د. احسان الطرابلسي
&
&

&
ظهرت قوة المثقفين وفعاليتهم وتأثيرهم على الرأي العام وعلى صُنّاع القرار، من خلال تصدي كتّاب "إيلاف" على وجه الخصوص للفتوى الزائفة التي أصدرها الأزهر يوم 19 من الشهر الجاري، ووقعها كل من رئيس لجنة الفتوى في الأزهر الشيخ محمد حسين وعضو اللجنة الشيخ نبوي محمد العش، بشأن معاداة مجلس الحكم العراقي، وعدم التعامل معه، وتكفير كل من يقترب منه أو يعترف به، وكأنه رجس من عمل الشيطان!
فالتصدي الرائع والفعّال والعقلاني الذي قام به كتّاب "إيلاف" المختلفون وعلى رأسهم شاكر النابلسي في مقاله الجريء والشجاع (شيوخ الأزهر بين الدين والسياسة، إيلاف، 28/8/2003)كان له أثره المباشر على تراجع الأزهر عن فتواه السيئة تلك. ولم يكتفِ الأزهر بالتراجع عن فتواه تلك، بل نفى شيخ الأزهر سيد طنطاوي صدور مثل هذه الفتوى المشينة عن الأزهر، والتي تحرّم الاعتراف بمجلس الحكم الانتقالي العراقي. وقول شيخ الأزهر في تصريحات للصحافيين: "ان الفتوى التي صدرت من أحد أعضاء لجنة الفتوى بالأزهر لا تمثل الأزهر ، وانه ليس من حق أي عالم مصري ان يتحدث في شأن اي دولة اخرى."
وهو ما يعني عدم تدخل الأزهر في الشؤون السياسية للدول الأخرى.
&كذلك لم يكتفِ شيخ الأزهر بهذا كله، بل هو أوقف الشيخ العش المسؤول عن هذه الفتوى عن العمل، بعد أن كان قد ألغى هذه الفتوى. وقد أثار هذا الاجراء النبيل والشريف الذي اتخذه شيخ الأزهر حفيظة فلول صدام من الإعلاميين الذين ما زالوا يبكون صدام وعطاياه، وقد أصبحوا اليوم أيتاماً، فكتبوا يلومون الأزهر عن تراجعه، علماً بأنهم في الأمس هللوا، وكبروا، وعظّموا فتوى الأزهر المتهافتة والمتهالكة التي كانت ككلام الليل الذي يمحوه النهار الصادق.
&فكتب عبد الباري عطوان الناطق والمفتي الإعلامي باسم النظام المدحور والمقبور في العراق، وباسم اسامة بن لادن، وباسم الجماعات الأصولية الدينية المسلحة، وباسم كل مخرب وارهابي في العالم العربي، يقول تحت عنوان (قرار مخجل لشيخ الأزهر)(القدس العربي 29/8/2003):

"ان هذا الموقف المخجل يضيف نقطة سوداء أخرى في سجل الشيخ الطنطـــاوي، ويشكل اساءة فاضحــة للازهــــر وتاريخه المشرف. ولعل الخطيئة الكبرى التي وقع فيها الشيخ الطنطاوي تلك التي تحرّم علي علماء الازهر أو غيرهم من أبناء الدول الاسلامية الأخرى اصدار فتاوي تخص شعوباً غير شعوبهم. إن الشيخ الطنطاوي لا يسمع لغير قيادته السياسية، وما يصدر عن السفارة الامريكية من توجيهات وأوامر لها وله. والسياسة الخارجية لمصر تعيش هذه الايام مرحلة من التدهور غير مسبوقة في التاريخ الحديث، والشيخ الطنطاوي هو أحد أبرز رموز هذه المرحلة."
