الوطنية وتمكينه من مجابهة التحديات الكبرى والخطيرة الماثلة أمامه وتلك التي تنتظره والقادمة لا محالة.
إن أي مراقب موضوعي نزيه لا يمكن له إلا أن يرى في هذا الذي يجري حالة صحية بامتياز، فالمصارحة الصادقة الموضوعية، عبر حوار وطني مسؤول، وليس النفاق المعروفة أغراضه، هي المنطلق الصحيح والمضمون لتحديد طريق الإصلاح المطلوب ومقوماته والنجاح في تحقيقه.
ما لاحظته في البلاد خلال زيارة قصيرة لها، أحرى بأن أدونه في صفحات مطولة لتكون شاهداً على ربيع دمشقي مزهر وصيف دمشقي مثمر، صفحات للذكرى والأجيال وللتاريخ الفاصل بين زمنين كلاهما مشرق، وثانيهما يحمل المزيد من عناصر القوة والتقدم والوحدة الوطنية.
لذلك فلن أتحدث عن المعاملة اللائقة للسوريين والعرب والأجانب والسرعة في تنفيذ إجراءات قدومهم ومغادرتهم في مطار دمشق الدولي، ولا عن ارتفاع معدلات السياحة بشكل ملحوظ، وهي كلها ملاحظات قد لا يعيرها البعض أي اهتمام، لكنها تعني الكثير لدى الكثيرين من ذوي المتابعة والتدقيق.
لن أتحدث عن الطريقة الحضارية التي تم بها إعلان نتائج الثانوية العامة، ولا عن ارتفاع معدلات النجاح أسوة بالدول المجاورة، ولا عن انتشار أحدث وسائل التكنولوجيا والاتصالات التي أصبحت في متناول معظم أبناء البلد..
لن أتحدث عن استيعاب جميع طلاب الشهادة الثانوية الناجحين في معاهد الدولة وجامعاتها، ولا عن التعليم الموازي الذي يحقق مصالح عدة في آن، ولا عن بدء الجامعات الخاصة بالعمل في البلاد، ولا عن الجامعة الافتراضية الأولى من نوعها في الشرق الأوسط. ولن أتحدث كذلك عن المشاريع التي يجري تنفيذها لتأمين فرص العمل للشباب ومساعدتهم في الحصول على سكن مناسب.
لن أتحدث عن إطلاق الأحزاب لصحفها، والسماح لها بإشهار مكاتبها في الشوارع والأحياء، ولا عن التأكيدات بالسعي لإدخال أحزاب جديدة، ولا عن السماح لمنظمات حقوق الإنسان بقدر وافٍ من الحرية وسهولة التحرك والأداء.
لن أتحدث عن إتاحة حرية السفر واستقبال المعارضين على أرض الوطن والسماح بقيام المنتديات والمؤتمرات وانتقاد الحكومة، ولا حتى عن ضعف تدخل أجهزة الأمن والمخابرات في الشؤون العامة والخاصة.
ولن أتحدث عن المراقبة الدائمة لجميع مؤسسات الدولة ودوائرها وموظفيها كباراً وصغاراً، بما فيها التابعة للجيش والقوات المسلحة والأمن، من أجل ضمان النزاهة في التعامل والجودة في الأداء. ولا عن الأفكار المتداولة بكثرة لتخفيض فترة الخدمة العسكرية، وبما يتناسب مع التحصيل العلمي والشهادات العليا التي يحملها المطلوبون للخدمة.
لن أتحدث عن كل ذلك، ولن أسهب في وصفه، ولن أذكر المزيد، فما ذكرته قد لا يرضي الكثير من أبناء البلد الغيورين على وطنهم، وبالتأكيد لن يقنع معظم السوريين الذين يأملون بالمزيد والمزيد من الإصلاحات وفي ذهنهم فقط التطلع الدائم نحو الأفضل وعدم السماح لأي جهة خارجية بالإساءة لوطنهم. وليس تصويت أكثر من 97% من السوريين لصالح مواطنتهم رويدا عطية في برنامج "سوبر ستار" المستقبلي، وإتاحة تجار الشام التصويت المجاني لها عبر خطوط الهاتف، وعلى الرغم مما قد يثيره ذلك من عدم استساغة لدى البعض، إلا أبسط دليل على الغيرة والوطنية.
حقيقة فقد زرت الشام وغادرتها وكأنها ثوان معدوات بل أقل بكثير، حضنتها واحتضنتني بقوة، قبلتها وودعتها فاشتقت لها وأنا لم أزل على أرضها، وما زال نزار قباني يسمعني:
هذي دمشقُ.. وهذي الكأسُ والرّاحُ &&إنّي أحبُّ... وبعـضُ الحـبِّ ذبّاحُ
أنا الدمشقيُّ.. لو شرحتمُ جسدي &&لسـالَ& منهُ عناقيـدٌ.. وتفـّاحُ
مآذنُ الشّـامِ تبكـي إذ تعانقـني &&و للمـآذنِ.. كالأشجارِ.. أرواحُ