&
فما يعني هذا التراجع من مشيخة الأزهر، وماذا يعني لطم اللاطمين على هذا التراجع واستنكارهم له؟
إن لهذا كله معانٍ كثيرة، منها:
&
1-&&&& أن الأزهر أصبح مؤسسة سياسية بالفعل كما قيل، وهي مركب ديني تُسيّره رياح السياسة المصرية أينما توجهت هذه الرياح. ويبدو أن شيوخ الأزهر لم يجيدوا تفسير زيارة وفد مجلس الحكم العراقي الأخيرة لمصر والجامعة المصرية (العربية). فارتكبوا هذا الخطأ. وكان مركبهم الديني يُبحر مع الرياح التي كانت قبل هذه الزيارة، ولكنهم لم ينتبهوا إلى جهة مهب الرياح السياسية الجديدة.
2-&&&& أن فتاوى الأزهر السياسية تصدر جُزافاً، دون تنظيم أو رابط، ودون نقاش، أو تداول، أو أدلة، أو براهين، أو حتى اطّلاع شيخ الأزهر عليها قبل صدورها. وهذه الفوضى التي تعمّ دائرة الفتوى بالأزهر والتي تعتبر من أهم الدوائر الأزهرية يجب تنظيمها، ويجب أن يكون باسم الأزهر ناطق اعلامي ينطق باسمه، وهو المفوض الوحيد باعلان الفتاوى السياسية، وغير السياسية.
3-&&&& إن فتاوى الأزهر السياسية لا تؤدي إلا إلى تفريق صفوف المسلمين، وزرع العداوة والضغينة بينهم. وها هي الفتوى الأخيرة المزعومة الداعية إلى مقاطعة مجلس الحكم العراقي قد شقّت صفوف المسلمين، وزرعت الفتنة بينهم، ودفعت فلول "القاعدة" السُنيّة إلى اغتيال مرجعية شيعية، وهو المجاهد الأكبر السيد محمد باقر الحكيم الذي راح ضحية التعصب الديني والمذهبي الذي تغذيه بعض فتاوى الأزهر السياسية.
4-&&&& أن فتاوى الأزهر السياسية لا تساوي شيئاً ولا يلتفت اليها سياسياً، "بل هي لا تساوي ثمن الورق الأصفر التي كتبت عليه"، كما قال شاكر النابلسي في مقاله المشار إليه. ولذا فلا يُعتدُّ بصدورها أو بالغائها. فالأزهر ليس مؤسسة سياسية لكي يُعتدُّ بمواقفها وآرائها السياسية. ولقد صدق شيخ الأزهر عبد الرحمن الشربيني عندما قال في عام 1905 في صحيفة "الجوائب" المصرية من أن "غرض السلف من تأسيس الأزهر اقامة بيت لله يعبد فيه، ويؤخذ فيه شرعه، ويؤخذ الدين كما تركه لنا الأئمة الأربعة. وأما الخدمة التي قام بها الأزهر للدين ولا يزال يؤديها فهي حفظ الدين لا غير. وما سوى ذلك من أمور الدنيا فلا علاقة للأزهر به، ولا ينبغي له." وقد ظل الأزهر بعيداً عن السياسية وأوحالها على هذا النحو إلا أن برزت جماعة الإخوان المسلمين في عام 1928 واقحمت الأزهر في السياسة هذا الاقحام الذي أضرَّ كثيراً برسالة الأزهر الروحية.
5-&&&& أن تدخل الأزهر في السياسة، يعني دخول الأزهر في أوحال هذه السياسة وصراعاتها أيضاً. وعلى الأزهر أن يكون بعيداً عن الفتاوى السياسية والمواقف السياسة، ويترك السياسة وشؤونها للسياسيين المحترفين.
فالدين ثوابت، والسياسة متحركة.
والدين لا يحتاج إلى البحث لكي يصل إلى المعرفة، والسياسة لا تعرف إلا إذا بحثت.
والدين قديم، والسياسة جديدة.
والدين عقيدة وايمان، والسياسة مصالح ومنافع.
والدين لا يَسأل ولا يُسأل، والسياسة سيدة السؤال.
6-&&&& إن تدخل رجال الدين في السياسة يعرّضهم للمصائب، والأهوال، والسجن، والتعذيب، وربما للموت مثلهم في ذلك مثل السياسيين. وقد رأينا ما حلَّ بشيوخ جماعة الإخوان المسلمين. فقد قُتل حسن البنا مرشدهم الأكبر، وشُنق سيد قطب، وسُجن الهضيبي وغيره، وعُذبوا. وقُتل وسُجن زعماء الجماعات الإسلامية الأخرى عندما دسوا أنوفهم في السياسة. وآخر شهداء السياسة من رجال الدين كان الشهيد الراحل بالأمس آية الله السيد محمد باقر الحكيم، ومحاولة الاغتيال الفاشلة التي تعرّض لها آية الله السيد محمد سعيد الحكيم، واغتيال السيد عبد المجيد الخوئي، واغتيال الشهيد محمد صادق الصدر الذي اغتاله النظام المدحور والمقبور مع نجليه في العام 1999، وكوكبة كبيرة من رجال الدين الذين تحولوا إلى سياسيين.
7-&&&& كان على الأزهر بدل تدخله في السياسة المصرية والعربية على هذا النحو، واصدار الفتاوى السياسية عن غير وعي أو ادراك، أن يلتفت إلى الجوانب الإنسانية والاصلاح الاجتماعي المصري والعربي. فيساعد مثلاً على محو الأمية في مصر والعالم العربي، ويساعد المرأة المسلمة على نيل مزيد من حقوقها،ويكشف عن الفساد في الحكم والإدارة، ويفضح الفاسدين، ويعاضد حقوق الإنسان في مصر والعالم العربي، ويشجع على حرية الثقافة، ويقيم الحوارات بين الأديان والحضارات.. الخ. فذلك أجدى للأزهر من الخوض في أمور السياسة التي لم تعُد هذراً ولا شعارات، بل أصبحت علماً ومعلومات، وهي غير متوفرة لدى شيوخ الأزهر الذين يتصدون للقضايا السياسية.
8-&&&& أما ما قاله عبد الباري عطوان (الإمام الإعلامي الإرهابي) لبقايا مماليك البعث في العراق، وفلول ابن لادن، ولكل ارهابي أفّاق ينشر الموت والدمار في العراق وفلسطين، فهو الأفك بعينه، وهو الجريمة الكبرى بعينها. وأن دم كل ضحية من ضحايا الارهاب في افغانستان والباكستان ومصر وفلسطين والجزائر والمغرب والسعودية واليمن والعراق وأندونيسيا وأنحاء متفرقة من افريقيا ونيويورك وواشنطن هي في رقبة عبد الباري عطوان، وكل الإعلاميين العرب الذين يصفقون ويهللون للارهاب الدموي صباحاً ومساءً. وأن أرواح هذه الضحايا سوف تقتص يوماً من هؤلاء الإعلاميين الظلاميين الذين يقفون وراء الارهابيين، بل هم أشد خطورة من الارهابيين أنفسهم، فيما لو يعلم الغرب الذي يحتضن مؤسسات هؤلاء الإعلاميين باسم الديمقراطية، وحرية الرأي، التي استغلها هؤلاء الإعلاميون الظلاميون أسوأ استغلال، وهددوا بها منجزات المجتمع الانساني المتحضر. ولا أدري ماذا تنتظر بريطانيا وأمريكا أكثر من هذا الأذى وأكثر من هذا البغي والتضليل والتحريض الإعلامي الخطير، لكي تغلق هذه الدكاكين الاعلامية الرخيصة التي فتحها الارهابيون للإعلاميين الظلاميين لكي تكون بوقاً لهم، ومنافذ لتصريف أفكارهم، ونشرها من لندن وقطر ودبي وبغداد. فهؤلاء هم الأعداء الحقيقيون للشعب الفلسطيني والشعب العراقي، ولمستقبل الحرية والديمقراطية في العالم العربي لو كانوا يعلمون؟!